الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله".
قال أبو عمر رحمه الله تعالى: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً. انتهى.
كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وأما قول الملحد: "واختلاف أصحابي لكم رحمة".
فهذه الزيادة لم تذكر في جميع روايات هذا الحديث، الذي لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما هو مبين فيما نقلناه من كتاب الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى. ولا شك في أن هذه الزيادة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلقها المعترض أو غيره. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
وأما ما نقله المعترض عن الإمام السيوطي من الكلام على حديث ابن عباس الذي رواه البيهقي فإن سلم النقل من تحريف المعترض –كما هي عادته في تحريف الكلم عن مواضعه- فإنه كلام لا قيمة له، بل صرف لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غير مراده. لا يتابع عليه قائله، فقد دل الحديث دلالة أوضح من شمس الظهيرة على لزوم العمل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم اتباع أصحابه من بعده، وما ورد عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين من بعدهم في ذم الاختلاف في الدين والتحذير منه، يرد هذا الكلام المنسوب إلى الإمام السيوطي. وكيف يصدر هذا الكلام المخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولما عليه سلف الأمة وأئمتها من عالم يدعي الاجتهاد. وله كتاب "الرد على من أخلد إلى الأرض" يبطل به التقليد ويذمه، ويحث على الاجتهاد والعمل بنصوص الكتاب والسنة هذا بعيد عن العقل. فإن صح نقل المعترض هذا عن السيوطي: فإنه يرجع إلى كلام قديم رجع عنه وهدمه في كتاب الرد، وهو الكتاب الذي محا به ما قبله ولا يعلو عليه ما بعده، لأن الحق لا يعلو عليه الباطل.
وأما ما نقله المعترض عن الخطيب البغدادي- فيما رواه من قصة هارون الرشيد مع الإمام مالك رحمهما الله تعالى- فإنها قصة يكذبها ما قدمناه قريباً عن
الإمام مالك من رواية أشهب. قال: سمعت مالكاً يقول: "ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان لا يكونان صواباً جميعاً. ما الحق والصواب إلا واحد" والكلام في هذا عن الإمام مالك كثير شهير، لا يتفق مع هذه القصة.
قال المعترض: "وأما قولكم عن تاركي التعبد هرباً من الحرج" إلى آخر ما هذى به من المخرقة والخوض في الباطل في كلام لا يعقل، فنتركه فيه حائراً يتخبط في ظلمات جهله، ونعوذ بالله من العمى والضلال بعد الهدى.
قال المعترض: "وأما قولكم إنك تأخذون عن البخاري وغيره ما يرفع عنكم الحرج. فهذا هو التلفيق بعينه والخطأ فيه ظاهر من وجوه".
أقول: قد أجتمعت الأمة على أن صحيح البخاري رحمه الله تعالى أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى. فمن تلقاه بالقبول وجعله إمامه- بعد كتاب الله تعالى- فقد نجا وأفلح، وسعد في الدنيا والآخرة، لا كما زعم هذا المعترض الزائغ عن الهدى: أنه ملفق. لقد توغل هذا المعترض الأحمق بالسفاهة، وأطلق لسانه بالخوض في دين الله تعالى خارجاً على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حيث زعم أن أخذ أحكام الدين من صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث تلفيق، مع ما هو معلوم أن معنى "التلفيق" إنما هو التلاعب في دين الله تعالى بتتبع الرخص المرجوحة، والاستعاضة بها عن أحكام الشريعة الغراء، المتفق على العمل بها بين أئمة المسلمين فقول المعترض هذا: هو عين المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لهما، وقد قال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور، الآية:63] .
قال المعترض: "أحدها: مكن المسلم به أن الأئمة الأربعة ضبطوا في كتبهم التفسير والحديث بقصد العمل بها، فلذا تحروا وجوه صحة ما دونوه، وما اتفق عليه الصحابة وما اختلفوا فيه وما كان عليه التابعون بعد الصحابة".
أقول: إنه من المسلم به عند يعتد بهم من الأمة ما اشتهر به الأئمة
الأربعة من غزارة العلم في جميع فنون علم الشريعة. ولكن لا يلزم من ذلك أن تدعى الأمة لترك الكتاب والسنة والنظر فيهما، وفقه معانيهما، والحرص على العمل بما فيهما من شرائع، مكتفية عنهما بعلوم الأئمة الأربعة، ولا أن تلتزم تقليدهم وعدم الخروج عن هذه الكتب المنسوبة إلى مذاهبهم، وهم لم يعلموا بها، ولا علم بها أصحابهم المعاصرون لهم. وقد بنيت أكثر هذه الكتب على محض آراء الرجال وتفريعاتهم. وفيها من المسائل المخالفة لمذاهب الأئمة الأربعة في أصول الدين – فضلا عن فروعه- شيء كثير. وقد تغالى كثير من الجهلة الحمقى- أمثال هذا المعترض- في الدعوة إلى التقليد الأعمى. وحرموا النظر في نصوص الكتاب والسنة لأجل العمل بهما والتحاكم إليهما. وقد قال هذا المعترض الملحد:"ومع هذا فأخبرونا متى اجتمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ وأي عالم أو فقيه أفتى في حكم عن البخاري أو غيره؟ " ويعني بغيره: كتب الحديث. وهذا شطط عن سلوك سبيل المؤمنين ورفع للتقليد عن حدوده الجائزة بين من يعتد بهم من أئمة المسلمين. وهو عدم وجود النص أما إذا وجد النص من الكتاب أو السنة فلا يجوز التقليد. فكيف بمن ينكر النص والعمل به في أصح كتاب، بعد كتاب الله تعالى باتفاق الأمة وهو صحيح البخاري؟. ويقول: إنه لا يجوز تقليد أحد من هذه الأمة من أولها إلا آخرها، إلا الأئمة الأربعة مع أن الأئمة الأربعة قد نهوا عن تقليدهم وتقليد غيرهم، وأنكروا التقليد أشد إنكار في نصوص عنهم لا تقبل المغالطة. فأي تقليد يدعيه هؤلاء المبطلون، بعد ما اشتهر عن الأئمة من إنكار التقليد؟.
افتراء الملحد على أئمة أهل الحديث والرد عليه
…
قال المعترض: "وأئمة الحديث ما دونوه بهذا القصد، ولا تتبعوا فيه أحوال الصحابة والتابعين، بل دونوه لأجل حفظه. فلذا ما كان من مقصدهم تحري ما تحراه الأئمة سيما أن الأربعة سبقوهم لبيان ما يجوز التعبد به والتعامل فيه وما لا يجوز. ومن البديهي: أن مدون الأحكام بقصد العمل بها أعلم من مدونها بقصد جمعها".
