الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني في العنعنة عند ابن رجب مقارنا بآراء غيره من العلماء
العنعنة في اصطلاح المحدثين:
العنعنة من عنعن الحديث إذا رواه بـ (عن) من غير بيان التحديث، أو الإخبار، أو السماع، ويلحق بالمعنعن المؤنن، وهو ما روى بـ (أن) من غير بيان التحديث، أو الأخبار، أو السماع كذلك.
ولقد أولت كتب المصطلح هذه الصيغة قدرا من الاهتمام، ودار جدل كثير حولها، وذلك إنما يرجع إلى أنها تحتمل الاتصال، كما تحتمل الانقطاع. وقد اتخذ منها المدلسون وسيلة يتوصلون بها إلى مرادهم، يضاف إلى هذا كثرة الإرسال في الأسانيد المعنعنة.
وأمام هذه المشكلة من مشاكل الاصطلاح تباينت أنظار العلماء، فرأى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه أن المعاصرة والبراءة من التدليس شرطان لا بد من توفرهما لرفع احتمال الانقطاع، وأما البخاري وشيخه علي بن المديني فإنهما يشترطان ثبوت اللقاء، وهو مقتضى كلام الشافعي. وروي عن أبي المظفر بن السمعاني أنه اشترط طول الصحبة بين المعنعن الذي فوقه، وأما أبو عمرو الداني
فيشترط أن يكون الراوي معروفا بالرواية عن المعنعن، واشترط أبو الحسن القابسي إدراك الناقل للمنقول عنه إدراكا بينا.
وما يهمنا من هذه الآراء اثنان: رأي البخاري وابن المديني، ورأي الإمام مسلم الذي حرره في مقدمة الصحيح.
أما رأي البخاري فيتلخص باشتراط ثبوت اللقاء بين الراوي وشيخه، وهذا الرأي استقرأه العلماء من خلال النظر في كتاب البخاري، ورأى بعضهم أن هذا الشرط شرط صحة، لا يصح الحديث إلا به، وهو مقتضى كلام الإمام مسلم في مقدمته ومنهم من يرى أن هذا الشرط هو شرط كتاب، لم يلتزمه البخاري في الأحاديث التي صححها خارج كتابه.
وأما رأي مسلم فيتلخص باشتراط المعاصرة، وهي تساوي إمكان اللقاء، ويضاف إليها البراءة من التدليس.
وفيما يلي عرض لرأي الإمام مسلم، ثم عرض لرأي ابن رجب في هذه المسألة واعتراضه على الإمام مسلم. ثم نورد في ختام هذا البحث ما نرجحه ونراه أقرب وأوفق - إن شاء الله -.
عرض لرأي الإمام مسلم رحمه الله:
"قال الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحة: وزعم القائل الذي افتتحنا الكلام على الحكاية عن قوله، والإخبار عن سوء رويته، أن كل إسناد لحديث فيه: فلان عن فلان، وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به، غير أنه لا نعلم له منه سماعا ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط، أو تشافها بحديث، أن الحجة لا تقوم عنده بكل خبر جاء هذا المجيء، حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا من دهرهما مرة فصاعدا،
أو تشافها بالحديث بينهما، أو يرد خبر فيه بيان اجتماعهما، وتلاقيهما مرة من دهرهما، فما فوقها، فإن لم يكن عنده علم ذلك، ولم تأت رواية صحيحة تخبر أن هذا الراوي عن صاحبه قد لقيه مرة، وسمع منه شيئا، ولم يكن في نقله الخبر عمن روى عنه ذلك حجة، وكان الخبر عنده موقوفا حتى يرد عليه سماعه منه لشيء من الحديث قل أو كثر.
وهذا القول، في الطعن في الأسانيد، قول مخترع مستحدث، غير مسبوق صاحبه إليه، ولا مساعد له من أهل العلم عليه، وذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما وحديثا، أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثا، وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه، لكونهما جميعا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة، إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئا، فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبدا حتى تكون الدلالة التي بينا.
فيقال لمخترع هذا القول الذي وصفنا مقالته، قد أعطيت في جملة قولك أن خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجة، يلزم به العمل، ثم أدخلت فيه الشرط بعد، فقلت حتى نعلم أنهما كانا التقيا مرة فصاعدا، أو سمع منه شيئا، فهل تجد هذا الشرط الذي اشترطته عن أحد يلزم قوله؟ وإلا فهلم دليلا على ما زعمت".
ويطيل الإمام مسلم في عرض هذا الموضوع، ويضيف إلى ما ذكر أمورا منها:
1 -
إن التفتيش عن سماع كل راو عمن روى لم يعرف عن السلف فقال مسلم: "فإن ادعى قول أحد من علماء السلف طولب به ولن يجد هو ولا غيره إلى إيجاده سبيلا".
2 -
ويجيب الإمام مسلم على قول من يرى أن احتمال الإرسال قائم في صيغة العنعنة، ولذلك اشترط التفتيش عن اللقاء أو السماع، ولو مرة واحدة، فيقول:
"فإن كانت العلة في تضعيفك الخبر وتركك الاحتجاج به إمكان الإرسال فيه لزمك أن لا تثبت إسنادا معنعنا حتى ترى فيه السماع من أوله إلى آخره وذلك أن الحديث الوارد علينا بإسناد هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، فبيقين نعلم أن هشاما قد سمع من أبيه، وأن أباه قد سمع من عائشة، كما نعلم أن عائشة قد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وقد يجوز إذا لم يقل هشام في رواية يرويها عن أبيه: سمعت أو أخبرني، أن يكون بينه وبين أبيه في تلك الرواية إنسان آخر، أخبره بها عن أبيه، ولم يسمعها هو من أبيه، لما أحب أن يرويها مرسلا، ولا يسندها إلى من سمعها منه.
