الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومع أن هذه الدراسة ليست موجهة للجرح والتعديل، إلا أن الكلام عن منهج الكتاب لا يكتمل إلا بهذا، بالإضافة إلى أن من العلل ما يرتبط بالجرح، كأن يروي الثقة عن ضعيف أو مجهول وغير ذلك.
المطلب الثالث علل الإمام أحمد بن حنبل
اعتمد ابن رجب اعتمادا كبيرا على أقوال الإمام أحمد في العلل، وهذا أمر لا بد منه لأن الإمام أحمد يعتبر بحق أستاذ فن العلل، وقد شاعت أقواله فيه وذاعت حتى استعصت على الإحاطة والحصر، ومرجع ذلك علمه الوفير، وشخصيته الفذة يضاف إليه ما امتاز به الإمام أحمد إذ أقبل عليه كثرة من التلاميذ الأوفياء الأذكياء العلماء، فسألوا الكثير، وكتبوا عنه الكثير. وقد كان بعض هؤلاء التلاميذ ممن يشار إليه بالفضل والفقه قبل التحاقه بصحبة الإمام أحمد. وقد اشتهر من هؤلاء عدد تناقل الناس مسائلهم، وجاء ذكرهم كثيرا في "شرح علل الترمذي" لابن رجب، منهم:
- مهنا بن يحيى الشامي، كتب عن أحمد بضعة عشر جزءا من المسائل، ولزمه ثلاثا وأربعين سنة، وأول لقيه له في مجلس سفيان بن عيينة.
- عبد الملك بن عبد الحميد الميموني، صحب الإمام أحمد من (سنة 202 - 227هـ) وكان في أحمد مثل ابن جريح في عطاء لكثرة مسائله.
- أحمد بن محمد بن الحجاج أبو بكر المروزي (ت 275هـ) .
- أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الأثرم، نقل عن الإمام أحمد مسائل وصنفها ورتبها أبوابا.
- أبو طالب، أحمد بن حميد، المتخصص بصحبة الإمام أحمد ومسائله (ت 244هـ) .
- الحربي أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق (ت 285هـ) .
- حنبل بن هاني (ت 265هـ) .
- إسماعيل بن سعيد الشالنجي، وله مسائل كثيرة عن أحمد.
- أحمد بن محمد أبو الحارث الصائغ، روى عن أحمد بضعة عشر جزءا من المسائل.
- صالح بن الإمام أحمد بن حنبل، ومسائله كثيرة ومشهورة، (ت 266هـ) .
- عبد الله بن الإمام أحمد، ومسائله مشهورة، وأكثرها وصل إلينا (ت 290هـ) .
- أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، (ت 265هـ) وهو الإمام المشهور.
وأما ما وصلنا من هذه المسائل فقليل، وما وصل لم يسلم منه إلا أجزاء يسيرة، فيما عدا كتاب العلل ومعرفة الرجال، وكتاب مسائل الإمام أحمد فقد وصلا كاملين. وأما المسائل الأخرى فقد سلم منها:
(أ) جزء من مسائل الميموني.
(ب) جزء من مسائل صالح بن الإمام أحمد.
(ج) جزء من مسائل المروزي، في العلل.
(د) جزء من مسائل الأثرم في العلل.
والجدير بالذكر أن هذه الكتب متشابهة في طريقة العرض، وهي غير مرتبة ولا مبوبة بينما نجد المسائل الفقهية قد دخل عليها التبويب والترتيب كمسائل
المروذي في الفقه والجزء الأول من مسائل أحمد، لأبي داود السجستاني. ولمعرفة محتويات هذه الكتب وبيان منهج الإمام أحمد فيها نختار منها كتابا كاملا هو "العلل ومعرفة الرجال". وهو نموذج يمثل كل ما ورد عن الإمام أحمد في العلل.
وهذا الكتاب يرويه عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه، وتوجد منه نسخة كاملة في مكتبة أيا صوفيا تحت (رقم 3380) ، وهذه النسخة يرويها أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن بن الصواف (ت 359هـ) عن عبد الله بن الإمام أحمد، وقد قام الدكتور طلعت فوج بيكيت والدكتور إسماعيل جراح أوغلي بتحقيق الجزء الأول من هذا الكتاب، وقد وجدت في خزانة المكتبة الظاهرية بدمشق الجزء الثاني عشر من العلل ومعرفة الرجال، ولكنه من رواية أبي بكر مكرم بن أحمد بن مكرم عن عبد الله، وعلى هذا الجزء سماع ابن أبي يعلى الفراء.