أقول: هذا افتراء من الملحد على أئمة أهل الحديث، وحط من قدرهم
وعلمهم، وبخس لثمرة جدهم واجتهادهم، وفضلهم في حفظ شريعة نبيهم صلى الله عليه وسلم وتنقيحها وتنظيمها، وقد أتعبوا في ذلك أجسامهم وأفكارهم، وهجروا في جمعها أوطانهم، واستغرقوا في تقييدها وتصحيحها ليلهم ونهارهم، فأبرزوها في كتب نهجوا فيها منهاج التحقيق والتدقيق، وبينوا فيها صحيحها من سقيمها، وقويها من ضعيفها، وبينوا حال رجالها وعللها وجميع طرقها. وبينوا ناسخها ومنسوخها، وعامها وخاصها ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفصلها، وظاهرها ومضمرها. وبينوا غريبها ومشكلها، ومعانيها وفقهها، واستنبطوا غوامضها وما دلت عليه من فنون الشريعة في جميع العبادات والمعاملات التي كلف الله بها عباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. ولولا أئمة أهل الحديث واعتناؤهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمعه وتدوينه ما عرفنا منه شيئاً ولا وصل إلينا منه إلا القليل ممزوجاً بآراء الرجال. فجزى الله أهل الحديث عن حفظهم لشريعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم أفضل ما جزى به المجاهدين المحسنين وإن رغم أنف الملحد الحاج مختار. فليس يضير أهل الحديث شيء من أقوال هؤلاء الحمقى الضالين" {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد، الآية:17] فهذه علوم أهل الحديث، وأعلامهم ساطعة أنوارها للسالكين، هادية إلى المحجة لسنة سيد المرسلين.
وقل للعيون الرمد للشمس أعين
…
سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح نفوساً أطفأ الله نورها
…
بأهوائها لا تستفيق ولا تعي
وبعد هذا، فيحسن بنا في هذا المقام أن نورد نبذة يسيرة من كلام أهل العلم تدل على شرف علم الحديث وأهله، وبيان فضلهم وحسن قصدهم في حفظ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وإبرازها لهذه الأمة نقية كما خرجت عن مشكاة النبوة لتقوم بها الحجة على المكلفين بما فيها من أمر ونهي، لا كما يزعمه الهلباجة الحاج مختار، من أنها إنما جمعت لحفظها، لا للعمل بها.
قال الإمام العالم العلامة صديق حسن القنوجي رحمه الله تعالى في كتابه
"الحطة في ذكر الصحاح السنة" الفصل الثاني في شرف علم الحديث، وفضيلة المحدثين: اعلم أن أنف العلوم الشرعية ومفتاحها، ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها، وعمدة المناهج اليقينية ورأسها، ومبنى شرائع الإسلام وأساسها، ومستند الروايات الفقهية كلها، ومأخذ الفنون الدينية دقها وجلها، وأسوة جملة الأحكام وأسها، وقاعدة العقائد وأسطقسها، وسماء العبادات وقطب مدارها، ومركز المعاملات ومحط حارها وقارها: هو علم الحديث الشريف، الذي تعرف به جوامع الكلم، وتنفجر منه ينابيع الحكم، وتدور عليه رحى الشرع بالأسر، وهو ملاك كل نهي وأمر، ولولاه لقال من شاء ما شاء، وخبط الناس خبط عشواء، وركبوا متن عمياء، فطوبى لمن جد فيه، وحصل منه على تنويه، يملك من العلوم النواصي، ويقرب من أطرافها البعيد القاصي، ومن لم يرضع من درة، ولم يخض في بحره، ولم يقتطف من زهره، ثم تعرض للكلام في المسائل والأحكام: فقد جار فيما حكم، وقال على الله تعالى ما لم يعلم، كيف؟ وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. والرسول أشرف الخلق كلهم أجمعين، وقد أوتي جوامع الكلم، وسواطع الحكم، من عند رب العالمين. فكلامه أشرف الكلم وأفضلها، وأجمع الحكم وأكملها، كما قيل:"كلام الملوك ملك الكلام" وهو تلو كلام الملك العلام، وثاني أدلة الأحكام. فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها، وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها، وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها، وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها: تتوقف على بيانه صلى الله عليه وسلم، فإنها ما لم توزن بهذا القسطاس المستقيم، ولم تضرب على ذلك المعيار القويم، لا يعتمد عليها ولا يصار إليها. فهذا العلم المنصوص، والبناء المرصوص بمنزلة الصيرف لجواهر العلوم، عقليها نقليها، وكالنقاد لنقود كل فنون أصليها وفرعيها، من وجوه التفاسير والفقهيات، ونصوص الأحكام، ومآخذ عقائد الإسلام، وطرق السلوك إلى الله سبحانه وتعالى ذي الجلال والإكرام. فما كان منها كامل المعيار في نقد هذا الصراف، فهوا لحري بالترويج
والاشتهار، وما كان زيفاً غير جيد عند ذاك النقاد فهو القمين بالرد والطرد والإنكار. فكل قول يصدقه خبر الرسول عليه الصلاة والسلام فهو الأصلح للقبول، وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان. فهي مصابيح الدجى، ومعالم الهدى، وبمنزلة البدر المنير، من انقاد لها فقد رشد واهتدى، وأوتي الخير الكثير، ومن أعرض عنها وتولى، فقد غوى وهوى. وما زاد نفسه إلا التخسير. فإنه صلى الله عليه وسلم نهى وأمر وأنذر وبشر، وضرب الأمثال وذكر، وإنها لمثل القرآن، بل هي أكثر. وقد ارتبط بها اتباعه صلى الله عليه وسلم الذي هو ملاك سعادة الدارين، والحياة الأبدية بلا مين. كيف؟ وما الحق إلا فيما قاله صلى الله عليه وسلم أو عمل به، أو قرره، أو أشار إليه، أو تفكر فيه، أو خطر بباله، أو هجس في خلده، واستقام عليه. فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب. والعمل بهما في كل إياب وذهاب. ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قاله من علم سيط بدمه الحق والهدى، ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى، وقد كان الإمام محمد بن علي بن حسين رضي الله عنهم يقول: إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث.
انتهى ما أردت نقله. ثم أطال الكلام رحمه الله تعالى في مدح علم الحديث وأهله مما لا يتسع له ردنا هذا.
