الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني معرفة العلل والكشف عنها من خلال كتاب ابن رجب
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معرفة العلة
.
المطلب الثاني: وسائل الكشف عن العلة. ***
المطلب الأول معرفة العلة
ذكر ابن رجب في شرح علل الترمذي أن مجال العلة - في الأغلب والأكثر - حديث الثقات، وذلك لأن رواية الثقة للحديث تكسبه في الأصل صفة الصحة الظاهرة، والسلامة التي تجعله مقبولا محتجا به، ولكن ليس عجيبا أن يفاجئنا رجل العلل بما لديه من الوسائل العلمية والمعرفة الحديثية بكشف ما يقدح في هذه السلامة الظاهرة، وإذا بالحديث بعد الصحة معلولا، وبعد القبول والاحتجاج به شاذا لا يستند عليه ولا يحتج به. وإذا كان الأمر كذلك، فهل لنا أن نتعرف على وسائل النقاد وجوانب معرفتهم الحديثية التي مكنتهم من ارتياد هذا المجال؟
وقبل الشروع في الكلام عن وسائل الناقد رجل العلل في كشف العلة وتبينها، لا بد من عقد مناقشة لما شاع على ألسنة كبار النقاد أثناء وصفهم لهذا العلم بأنه أقرب إلى الكهانة والعرافة لغموض أسبابه وخفاء طرائقه، وكأنه معرفة
نفسية أو وجدانية أكثر منه معرفة عقلية علمية، وفي هذا يقول إمام من أئمة هذا الفن، وهو عبد الرحمن بن مهدي:"معرفة الحديث الهام، فلو قلت للعالم بعلل الحديث: من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة".
ونقل عن أبي حاتم ما يشبه هذا، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي رحمه الله يقول: جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي من أهل الفهم منهم، ومعه دفتر، فعرضه علي، فقلت في بعضها هذا حديث خطأ، قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح، فقال لي: من أين علمت أن هذا خطأ، وهذا باطل، وأن هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت وأني كذبت في هذا حديث كذا؟
فقلت: لا، ما أدري هذا الجزء من رواية من هو؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأن هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب، فقال: تدعى الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلت: سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم. قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة، قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلت؟ قلت: نعم، قال: هذا عجب، فأخذ فكتب في كاغذ ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجع إلي وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث، فما قلت: إنه باطل، قال أبو زرعة: إنه كذب، قلت: والكذب والباطل واحد، وما قلت إنه كذب، قال أبو زرعة باطل، وما قلت: إنه منكر، قال: هو منكر، وما قلت: إنه صحاح، قال أبو زرعة: هو صحاح، فقال: ما أعجب هذا، تتفقان في غير مواطأة فيما بينكما، فقلت: إنا لم نجازف وإنما قلنا بعلم ومعرفة قد أوتينا. والدليل على صحة ما نقوله: بأن دينارا نبهرجا يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار: هذا جيد فإن قيل له: من أين قلت: إن هذا نبهرج؟ هل كنت حاضرا حين بهرج هذا الدينار؟ قال:
لا، فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه: إني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل: فمن أين قلت: إن هذا نبهرج؟ قال: علما رزقت. كذلك نحن رزقنا معرفة ذلك".
وقد فهم السخاوي من كلام العلماء حول التعليل أنه أمر يهجم على القلب أو هيئة نفسانية لا تدفع، فهو يقول:"والتعليل أمر يهجم على قلوب هؤلاء لا يمكنهم رده وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث، كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر لا ينكر عليهم، بل يشاركهم ويحذو حذوهم، وربما يطالبهم الفقيه والأصولي العاري عن الحديث بالأدلة".
وأرى أن كلام السخاوي هذا - في جعل معرفة العلة هيئة نفسانية وخواطر وجدانية - لا يستفاد من مجموع كلام النقاد، ولا يشهد له هذا العلم، بل يشهد عليه، وهو مرفوض بمنطق مئات الأمثلة والشواهد التي احتوتها هذه الرسالة.
ولابن رجب في شرح العلل عبارة تنقض قوله: قال: "وقد قال أبو عبد الله بن منذة الحافظ: إنما خص الله بمعرفة هذه الأخبار نفر يسيرا من كثير ممن يدعي علم الحديث، فإما سائر من يدعي كثرة كتابه الحديث، أو متفقهه في علم الشافعي وأبي حنيفة، أو متبع لكلام الحارث المحاسبي، والجنيد، وذي النون، وأهل الخواطر فليس لهم أن يتكلموا في شيء من علم الحديث إلا من أخذه عن أهله، وأهل المعرفة به، فحينئذ يتكلم بمعرفته".
أما كلام النقاد - كابن مهدي وأبي زرعة - فإنه يحمل على أن من يجهل هذا العلم لا يمكنه الإحاطة بطرائقه ومعارفه وعناصره، وعرض الدليل
والبرهان يلزم منه وجود من يدركهما لأنهما ثمرة هذه المعارف المتنوعة الشاملة وغير ذوي الاختصاص يكفيهم الحكم المتضمن صحة أو ضعفا أو بطلانا. فإن حرصوا على المزيد فعليهم أن يسلكوا مسلك النقاد في إعداد الرصيد الكافي، فهذا أبو زرعة يقول:"نظرت في نحو من ثمانين ألف حديث من حديث ابن وهب بمصر ما أعلم أني رأيت له حديثا لا أصل له. وعلى القارئ أن يقدر الرصيد الذي يحتفظ به أبو زرعة خلف هذه الكلمات، فقد حفظ لرجل واحد هذا العدد ثم عرض هذا العدد على الأصول، ثم أصدر حكمه بقوله: "ما أعلم أني رأيت له حديثا لا أصل له". ومن لا يحيط بهذا العلم قد يشك في الخبر، فإذا ثبتت له صحته فإنه يقول متى حفظها؟ وكيف عرفها؟ وعلام عرضها؟ وهل عرض كل حديث عند ابن وهب على مئات مثل هذا الحديث عند غيره؟ وأسئلة غير هذه تلح على معرفة الدليل والحجة، ولكن ذلك بعيد المنال على من لا يعرف هذا الفن.