وفي هذا الكتاب أسئلة وسماعات يقول فيها عبد الله: سألت أبي، وسمعت أبي وحدثني أبي، ومادة الكتاب عرضت بلا ترتيب ولا تصنيف. وحتى الخطوط الرئيسة والأقسام الكبيرة، التي رأيناها في علل ابن معين وابن المديني، حتى هذه معدومة في كتاب "العلل ومعرفة الرجال"، ولكن هذا ليس عيبا في الكتاب لأنه إجابات وأخبار عن القضايا اليومية التي تعترض الإمام وتلاميذه، وغزارة المادة والانشغال بالمتابعة والسماع يجعل مهمة التصنيف والترتيب عسيرة.
وقد استفاد كل من جاء بعد الإمام أحمد من هذا الكتاب، وكل أخذ منه
ما يدخل في اهتمامه، ومن أكثر الكتب اعتمادا عليه:"كتاب الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم وكتاب "الضعفاء" للعقيلي.
أما موضوعات الكتاب فإنها متنوعة، وأستطيع أن أجزم بأن مادته اشتملت على كل أبواب علوم الحديث، ففيه الكلام عن الثقات والرواة عنهم، والضعفاء، والمبتدعة، والمتروكين والمجاهيل، وفيه أخبار المدلسين، والكلام عمن أرسل الحديث، وكثير من تراجم رجال الأخبار فيذكر وفياتهم ومواطنهم، والقسم الأعظم والأكبر هو الكلام عن الأسانيد والمتون المعلة. ولهذا حق لنا أن نقول: إن كتب العلل هي الكتب الأولى لعلوم الحديث.
وكما سبق القول، فإن القسم الأعظم من هذا الكتاب يتعلق بروايات الثقات، سواء بذكر علل حديثهم، أو بذكر مراتب الرواة عنهم، أو ما يتعلق بتراجمهم مما له علاقة بحديثهم من رحلة أو اختلاط أو تدليس أو إرسال. والجدير بالذكر أنه يسوق مجموعة كبيرة من الأخبار محورها أحاديث شيخ واحد ويطيل في ذلك فهو يذكر علل أحاديث هشيم بن بشير، شيخه، في قرابة العشرين صفحة من صفحات الكتاب وفيها يلي بعض هذه الأحاديث التي ذكر علتها.
قال عبد الله:
"حدثني أبي قال: حدثنا هشيم، عن سيار عن أبي وائل، قال: "لا يقرأ القرآن جنب ولا حائض".
قال أبي: لم يسمعه هشيم من سيار.
"سمعت أبي يقول: حدثنا هشيم قال: أخبرنا منصور، يعني ابن زاذان عن نافع أن امرأة صبحت قوما في سفر.. سمعت أبي يقول: لم يسمع منصور من نافع شيئا".
"حدثني أبي: قال، حدثنا هشيم عن مغيرة عن سماك - يعني ابن سلمة - قال: "رأيت ابن عمرو وابن عباس يتربعان في الصلاة" سمعت أبي يقول: لم يسمعه هشيم من مغيرة".
وهكذا فإن الإمام أحمد يستعرض الكثير من حديث هشيم ويكشف عن انقطاع أو تدليس فيه، وقد يثبت السماع النادر له، كأن يقول: هذان الحديثان سمعهما هشيم من جابر الجعفي، وكل شيء حدث عن جابر مدلس إلا هذين: عن أبي جعفر عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقدر يغلي فأخذ منها عرقا أو كتفا فأكله، ثم صلى ولم يتوضأ". وذكر حديثا آخر.
وفي موضع آخر نجد ذكرا مستفيضا لحصين بن عبد الرحمن المديني ويميزه عن حصين بن عبد الرحمن الحارثي الكوفي. وفي موضع ثالث نجده يستعرض حديث وكيع بن الجراح، من ذلك:
"حدثني أبي قال: حدثنا وكيع عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن أبي كثير، عن أبي المنهال عن ابن عباس، قال أبي: كذا قال وكيع، وهو خطأ: إنما هو عبد الله بن كثير".