ثم قال رحمه الله تعالى الفصل الثاني في مبدأ جمع الحديث وتأليفه وانتشاره: فإنه لما كان من أصول الفروض وجب الاعتناء به، والاهتمام بضبطه وحفظه. ولذلك يسر الله سبحانه وتعالى له العلماء الثقات، الذي حفظوا قوانينه، وأحاطوا قوافيه، فتناقلوه كابراً عن كابر، وأوصله كما سمعه أول إلى آخر، وحببه الله تعالى إليهم لحكمة حفظ دينه وحراسة شريعته، فلم يزل هذا العلم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم غضاً طرياً، والدين محكم الأساس قوياً، أشرف العلوم وأجلها لدى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، خلفاً بعد سلف. لا يشرف بينهم أحد بعد كتاب الله سبحانه وتعالى إلا بقدر ما يحفظ منه ولا يعظم
في النفوس إلا بحسب ما سمع من الأحاديث. فتوفرت فيه الرغبات فما زال لهم من لدن رسول الله إلى أن انقطعت الهمم على تعلمه حتى لقد كان أحدهم يرحل إليه المراحل ذوات العدد، ويقطع الفيافي والمفاوز، ويجوب البلاد شرقاً وغرباً، في طلب حديث واحد ليسمعه من راويه. فمنهم من يكون الباعث له على الرحلة طلب ذلك الحديث لذاته، ومنهم من يقرن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوي بعينه إما لثقته في نفسه، وإما لعلو إسناده، فانبعثت العزائم على تحصيله وكان اعتمادهم أولاً على الحفظ والضبط في القلوب، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب الله سبحانه وتعالى، ولا معولين على ما يسطرونه، وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم. فلما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار وكثرت الفتوحات ومات معظم الصحابة رضي الله عنهم، وتفرق أصحابهم وأتباعهم، وقل الضبط واتسع الخرق، وكاد الباطل أن يلتبس بالحق احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخائف يغفل، والقلم يحفظ، فمارسوا الدفاتر، وسايروا المحابر، وأجالوا في نظم قلائده أفكارهم، وأنفقوا في تحصيله أعمارهم، واستغرقوا لتقييده ليلهم ونهارهم، فأبرزوا تصانيف كثرت صنوفها ودونوا دواوين ظهرت شفوقها، فاتخذها العالمون قدوة، ونصبها العارفون قبلة، فجزاهم الله سبحانه وتعالى عن سعيهم الحميد أحسن ما جزى به علماء أمة وأحبار ملة.
وكان أول من أمر بتدوين الحديث وجمعه بالكتابة: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه خوف اندراسه. كما في الموطأ رواية محمد بن الحسن، أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم:"أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء". وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصفهان عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه كتب إلى الآفاق: "انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه". وعلقه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، فيستفاد
منه –كما قال الحافظ ابن حجر- ابتداء تدوين الحديث النبوي. وقال الهروي رحمه الله في ذم الكلام: ولم تكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث إنما كانوا يؤدونها حفظاً، ويأخذونها لفظاً، إلا كتب الصدقات، والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء، حتى خيف عليه الدروس، وأسرع في العلماء الموت: أمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أبا بكر بن محمد فيما كتب إليه"أن انظر ما كان من سنة أو حديث فاكتبه" وفي "هدى الساري مقدمة فتح الباري" أول من جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما. وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن انتهى إلى كبار الطبقة الثالثة، وزمن جماعة من الأئمة، مثل عبد الملك بن جريج، ومالك بن أنس وغيرهما. فدونوا الحديث حتى قيل: إن أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج. وقيل: موطأ مالك. وقيل: أول من صنف وبوب:
الربيع بن صبيح بالبصرة، وقال القسطلاني: صنف مالك الموطأ بالمدينة، وعبد الملك بن جريج بمكة، وعبد الرحمن الأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة. ثم تلاهم كثير من الأئمة في التصنيف، كل على حسب ما سنح له وانتهى إليه علمه. انتهى.
مبدأ جمع الحديث وتأليفه وانتشاره
…
وانتشر جمع الحديث وتدوينه وتسطيره في الأجزاء والكتب، وكثر ذلك وعظم نفعه إلى زمن الإمامين العظيمين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري. فدونا كتابيهما، وأثبتا فيهما من الأحاديث ما قطعا بصحته، وثبت عندهما نقله. وسميا "الصحيحين" من الحديث. وقد صدقا فيما قالا، والله مجازيهما عليه. ولذلك رزقهم الله القبول شرقاً وغرباً ثم ازداد انتشار هذا النوع من التصنيف وكثر في الأيدي وتفرقت أغراض الناس، وتنوعت مقاصدهم إلى أن انقرض ذلك العصر الذي اجتمعوا واتفقوا فيه، مثل أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، ومثل أبي داود سليمان بن الأشعت السجستاني، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، وغيرهم. فكان ذلك العصر خلاصة العصور في تحصيل هذا
العلم وإليه المنتهى كذا في كشف الظنون.
وقال ابن خلدون: وكان علم الشريعة في مبدأ هذا الأمر نقلا صرفاً، وشمر لها السلف وتحروا الصحيح حتى أكملوها. وكتب مالك كتاب "الموطأ" أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه. ورتبه على أبواب الفقه ثم عني الحافظ بمعرفة طرق الأحاديث وأسانيدها المختلفة. وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين. وقد يقع الحديث أيضاً في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها. وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه وكرر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث فتكررت لذلك أحاديثه، حتى يقال: إنه اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين منها ثلاثة آلاف متكررة، وفرق الطرق والأسانيد عليها مختلفة في كل باب. ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله تعالى فألف مسنده الصحيح، حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه وحذف المتكرر منها وجمع الطرق والأسانيد، وبوبه على أبواب الفقه وتراجمه. ومع ذلك فلم يستوعبا الصحيح كله. وقد استدرك الناس عليهما في ذلك ثم كتب أبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي في سنن بأوسع من الصحيح وقصدوا ما توفرت فيه شروط العمل، إما من الرتبة العالية في الأسانيد وهو الصحيح، كما هو معروف، وإما من الذي دونه من الحسن وغيره ليكون ذلك إماماً للسنة والعمل. وهذه هي المسانيد المشهورة في الملة وهي أمهات كتب الحديث في السنة. فإنها- وإن تعددت- ترجع إلى هذه في الأغلب، ومعرفة هذه الشروط والاصطلاحات كلها: هي علم الحديث. وربما يفرد عنها الناسخ والمنسوخ فيجعل فنا برأسه. وكذا الغريب. وللناس فيه تآليف مشهورة انتهى.
ثم نقص بعد ذلك الطلب وقل الحرص، وفترت الهمم. وكذلك كل نوع
من أنواع العلوم والصنائع والدول وغيرها. فإنه يبتدئ قليلاً قليلاً ولا يزال ينمو ويزيد إلى أن يصل إلى غاية هي منتهاه، ثم لا يعود. وكأن غاية هذا العلم: انتهت إلى البخاري ومسلم ومن كان في عصرهما. ثم نزل وتقاصر إلى ما شاء الله تعالى حتى لا يوجد اليوم ممن يعلم الحديث، واحد في الجمع الجم من الناس. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الناس كالإبل المائة، لا تكاد توجد فيها راحلة، وإنما هم كحفالة الشعير"(1) فإنا لله وإنا إليه راجعون.
