الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الناحية الثانية من المؤثرات الاجتماعية: فهي الأوبئة والمجاعات:
وما كان يتعرض له الناس في هذا القرن من الأوبئة والمجاعات فإن الحديث عنه يطول، ولا بد أن يكون لهذه الأوبئة أثرها على النفوس، فتوجهها نحو بارئها بالتضرع والخشية كلما قسمت القلوب، أو طال عليها الأمد. فهذا طاعون سنة 749هـ ملأت مآسيه الصفحات، وما أصاب الناس من جرائه من العنت سجله المؤرخون، وعلى رأسهم عماد الدين بن كثير فقال:"وكثر الموت في الناس بأمراض الطواعين، وزادت الأموات كل يوم على المائة، وإذا وقع في أهل بيت لا يكاد يخرج حتى يموت أكثرهم، ثم زاد الموتى على المائتين في كل يوم، وتعطلت مصالح الناس". ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يزداد الضنك على الناس حتى تكاد القلوب تخرج من صدورها، فيقول ابن كثير:"وفي يوم الاثنين ثاني عشر رجب حصل بدمشق وما حلوها ريح شديدة، أثارت غبارا شديدا، اصفر الجو منه، ثم اسود، حتى أظلمت الدنيا، وبقي الناس يستجيرون الله، ويستنصرون، ويبكون، مع ما هم فيه من شدة الموت، وبلغ المصلى عليهم في الجامع الأموي نحو المائة وخمسين".
ويودع الناس هذا الموت الأسود، ويتنفسون الصعداء، وما إن تهل عليهم سنة 765هـ حتى تأتي موجة أخرى منه، يصاحبها الجراد والغلاء، يقول ابن كثير:"واستهل شهر شوال سنة 765هـ والجراد قد أتلف شيئا كثيرا من البلاد، ورعى الخضراوات والأشجار، وأوسع أهل الشام في الفساد، وغلت الأسعار واستمر الفناء، وكثر الضجيج والبكاء، وفقدت كثيرا من الأصحاب والأصدقاء".
(ج) الحالة العلمية
شهد العصر المملوكي بشكل عام، والقرن الثامن بشكل خاص، حركة علمية، ناشطة، ولقد كان هذا النشاط فريدا في كميته ونوعيته، ويبدو أن
السبب الرئيس في هذا النشاط هو التحدي الحضاري الذي بدأت الأمة الإسلامية تمارسه ردا على الموجات المغولية والصليبية، فبدأت الأمة تلقي بكل ثقلها لتثبت ذلك، وأنها لم تمت. ولعل هذا من الأسباب الكامنة، وراء إنشاء الكثرة الكاثرة من المدارس العلمية في كل مكان، حتى أنه لقد أصبح شغل أهل العصر الشاغل كيف يبنون المدارس، وماذا يقفون عليها من الأوقاف.
ويرجع الكثير من إنشاء هذه المدارس إلى عهد نور الدين زنكي، وصلاح الدين، اللذين وجدا في المدرسة حصنا يحفظ على الأمة شخصيتها في وجه كل التحديات الصليبية من جهة، والفاطمية والباطنية من جهة أخرى.
وقد كانت المدارس العلمية التي أنشئت في هذا العصر على درجة عالية من التنظيم والإدارة، ذات أهداف بينة ومناهج محددة، وكان لكل مدرسة شيخ، وفيها العدد الجم الغفير من المدرسين والمعيدين والإداريين، والخدم، وربما كان بعض هذه المدارس يفوق في إمكانياته جامعات هذا العصر وكلياته.
فهذا ابن كثير يذكر في تاريخه في حوادث سنة 724هـ نبذة عن المدرسة الناصرية، بالقاهرة، فيقول: كان عدد المدرسين ثلاثين في كل مذهب، فجعلهم السلطان أربعة وخمسين.
ولا يحتاج هذا الخبر إلى تعليق لبيان إمكانية هذه المدرسة.