ثم نجده يعود فيتكلم عن حديث وكيع، رواية ونقدا، في موضع آخر ويفيض في ذلك.
ولو قدر لهذا الكتاب أن ترتب مادته، بحيث يجمع ما يتعلق بوكيع، وما يتعلق بشعبة، وما يتعلق بهشيم وغيرهم، لو قدر له ذلك، لكان على غاية من الفائدة لما يذكره من دقائق المعارف عن هؤلاء، وما يعالجه من أحاديثهم رواية ونقدا. وهو ما لا يوجد في كتاب من كتب التراجم المعروفة.
ومن القضايا المهمة في هذا الكتاب حصر الرواة عن شيخ ما، كأن يقول:
"هذه تسمية من روى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عن هـ - من أهل مكة، روى عن عمر بن الخطاب من أهل مكة: يعلى بن أمية، وعبد الله بن الزبير، وأبو الطفيل، وعبد الله بن صفوان، وعبيد بن عمير. وأملى علي أبي: ومن أهل المدينة: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر
…
" ويذكر عشرات الأسماء.
وخلال ذكره لهذه الأسماء يقف عند من اختلفت الأقوال في سماعه عن عمر، فيقول مثلا: وحميد روى عن عمر فلا أدري سمع منه أم لا، وقال ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن حميد: رأيت عمر.
ثم يواصل ذكر الرواة عن عمر - رضي الله عن هـ - من أهل البصرة، ثم من روى عن علي - رضي الله عن هـ - من أهل البصرة، ثم من روى عن عثمان من أهل المدينة، ثم من روى عن عمر من أهل الكوفة.
وهذا اللون من فنون الحديث نجده عند الإمام أحمد في علله يرتقي إلى أسلوب يدل على معرفته الواسعة، فهو يقول:
"هؤلاء الرجال من روى عنهم مسعر من أهل الكوفة وغيرهم، لم يسمع منهم شعبة: عمير بن سعد، وعبد الرحمن بن الأسود، وأبو بكر بن عمرو بن عتبة
…
" وهكذا.
وفي موضع آخر يقول:
"وهؤلاء من روى عنهم شعبة، ولم يسمع منهم سفيان: المنهال بن عمرو، وطلحة بن مصرف، والحكم بن عتبة وأبو عمرو يحيى بن عبيد
…
" وهكذا.
وفي موضع ثالث يقول:
حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو عن شعبة قال:
رأيت محمد بن المنتشر، وحبيب بن سالم والحسن بن أبي الحسن البصري
…
ويذكر ما يزيد على المائتين.
وفي موضع رابع يقول:
"هؤلاء من روى عنهم سفيان ولم يحدث عنه شعبة
…
" ويذكر ما يزيد على المائة.
وأما الجزء الثاني عشر الذي وجدته في الظاهرية بدمشق فهو من رواية القاضي أبي بكر مكرم بن أحمد بن مكرم البزاز عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل.
ومادة هذا الجزء تشبه مادة النسخة الأولى، فهي مسائل وسماعات متفرقة غير منتظمة بترتيب معين. وتجمع بين التضعيف والتوثيق وذكر العلل، والكنى.
وفيما يلي مثال من هذا الجزء يدور حول علة حديث:
قال أبي كنا عند سليمان بن حرب، فذكرنا المسح على الخفين، فذكرنا أحاديث، فجعل سليمان يقول: ذا لا يحتمل، وذا ما أدري. قلنا إيش عندك؟ قال: خالد عن أبي عثمان عن عمر، قال:"يمسح حتى يأوي إلى فراشه". قلنا: قال بعض الناس خالد لم يسمع من أبي عثمان شيئا، يقول ذلك بعض الناس، "ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يوقت". ويقول: خالد عن أبي عثمان! كأنه لم يرض منه بذلك".
ونلاحظ في هذا النص النقد الذي وجهه الإمام أحمد لرواية سليمان بن حرب هذه، وسليمان بن حرب من الثقات الحفاظ.