الفصل الثالث: في اختلاف الأغراض من تصانيف علم الحديث. اعلم أن هذا العلم، على شرفه وعلو منزلته: كان علماً غزيراً، مشكل اللفظ والمعنى. ولذلك كان الناس في تصانيفهم مختلفي الأغراض، فمنهم من قصر همته على تدوين الحديث مطلقاً ليحفظ لفظه، ويستنبط منه الحكم. كما فعله عبد الله بن موسى الضبي، وأبوا داود الطيالسي وغيرهما أولاً. وثانياً أحمد بن حنبل ومن بعده. فإنهم أثبتوا الأحاديث من مسانيد ذواتها. فيذكرون مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويثبتون فيه كل ما رووه عنه. ثم يذكرون بعده الصحابة واحداً بعد واحد على هذا المنسق، قال القسطلاني: فمنهم من رتب عل المسانيد، كالإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن منيع، وأبي خيثمة، والحسن بن سفيان، وأبي بكر البزار، وغيرهم. انتهى.
ومنهم من يثبت الأحاديث في الأماكن التي هي دليل عليها، فيضعون لكل حديث باباً يختص به فإن كان في معنى الصلاة: ذكروه في باب الصلاة وإن كان في معنى الزكاة ذكروه فيها. كما فعل مالك في الموطأ، إلا أنه لقلة ما فيه من الأحاديث: قلت أبوابه، ثم اقتدى به من بعده. فلما انتهى الأمر إلى زمن البخاري ومسلم كثرت الأحاديث المودعة في كتابيهما، واقتدى بهما من جاء بعدهما. وهذا النوع أسهل من الأول، لأن الإنسان قد يعرف المعنى وإن لم يعرف راويه، بل ربما لا يحتاج إلى معرفة راويه. فإذا أراد حديثاً يتعلق بالصلاة
(1) حقالة الشعير: حثالته.
طلبه من كتاب الصلاة. لأن الحديث إذا أورد في كتاب الصلاة علم الناظر أن ذلك الحديث هو دليل ذلك الحكم، فلا يحتاج إلى أن يفكر فيه، بخلاف الأول.
ومنهم من استخرج أحاديث تتضمن ألفاظاً لغوية، ومعاني مشكلة فوضع لها كتاباً، قصره على ذكر متن الحديث، وشرح غريبه وإعرابه ومعناه، ولم يتعرض لذكر الأحكام كما فعل أبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، وغيرهما.
ومنهم من رتب على العلل بان يجمع في كل متن طرقه، واختلاف الرواة فيه، بحيث يتضح إرسال ما يكون متصلاً، أو وقف ما يكون مرفوعاً، أو غير ذلك.
ومنهم من قصد إلى استخراج أحاديث تتضمن ترغياً وترهيباً، وأحاديث تتضمن أحكاماً شرعية غير جامعة، فدونها وأخرجها متونها وحدها، كما فعل أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي في المصالح واللؤلؤء في المشكاة، وغير هؤلاء فإنهما حذفا الإسناد واقتصرا على المتن فقط.
ومنهم من اضاف إلى هذا الاختيار ذكر الأحكام وآراء الفقهاء، مثل أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، في معالم السنن وأعلام السنن (1) .
ومنهم من قصد ذكر الغريب، دون المتن من الحديث، واستخرج الكلمات الغريبة، ودونها ورتبها وشرحها، كما فعل أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي وغيره من العلماء.
وبالجملة فقد كثرت في هذا الشأن التصانيف، وانتشرت في أنواعه وفنونه التآليف، واتسعت دائرة المشارق والمغارب، واستنارت مناهج السنة لكل طالب. ولكن لما كان أولئك الأعلام السابقون فيه، لم يأت صنيعهم على أكمل الأوضاع، فإن غرضهم كان أولاً حفظ الحديث مطلقاً وإثباته، ودفع الكذب عنه والنظر في طرقه وحفظ رجاله وتزكيتهم، واعتبار أحوالهم، والتفتيش عن أمورهم، حتى قدحوا وجرحوا، وعدلوا وأخذوا وتركوا. هذا بعد الأحتياط
(1) اختلف في اسمه قيل أحمد وقيل حمد توفي عام 388هـ[الأعلام للزركلي2: 304] .
والضبط والتدبير. فكان هذا مقصدهم الأكبر، وغرضهم الأول، ولم يتسع الزمان لهم والعمر لأكثر من هذا الغرض الأعم، والمهم الأعظم. ولا رأوا في أيامهم أن يشتغلوا بغيره من لوازم هذا الفن التي هي كالتوابع، بل ولا يجوز لهم ذلك. فإن الواجب أولاً إثبات الذات، ثم ترتيب الصفات والأصل إنما هو عين الحديث ثم ترتيبه، وتحسين وضعه. ففعلوا ما هو الغرض المتعين، واخترمتهم المنايا قبل الفراغ، والتخلي لما فعله التابعون لهم والمقتدون بهم. فتعبوا لراحة من بعدهم ثم جاء الخلف الصالح فأحبوا أن يظهروا تلك الفضيلة، ويشيعوا تلك العلوم التي أفنوا أعمارهم في جمعها، بإبداع ترتيب، او بزيادة تهذيب، أو اختصار أو تقريب، أو استنباط حكم، أو شرح غريب. فمن هؤلاء المتأخرين من جمع بين كتب الأولين بنوع من التصرف والاختصار، كمن جمع بين كتابي البخاري ومسلم، مثل أبي بكر أحمد بن محمد الرماني، وأبي مسعود إبراهيم بن عبيد الدمشقي، وأبي عبد الله محمد الحميدي، فإنهم رتبوا على المسانيد دون الأبواب كما سبق. وتلاهم أبو الحسن رزين بن معاوية العبدري فجمع بين كتب البخاري ومسلم والموطأ لمالك، وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي، ورتب على الأبواب إلا أن هؤلاء أودعوا متون الحديث عارية من الشرح وكان كتاب رزين أكبرها وأعمها، حيث حوى هذه الكتب الستة التي هي أم كتب الحديث وأشهرها، وبأحاديثها أخذ العلماء واستدل الفقهاء وأثبتوا الأحكام ومصنفوها أشهر علماء الحديث، وأكثرهم حفظاً، وإليهم المنتهى. وتلاه الإمام أبو السعادات مبارك بن محمد بن الأثير الجزري. فجمع بين كتاب رزين وبين الأصول الستة بتهذيبه وترتيب أبوابه، وتسهيل مطلبه، وشرح غريبه في "جامع الأصول" فكان أجمع ما جمع فيه. ثم جاء الحافظ جلال الدين السيوطي، فجمع بين الكتب الستة والمسانيد العشرة وغيرها في "جمع الجوامع" فكان أعظم بكثير من جامع الأصول، من جهة المتون إلا أنه لم يبال بما صنع فيه من جمع الأحاديث الضعيفة، بل الموضوعة.