أما المدرسة السكرية بدمشق، والتي كان شيخنا ابن رجب يسكن فيها فقد عين لهذه المدرسة ثلاثون محدثا لكل منهم جراية شهرية، وقرر فيها ثلاثون نفرا يقرأون القرآن، لكل عشرة شيخ، ولكل واحد من القراء نظير ما للمحدثين، ورتب لها إمام، وقارئ حديث، ونواب. وقد تعاقب على مشيخة هذه المدرسة عبد الحليم بن تيمية، ثم أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الإمام المشهور، ثم الذهبي.
وقد كان في دمشق - وحدها - وحيث يقطن ابن رجب ثلاثمائة وخمسون مدرسة، منها ثماني عشرة دارا للحديث، وإلى جانب هذا العدد من المدارس وجد الكثير من الخوانق والربط والمساجد، وكلها تساهم في نشر الثقافة والعلم.
وقد تجاوزت هذه الحركة العلمية رجال هذا العصر إلى نسائه لنجد العالمات والمسندات والفقيهات، وقد تتلمذ على كثير منهن مشايخ هذا العصر الأجلاء ومنهن ست العز بنت محمد بن الفخر المسندة (ت 767هـ) ، التي سمع منها الحافظان العراقي والهيثمي، والمقرئ ابن رجب والد شيخنا عبد الرحمن. وكزينب بنت إسماعيل بن الخباز، التي تتلمذ عليها العراقي، وعبد الرحمن بن رجب، ومعظم مشايخ العصر.
وأما مشاهير علماء هذا العصر فإنه يصعب حصرهم لكثرتهم، فقد امتلأت المدن والحواضر بكبار العلماء، وحتى القرى النائية والأمصار المهجورة كان عندها من العلماء من يسد حاجتها، وتفيض به على غيرها.
ومن مشاهير علماء هذا العصر: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (ت 728هـ) صاحب الفتاوى، ومنهاج السنة، والحسبة، والسياسة الشرعية وغيرها كثير من الكتب، والقاسم بن محمد البرزالي (ت 740هـ) محدث الشام، وصاحب التاريخ، والمعجم الكبير، والحافظ جمال الدين المزي (ت 742) صاحب تهذيب الكمال، والحافظ محمد بن قايماز الذهبي (ت 748هـ) ، عالم التاريخ الموسوعي، وعالم الحديث، وصاحب الكتب الكثيرة كتاريخ الإسلام، وسير أعلام النبلاء وميزان الاعتدال، وغيرها كثير، والحافظ عماد الدين بن كثير (ت 774هـ) صاحب التاريخ، والتفسير، وأحمد بن فضل الله العمري الدمشقي إمام أهل الأدب، والتاريخ، والجغرافيا، والاصطرلاب، ومسالك الأبصار له معلمة تاريخية كبرى، وصلاح الدين
خليل بن أيبك الصفدي (ت 764هـ) صاحب الوافي بالوفيات.
أما الذين عاشوا عامة هذا العصر ولكن وفياتهم كانت في القرن التاسع فهم كثيرون مثل الحافظ العراقي (ت 806هـ) والهيثمي (ت 807هـ) ، وابن خلدون (808هـ) القلقشندي (ت 803 هـ) وابن الملقن (ت 805هـ) .
ولقد قدم علماء هذا القرن موسوعات علمية في كل المجالات التاريخية، والفقهية، والحديثية، والأدبية، والجغرافية. ومن يستعرض بعض هذه الموسوعات ير أنها عنوان تحد كبير من هذه الأمة لأعدائها، ورد فعل للمحاولات التي بذلها المغول والصليبيون لطمس الحضارة الإسلامية. والباحث في هذه الموسوعات يخيل إليه كأن العلوم قد نسيت فوقف أهل هذا العصر أنفسهم على جمعها، وتبويبها وعرضها من جديد، وتحمل هذه الموسوعات بين طياتها الثقافة المتكاملة التي حفظت شخصية الأمة أمام أشرس الهجمات.