هذا الذي يحمل عليه كلام النقاد عندما يمتنعون عن الاحتجاج لقولهم ويظهر هذا جليا في قول أبي حاتم في بداية قصته التي أوردتها وفيها: "جاءني رجل من أهل الرأي" واهتمامات رجل الرأي غيرها عند رجل العلل الناقد، فإذا كان رجل الرأي لا يدرك الحجة في العلة، فإنه لا يعني خلوها من الحجة والدليل:
ولقد عبر ابن مهدي عن هذا المعنى تعبيرا دقيقا عندما قال: "إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة" وهو ما أبرزه ابن كثير أثناء تعريفه للعلل بقوله: وهو فن خفي على كثير من علماء الحديث، حتى قال بعض حفاظهم: معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل".
وعلى هذا يمكن تخريج كلام النقاد، إذ أن كل علم هو كالعرافة والسحر بالنسبة لمن يجهله، وكلام أبي حاتم وهو يشبه معرفة الناقد للعلة بمعرفة الصائغ للدرهم الزائف من الجيد إنما يعني به أن الحديث صناعة وفن كالصياغة التي هي صناعة وفن، ولكل منها مبادئه وطرائقه وقوانينه..
وإلى جانب ما سبق، أقول: إن كتب العلل في أكثر ما أسئلة وأجوبة، وهذه الأجوبة في معظمها يحمل الحجة والدليل، ولا غرابة في هذا إذا عرفنا أن السائل هو من أهل هذا الفن والمختصين به، فالترمذي يسأل البخاري، وعبد الله بن أحمد يسأل أباه وابن أبي حاتم يسأل أباه وأبا زرعة، والبرذعي يسأل أبا زرعة، والبرقاني والسهمي يسألان الدارقطني، وهكذا. وفي مباحث أنواع العلل وأسبابها أمثلة كثيرة فيها بيان كاف للعلة ونوعها وسببها والدليل عليها.
وبعد كل هذا فإننا نخرج بنتيجة هي أن الناس أمام هذا العلم عالم خبير به، أو جاهل منكر له. وأكبر دليل على منهجية هذا العلم وحدة منطقه، الذي يظهر باتفاق النقاد عليه، كما رأينا في إحالة أبي حاتم على أبي زرعة، ثم تشابه قوليهما في كل مسألة، فعلم العلل علم قائم على أصول وطرائق متداولة بين أصحابه، وقد ترتقي هذه الأصول والطرائق بلغتها حتى لا يعود من السهل كشف غموضها عن غير أهلها.
ويضاف إلى كل ما سبق، أن منهج علماء الحديث هو جزء من المنهج الإسلامي العام القائم على (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) والمنهج الإسلامي هو أول منهج أخرج الإنسان من سلطان الطلاسم والفيوض الوجدانية، وحرره من تحكم الأهواء والأوهام والخواطر.
وإن كنت قد أطلت في مناقشة هذه القضية، فلخطورتها وأهميتها حتى إنها تقف أمام كل باحث في العلل لتشعره باستحالة البحث والوصول إلى نتائج جديدة.
وأما كلام العلماء عن مبادئ هذا العلم وظهور حجته عند أهله فكثير، يقول الحاكم أبو عبد الله:"والحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير". فالعلة عند الحاكم لا تدعى إلا بالحجة، ولكنها حجة الحافظ الفهم العارف يدركها الحافظ الفهم العارف، ولاحظ قوله:"عندنا" وكأنها تختلف في نظر غيره، ولاحظ قوله:"لا غير".
وقال في موضع آخر من كتابه: "وليس لهذا العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة، ليظهر ما يخفى من علة الحديث". وفي هذه العبارة يؤكد الحاكم دور الفهم والمعرفة لما فيهما من المعاني الزائدة على العلم، قال تعالى:(ففهمناها سليمان) .
وابن رجب يؤكد في كتابه أن هذا العلم معرفة وممارسة، ومذاكرة، فيقول:"والوجه الثاني في معرفة مراتب الثقات وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف إما في الإسناد، وإما في الوصل والإرسال، وإما في الوقف والرفع، ونحو ذلك، وهذا الذي يحصل من معرفته، وإتقانه، وكثرة ممارسته الوقوف على دقائق علم العلل، ونحن نذكر - إن شاء الله تعالى - من هذا العلم كلمات جامعة مختصرة يسهل بها معرفته وفهمه، لمن أراد الله - تعالى - به ذلك، ولا بد في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدم المذاكر به، فليكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين كيحيى القطان، ومن تلقى عنه كأحمد وابن المديني، فمن رزق مطالعة ذلك وفهمه وفقهت نفسه فيه وصارت له فيه قوة نفس وملكة، صلح له أن يتكلم فيه".
ومن كل هذا نستفيد أن الكشف عن العلة يحتاج إلى علم غزير بالأسانيد والطرق وأساليب التعبير، كما يحتاج إلى مزيد فهم ومعرفة وحدة ذكاء وسرعة