وكان أول ما بدأ به هؤلاء المتأخرون أنهم خذفوا الأسانيد اكتفاء بذكر من
روى الحديث من الصحابي إن كان خبراً. وبذكر من يرويه عن الصحابي إن كان أثراً، والرمز إلى المخرج، لأن الغرض من ذكر الأسانيد كان أولاً إثبات الحديث وتصحيحه. وهذه كانت وظيفة الأولين، وقد كفوا تلك المؤنة فلا حاجة بهم إلى ذكر ما فرغوا منه. كذا في كشف الظنون.
ثم قال في موضع آخر: الفصل الأول في
طبقات كتب الحديث
. اعلم أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الشرائع والأحكام إلى خبر النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف المصالح، فإنها قد تدرك بالتجربة والنظر الصادق والحدس ونحو ذلك ولا سبيل لنا إلى معرفة أخباره صلى الله عليه وسلم إلا تلقي الروايات المنتهية إليه بالاتصال والعنعنة، سواء كانت من لفظه صلى الله عليه وسلم أو كانت أحاديث موقوفة قد صحت الرواية بها عن جماعة من الصحابة والتابعين، بحيث يبعد إقدامهم على الجزم بمثله لولا النص والإشارة من الشارع. فمثل ذلك رواية عنه صلى الله عليه وسلم دلالة، وتلقي تلك الروايات لا سبيل إليه في يومنا هذا إلا بتتبع الكتب المدونة في علم الحديث، فإنه لا يوجد اليوم رواية يعتمد عليها غير مدونة وكتب الحديث على طبقات مختلفة، ومنازل متباينة فوجب الاعتناء بمعرفة صفات كتب الحديث.
فنقول: هي باعتبار الصحة والشهرة على أربع طبقات. وذلك لأن أعلى أقسام الحديث ما ثبت بالتواتر، وأجمعت الأمة على قبوله والعمل به ثم استفاض من طرق متعددة، لا يبقى معها شبهة يعتد بها واتفق على العمل به جمهور فقهاء الأمصار، أو لم يختلف فيه علماء الحرمين خاصة – إلى أن قال: الطبقة الأولى: منحصرة على بالاستقراء في ثلاثة كتب: الموطأ، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم. قال الشافعي رحمه الله تعالى: أصح الكتب بعد كتاب الله موطأ مالك. وقد اتفق أهل الحديث على أن جميع ما فيه صحيح على رأي مالك ومن وافقه وأما على رأي غيره: فليس فيه مرسل ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى. فلا جرم أنها صحيحة من هذا الوجه. وقد صنف في زمان مالك موطآت كثيرة في تخريج أحاديثه، ووصل منقطعه مثل كتاب ابن أبي ذئب، وابن عيينة، والثوري، ومعمر، وغيرهم ممن شارك في الشيوخ.
وقد رواه عن مالك بغير واسطة أكثر من ألف رجل، وقد ضرب الناس فيه أكباد الإبل إلى مالك من أقاصي البلاد. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في حديثه، فمنهم المبرزون من الفقهاء كالشافعي ومحمد بن الحسن، وابن وهب، وابن القاسم، ومنهم نحارير المحدثين، كيحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق، ومنهم الملوك والأمراء كالرشيد وابنيه، وقد اشتهر فيه عصره، حتى بلغ إلى جميع ديار الإسلام، ثم لم يأت زمان إلا وهو أكثر له شهرة وأقوى به عناية وعليه بنى فقهاء الأمصار مذاهبهم حتى أهل العراق في بعض أمرهم، ولم يزل العلماء يخرجون أحاديثهم ويذكرون متابعاته وشواهده، ويشرحون غريبه، ويضبطون مشكله، ويبحثون عن فقهه، ويفتشون عن رجاله إلى غاية ليس بعدها غاية. وإن شئت الحق الصراح: فقس كتاب الموطأ بكتاب الآثار لمحمد، والأمالي لأبي يوسف تجد بينه وبينهما بعد المشرقين، فهل سمعت أحداً من المحديثين والفقهاء، تعرض لهما واعتنى بهما؟
أما الصحيحان: فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع. وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأن كل من يهون أمرهما فهو مبتدع غير سبيل المؤمنين، وإن شئت الحق الصراح فقسهما بكتاب بن أبي شيبة، وكتاب الطحاوي، ومسند الخوارزمي وغيرها تجد بينها وبينهما بعد المشرقين.
وقال في موضع آخر: وأما فضل صحيح البخاري فهو أصح الكتب المؤلفة في هذا الشأن والمتلقى بالقبول من العلماء في كل زمان. يقول أبو زيد المروزي كنت نائماً بين الركن والمقام، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي، وما تدرس كتابي؟ فقلت: يا رسول الله، وما كتابك؟ قال: جامع محمد بن إسماعيل البخاري، وقال الذهبي: في تاريخ الإسلام، وأما جامع البخاري الصحيح: فأجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى وهو أعلى في وقتنا هذا إسناداً للناس، ومن ثلاثين سنة يفرحون بعلو سماعه، فكيف اليوم؟ فلو رحل الشخص ألف فرسخ لسماعه لما ضاعت رحلته. انتهى.
وهذا قاله الذهبي في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة. وروي بالإسناد الثابت عن البخاري أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم. وكأني واقف بين يديه، وبيدي مروحة أذب بها عنه. فسألت بعض المعبرين؟ فقال لي: أنت تذب عنه الكذب. فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح. وأيضاً قال البخاري: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال لي بعض أصحابه: لو جمع أحد كتاباً مختصراً في السنن الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي بلغت من الصحة أقصى درجاتها كان أحسن، وتيسر العمل عليه للعاملين من دون رجوع إلى المجتهدين فوقع ذلك في قلبي. وأخذ بمجامع خاطري، فصنفت هذا الجامع الصحيح. وقال النسائي: أجود هذه الكتب كتاب البخاري. وقال البخاري: ما كتبت في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين، وقال: أخرجته من نحو ستمائة ألف حديث، وصنفته في ست عشرة سنة. وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى. وقال: ما أدخلت فيه إلا صحيحاً، وما تركت من الصحيح أكثر حتى لا يطول. وقال: صنفت كتابي هذا في السجد الحرام. وما أدخلت فيه حديثاً حتى استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته. وقال الفربري رحمه الله تعالى: قال البخاري: ما وضعت في الصحيح حديثاً إلا اغتلست قبل ذلك، وصليت ركعتين وأرجو أن يبارك الله تعالى في هذه المصنفات. وروى عن عبد القدوس بن همام قال: سمعت عدة من المشايخ يقولون: حول البخاري تراجم جامعه بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره. وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين. وقال عماد الدين بن كثير: وكتاب البخاري الصحيح يستسقي بقراءته الغمام، وأجمع على قبوله وصحة ما فيه أهل الإسلام. انتهى ملخصاً.