وكما يمكن ذلك في هشام عن أبيه فهو أيضا ممكن في أبيه عن عائشة - رضي الله عن ها - ".
3 -
ويذكر الإمام مسلم لتأييد مذهبه طائفة من الأسانيد التي حكم عليها بالصحة مع أن رواتها لم يثبت لهم لقاء بشيوخهم، ولا سماع منهم، فقال:
(فمن ذلك أن عبد الله بن يزيد الأنصاري، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى عن حذيفة وأبي مسعود الأنصاري، عن كل واحد منهما حديثا يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس في روايته عنهما ذكر السماع منهما، ولا حفظنا في شيء من الروايات أن عبد الله بن يزيد شافه حذيفة وأبا مسعود بحديث قط، ولا وجدنا ذكر رؤيته إياهما في رواية بعينها، ولم نسمع من أحد من أهل العلم ممن مضى، ولا ممن أدركنا أنه طعن في هذين الخبرين. ولو ذهبنا نعدد
الأخبار الصحاح عند أهل العلم، ممن يهن بزعم هذا القائل، ونحصيها لعجزنا عن تقصي ذكرها".
ابن رجب يعارض مسلما، وينتصر للرأي المنسوب للبخاري:
وقف الإمام ابن رجب موقف المعارض للإمام مسلم، وساق كلاما طويلا في هذه المسألة ينصر به الرأي المنسوب للإمام البخاري، وفي ذلك يقول:
"وما قاله ابن المديني والبخاري هو مقتضى كلام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم من أعيان الحفاظ، بل كلامهم يدل على اشتراط ثبوت السماع، فإنهم قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم الرواية عن بعض الصحابة، وقالوا مع ذلك لم يثبت لهم السماع منهم فرواياتهم عنهم مرسلة. منهم الأعمش، ويحيى بن أبي كثير، وأيوب، وابن عون، وقرة بن خالد، رأوا أنسا، ولم يسمعوا منه، فرواياتهم عنه مرسلة، كذا قاله أبو حاتم، وقاله أبو زرعة في يحيى بن أبي كثير. وقال أحمد في يحيى بن أبي كثير: رأى أنسا، فلا أدري سمع منه أم لا؟ ولم يجعلوا روايته عنه متصلة لمجرد الرواية. والرواية أبلغ من إمكان اللقى، وكذلك كثير من صبيان الصحابة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح لهم سماع فرواياتهم عنه مرسلة، كطارق بن شهاب وغيره، وكذلك من علم منه أنه مع اللقاء لم يسمع ممن لقيه إلا شيئا يسيرا، فرواياته عنه زيادة على ذلك مرسلة، كرواية ابن المسيب عن عمر - رضي الله عن هـ - فإن الأكثرين نفوا سماعه منه.
وقال أبو حاتم: الزهري لا يصح سماعه من ابن عمر، رآه ولم يسمع منه، ورأى عبد الله بن جعفر، ولم يسمع منه، وأثبت أيضا دخول مكحول على واثلة بن الأسقع ورؤيته له ومشافهته، وأنكر سماعه منه.
وقال أحمد: أبان بن عثمان لم يسمع من أبيه، من أين سمع منه؟ ومراده من أين صحت الرواية بسماعه منه، وإلا فإن إمكان ذلك واحتماله غير مستبعد".
ويواصل ابن رجب عرض أقوال العلماء الذين فتشوا عن السماع، ولم يكتفوا بمجرد المعاصرة، أو حتى اللقى والرواية، ويخلص من هذا العرض بقوله:
"فدل كلام أحمد وأبي زرعة، وأبي حاتم، على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع. وهذا أضيق من قول ابن المديني والبخاري، فإن المحكى عنهما أحد أمرين: إما السماع، وإما اللقاء، وأحمد ومن تبعه لا بد عندهم من ثبوت السماع".
ويقول ابن رجب أيضا: "اعتبار السماع أيضا لاتصال الحديث هو الذي ذكره ابن عبد البر، وحكاه عن العلماء، وقوة كلامه تشعر بأنه إجماع منهم، وقد تقدم أنه قول الشافعي أيضا".
ما يستدل به على عدم ثبوت السماع
وأما الدليل الذي يكشف عدم السماع والاتصال في الرواية، فهو كما يقول ابن رجب أحد أمرين:
1 -
"أن يروي الراوي عن شيخ من غير أهل بلده، ولم يعلم أنه دخل إلى بلده، ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه، ومثاله ما نقله مهنا عن أحمد، قال: لم يسمع زرارة بن أوفى من تميم الداري، تميم بالشام وزرارة بصري، وقال ابن المديني: لم يسمع الحسن من الضحاك بن قيس كان الضحاك يكون بالبوادي
2 -
أن يروي عمن عاصره أحيانا، ولكن لم يثبت عدم لقيه له، ثم يدخل أحيانا بينه وبينه واسطة.
فهذا يستدل به هؤلاء الأئمة على عدم السماع، ومثاله: قال أحمد: البهي ما أراه سمع من عائشة إنما يروى عن عروة عن عائشة. وقال في حديث زائدة