ثم قال: الفصل الثالث في ذكر الجامع الصحيح للإمام الحافظ أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، المتوفى سنة إحدى وستين وما ئتين. وهو أحد الصحيحين اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى. والثاني من الأصول الستة قال النيسابوري شيخ الحاكم: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم. ووافقه على ذلك بعض شيوخ المغرب، ومستندهم: أنه
شرط أن لا يكتب في صحيحه إلا ما رواه تابعيان ثقتان عن صحابيين. قال مسلم: ألفت كتابي من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة. وقال: لو أن أهل الأرض يكتبون الحديث مائتي سنة: ما كان مدارهم إلا على هذا المسند. قال: وما وضعت شيئاً في كتابي هذا إلا حجة. وما أسقطت شيئاً منه إلا بحجة. وقال مكي بن عبدان أحد حفاظ نيسابور: سمعت مسلماً يقول: عرضت كتابي هذا على أبي رزعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته. وكل ما قال: إنه صحيح وليس له علة خرجته. رواه الخطيب البغدادي بإسناده. وقال ابن الصلاح: جميع ما حكم مسلم بصحته في هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر وهكذا ما حكم البخاري بصحته. وذلك: لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع.
قال إمام الحرمين: لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتاب البخاري ومسلم – مما حكما بصحته– من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق، ولا حنثته. لإجماع المسلمين على صحتهما. وقد اتفقت الأمة على أن ما اتفق البخاري ومسلم على صحته فهو حق وصدق.
ثم قال: الفصل الرابع في ذكر الجامع الصحيح للإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي رحمه الله تعالى – إلى أن قال – وبالجملة: فهو ثالث الكتب الستة. قال الترمذي: صنفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان. فرضوا به ومن كان في بيته: فكأنما النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيته يتكلم. قال ابن الأثير: وكتابه هذا أحسن الكتب، وأكثرها فائدة، وأحسنها ترتيباً، وأقلها تكراراً. وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال وتبيين أنواع الحديث الصحيح والحسن الغريب. وقال في بستان المحديثين: تصانيف الترمذي كثيرة وأحسنها هذا الجامع الصحيح، بل هو – من بعض الوجوه والحيثيات – أحسن من جميع كتب الحديث.
الأول: من جهة حسن الترتيب، وعدم التكرار.
الثاني: من جهة ذكر مذاهب الفقهاء ووجوه الاستدلال لكل أحد من أهل المذاهب.
الثالث: من جهة بيان أنواع الحديث، من الصحيح والحسن والضعيف والغريب والمعلل بالعلل.
الرابع: من جهة بيان أسماء الرواة وألقابهم وكناهم، ونحوها من الفوائد المتعلقة بعلم الرجال. وفي آخر الجامع المذكور كتاب العلل، وفيه من الفوائد الحسنة ما لا يخفى على الفطن. ولهذا قالوا: هو كاف للمجتهد، ومغن للمقلد. قال الترمذي: جميع ما في هذا الكتاب من الحديث هو معمول به. وبه أخذ بعض أهل العلم. وقال الباجوري في حاشية الشمائل للترمذي: وناهيك بجامعه الصحيح، الجامع للفوائد الحديثة والفقهية والمذاهب السلفية والخلفية فهو كاف للمجتهد مغن للمقلد. انتهى باختصار.
ثم قال: الفصل الخامس في ذكر السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني المتوفى سنة خمس وسبعين ومائتين – إلى أن قال- قال أبو داود: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث. انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب وجمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث من الصحيح وما يشبهه ويقاربه. ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها: "إنما الأعمال بالنيات" والثاني: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، والثالث:"لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه"، الرابع: "الحلال بين والحرام بين
…
الحديث" ورى الحافظ أبو طاهر السلفي بسنده إلى حسن بن محمد بن إبراهيم أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام يقول: من أراد أن يتمسك بالسنن فليقرأ سنن أبي داود. وروى عن يحيى بن زكريا بن يحيى الساجي أنه قال: أصل الإسلام كتاب الله تعالى. وعماده سنن أبي داود. وقال ابن الأعرابي: إن حصل لأحد علم كتاب الله وسنن أبي داود،
يكفيه ذلك في مقدمات الدين. ولهذا مثلوا في كتب الأصول لبضاعة الاجتهاد في علم الحديث بسنن أبي داود. ولما جمع أبو داود كتاب السنن قديماً عرضه على الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى فاستجاده واستحسنه. وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: كتاب السنن لأبي داود شريف. لم يصنف في علم الدين كتبا مثله. وقد رزق القبول من كافة الناس، وطبقات الفقهاء، على اختلاف مذاهبهم، وعليه معول أهل العراق ومصر وبلاد المغرب، وكثير من أقطار الأرض. فكان تصنيف علماء الحديث قبل أبي داود الجوامع والمسانيد ونحوها. فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخباراً وقصصاً ومواعظ وأدباً. فأما السنن المحضة: فلم يقصد أحد جمعها واستيفاءها على حسب ما اتفق لأبي داود، لذلك حل هذا الكتاب عند أئمة أهل الحديث وعلماء الأثر محل العجب فضربت إليه أكباد الإبل ودامت إليه الرحل. قال ابن الأعرابي: لو أن رجلاً لم يكن عنده من العلم إلا المصحف ثم كتاب أبي داود، لم يحتج معهما إلى شيء من العلم. قال الخطابي: وهو كما قال، لا شك فيه. فقد جمع في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لم نعلم متقدماً سبقه إليه، ولا متأخراً لحقه فيه. وقال النووي رحمه الله تعالى في القطعة التي كتبها من شرح سنن أبي داود: ينبغي للمشتغل بالفقه وغيره الاعتبار بسنن أبي داود بمعرفته التامة. فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتج بها فيه، مع سهولة تناوله وتلخيص أحاديثه، وبراعة مصنفة، واعتنائه بتهذيبه. وقال إبراهيم الحربي: لما صنف أبو داود كتاب السنن ألين لأبي داود الحديث، كما ألين لداود الحديد. انتهى ما نقلته من كتاب الحطة لإمام زمانه رحمه الله تعالى.
وقال الإمام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي في كتابه "ذم الكلام" أنبأنا عبد الواحد بن أحمد أنبأنا محمد بن عبد الله سمعت أبا علي الحافظ قال حدثنا جعفر بن أحمد بن سنان الواسطي سمعت أحمد بن سنان يقول: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث. وإذا ابتدع الرجل
بدعة نزعت حلاوة الحديث من قبله. وبسنده إلى الحسين بن حرب عن الحسين بن بشر الأدمي قال: قال لي: يا حسين: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} [غافر، الآية: 70] ما هو بعد الكتاب؟ قلت: السنة. قال: صدقت. كان جبريل يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما يختلف إليه بالكتاب، وبسنده إلى أبي نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارى سمعت أبا نصر سلام البخاري الفقيه يقول: ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث. وبإسناده: أنبأنا يعقوب أنبأنا أبو النصر محمد بن الحسين أنبأنا محمد بن إبراهيم بن خالد حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى قال قلت لأبي: رجل وقعت له مسألة، وفي البلد رجل من أهل الحديث فيه ضعف، وفقيه من أهل الرأي. أيهما يسأل؟ قال: لا يسأل أهل الرأي. ضعيف الحديث خير من قوي الرأي. وبسنده حدثنا محمد بن عبد العزيز سمعت أبي عن عبد الله عن سفيان الثوري قال: إنما الدين الآثار. وبسنده إلى إبراهيم بن يحيى يقول: سمعت الزعفراني يقول: ما على وجه الأرض قوم أفضل من أصحاب هذه المحابر يتتبعون آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتبونها كيلا تدرس. وبسنده إلى علي بن عمر الحافظ يقول: سمعت أبا بكر النيسابوري قال: قال البخاري: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي فأتاه رجل. فسأله عن مسألة؟ فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال الرجل للشافعي. أنت ما تقول؟ قال سبحان الله! تراني في كنيسة؟ تراني في بيعة؟ ترى على وسطي زناراً؟ أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول لي: ما تقول أنت؟ وبسنده حدثنا حرملة: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوها. ولا تلتفتوا إلى أحد. وفيه: سمعت الربيع يقول سمعت الشافعي يقول: لولا أصحاب الحديث لكنا نبيع الفول. وبسنده إلى سعيد بن المسيب قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الناس فقال: "أيها الناس، إلا إن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا إذا سألهم الناس أن يقولوا: لا ندري. فعاندوا السنن بأيهم.
فضلوا وأضلوا كثيراً، والذي نفس عمر بيده، ما قبض الله نبيه، ولا رفع الوحي عنهم حتى أغناهم عن الرأي. ولو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان أسفل الخف أحق بالمسح من أعلاه، فإياك وإياهم، ثم إياك وإياهم" وبسنده عن نافع ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة" وبسنده عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال بالرأي فقد اتهمني بالنبوة" زاد إسحاق وقال الحارث: تصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر، الآية:7] . انتهى.
ولله در أبي بكر بن حميد القرطبي رحمه الله تعالى حيث يقول:
نور الحديث مبين فادن واقتبس
…
واحد الركاب له نحو الرضى الندس
واطلبه بالصين، فهو العلم إن رفعت
…
أعلامه برباها يابن أندلس
فلا تضع في سوى تقييد شاردة
…
عمراً يفوتك بين اللحظ والنفس
وخل سمعك عن بلوى أخي جدل
…
شغل اللبيب بها ضرب من الهوس
ما إن سمت بأبي بكر ولا عمر
…
ولا أتت عن أبي هر ولا أنس
إلا هوى وخصومات ملفقة
…
ليست برطب إذا عدت ولا يبس
فلا يغرنك من أربابها هذر
…
أجدى وجدك منها نغمة الجرس
أعرهم أذنا صماً إذا نطقوا
…
وكن إذا سألوا تعزى إلى خرس
ما العلم إلا كتاب الله أو أثر
…
يجلو بنور هداه كل ملتبس
نور لملتبس خير لمقتبس
…
حمى لمحترس نعمى لمبتئس
فاعكف ببابهما
…
على طلابهما
…
تمحو العمى بهما عن كل ملتمس
ورد بقلبك عذباً من حياضهما
…
تغسل بماء الهدى ما فيه من دنس
واقف النبي وأتباع النبي، وكن
…
من هديهم أبداً تدنو إلى قبس
والزم مجالسهم واحفظ مجالسهم
…
واندب مدارسهم بالأربع الدرس
واسلك طريقهم، واتبع فريقهم
…
تكن رفيقهم في حضرة القدس
تلك السعادة إن تلمم بساحتها
…
فحط رحلك قد عوفيت من تعس
ومن قول أبي بكر بن أبي داود السجستاني رحمه الله تعالى، في التحريض على علم الحديث:
تمسك بحبل الله واتبع الهدى
…
ولا تك بدعياً لعلك تفلح
ولذ بكتاب الله والسنن التي
…
أتت عن رسول الله تنجو وتربح
ودع عنك آراء الرجال وقولهم
…
فقول رسول الله أزكى وأشرح
ولا تك في قوم تلهو بدينهم
…
فتطعن في أهل الحديث وتقدح
إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه
…
فأنت على خير تبيت وتصبح
وقال أبو محمد هبة الله بن الحسن الشيرازي رحمه الله تعالى وعفا عنه:
عليك بأصحاب الحديث، فإنهم
…
على منهج للدين ما زال معجما
وما النور إلا في الحديث وأهله
…
إذا ما دجا الليل البهيم وأظلما
فأعلى البرايا من إلى السنن اعتزى
…
وأعمى البرايا من إلى البدع انتمى
ومن ترك الآثار ضلل سعيه
…
وهل يترك الآثار من كان مسلماً؟
وفي هذا القدر كفاية لكشف زيغ هذا الملحد الضال. وبيان كذبه على أئمة أهل الحديث وبهته لهم بما ليس فيهم جازاه الله بما يستحقه.
بين أئمة المذاهب وأئمة الحديث
…
قال المعترض: "ثانيها: من البديه الذي لا مكابرة فيه، أن رواية الأقرب فالأقرب للشارع أصح وأحكم من رواية الأبعد فالأبعد. ولا نزاع بأن الأئمة الأربعة أقرب عهداً للشارع من أئمة الحديث".
والجواب أن يقال لهذا المعترض: نحن لا نقدم تقليد أئمة أهل الحديث برأي دون الأئمة الأربعة، بل إنما نقدم اتباع أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام التي حملوها إلينا على أقوال الرجال.
وأيضاً: فإنا نجيب هذا الأحمق على حكم بديهته بأن رواية الأقرب فالأقرب للشارع أصح وأحكم. فندعوه إلى رواية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه. فهل في هذا القرب تعليل عند المعترض، أو وسيله أقرب منها فيذكرها لنا؟ فإن زعم
هذا الأحمق – على مذهبه الباطل – أن أحكام الله تعالى لا يصح تلقيها، والعمل بها مباشرة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بواسطة، فليس أقرب ولا أفضل من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". وهل يشك أحد في أن أصحابه صلى الله عليه وسلم هم أفضل هذه الأمة وأقربها إليه، وأكملها علماً وديناً. وقد تلقوا الشريعة منه صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل عليه وهو بين أظهرهم، ولم يقبضه الله تعالى حتى أكمل لهم الدين وأتم عليهم النعمة فقال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة، الآية: 3] فالرسول صلى الله عليه وسلم بلغ هذا الدين الكامل إلى أصحابه رضي الله عنهم، وأصحابه بلغوه عنه لمن بعدهم، كما سمعوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم فهل جاء بعدهم أحد من هذه الأمة بزيادة عن هذا الذي بغله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه لأصحابه؟ أم هل جاء أعلم منهم بكتابه تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو أعلم منهم بلغة العرب الفصحى، لغة القرآن والسنة حتى تدعى الأمة لاتباعه وتقليده دون الصحابة رضي الله عنهم؟ والله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء، الآية: 59] ويقول تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء، الآية: 80] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" هؤلاء هم أصحابه رضي الله عنهم، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟.
قال المعترض: "ومن عجيب التوفيق أنك تجد نحو ربع أو ثلث البخاري متصلاً للإمام مالك، كما أنك تجد سنن أبي داود كأنها ملخصة من موطأ مالك وهذا ظاهر على شدة الثقة والاعتماد على روايات مالك رضي الله عنهم أجمعين".
والجواب: أن هذا الأحمق – بناء على فهمه الفاسد – يشير بهذا الكلام إلى أن أئمة أهل الحديث – كالبخاري وأبي داود – يعتمدون في أغلب نقلهم في كتبهم على الإمام مالك. فهم بذلك مقلدون له لشدة ثقتهم به، واعتمادهم على
روايته. وهذا مبلغه من العلم لأنه جاهل أحمق. يظن أن رواية الحديث من باب القليد، فلا يستغرب هذا على فهمه العاطل. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله
…
الحديث" وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه وبلغه فرب حامل فقه ليس بفقيه" وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم" ذكر هذه الأحاديث ابن عبد البر في جامع بيان العلم. فأئمة أهل الحديث – وإن تأخر زمانهم – فقد اجتمع لهم من سنة رسول الله ما لم يجتمع لمن قبلهم من أفراد الأئمة وذلك بما بذلوه من العناية في جمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من مختلف أقطار الأرض التي تفرق فيه الصحابة. فقد كابدوا الأسفار الطويلة في طلب الأحاديث من حفاظها. واجتهدوا في تدوين متونها، وضبطها وتمحيصها، وجمع طرقها وتحرير رواياتها، ومعرفة حال رجالها، وصحة أسانيدها، وقويها من ضعيفها، وغير ذلك مما يحتاج إليه علم الحديث، وهذا الأمر مما لم تتجه إليه همة كل من سبقهم من الأئمة. وإن كان أغزر منهم علماً وأقوى منهم استنباطاً للأحكام من الكتاب والسنة. فقد حبا الله بعض عباده بفضل، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وجعل فوق كل ذي علم عليم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
قال المعترض: "الوجه الثالث: لا خلاف أن في الكتاب والسنة: الناسخ والمنسوخ. وهذا منه المنسوخ من الكتاب بالكتاب ومنه المنسوخ من الكتاب بالسنة. ومنه المنسوخ من السنة بالسنة. وهذه الأقسام أوسع أسباب الاختلاف بين الصحابة والتابعين والأئمة وفيها العام والخاص، والمقيد والمطلق، والمجمل والمفصل، والظاهر والمضمر – إلى آخره. فهذه كلها أحاط الأئمة الأربعة وأصحابهم بأطرافها وما تركوا فيها زيادة لمستزيد، حال كون أئمة الحديث ما تعرضوا لشيء منها البتة. بل سردوا الأحاديث سرداً في أبوابها على علاتها، فإذا وجدتم حديثاً في البخاري أو غيره في سألة، ومثله في موطأ مالك مثلاً، أحدهما فيه تشديد والثاني فيه ترخيص، فأنى لكم معرفة الناسخ،
فترجحوه على المنسوخ؟ وهكذا في سائر الأقسام التي تتوقف صحة الحكم على معرفتها. وأنتم لا تجدون في كتب الحديث بياناً ولا إشارة تهديكم إلى الصواب أيجوز لكم الترجيح بمجرد الظن والتخرص؟ هذه زندقة إسلامية، ثم قال: وأما قولكم إنكم ما خرجتم عن الإجماع، فهذا هو المغالطة لأنا بينما كنا نباحثكم عن إجماع الفقهاء والتعبد والتعامل: التجأتم إلى الإجماع على كتب الحديث. ومع هذا فأخبرونا متى أجمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ وأي عالم أو فقيه أفتى في حكم عن البخاري أو غيره؟ " إلى آخر ما هذى به من الجهل والتخليط الذي لا يعقل.
والجواب: أننا أوردنا كلام هذا الملحد الأحمق جملة واحدة. لأن كله منكر من القول وزور. لا يحتاج إلى رد، ولا تحليل إن لم يكن صحابه مصاباً في عقله. فإنه مروق من الإسلام وخوض في دين الله بالباطل مع الخائضين. فلقد تهور هذا الملحد بذكر الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، حيث جعله عقبة كأداء دون فهم الكتاب والسنة وأنه لا يفهم هذا العلم إلا أفراد قليلون من هذه الأمة، وأن هذا هو أعظم سبب لعدم جواز العمل بنصوص الكتاب والسنة، ووجوب التقليد كما زعم أيضاً أن الناسخ والمنسوخ أوسع أسباب الاختلاف بين الصحابة والتابعين والأئمة، مع كذبه أيضاً على أئمة أهل الحديث بأنهم ما تعرضوا لبيان شيء من علوم الكتاب والسنة، بل سردوا الأحاديث سرداً في أبوابها على علاتها، وأن أحاديث الرسول متعارضة، وليس يوجد في كتب الحديث بيان ولا إشارة تهدي إلى الصواب. وأشنع من ذلك: زعمه الباطل بأن أخذ الأحكام من نصوص الكتاب والسنة وترجيح الراجح بما دلت عليه من الأحكام: ظن لا يفيد اليقين، بعد الأخذ به وزندقة لا إسلامية. وهذا كلام في غاية الفحش والنكر، يدلنا دلالة صادقة على أن قائله مسلوب العقل والإيمان نعوذ بالله من ذلك.
ادعاء الملحد أن الأمة لم تجمع على صحيح البخاري
…
ولقد أكد هذا الملحد قوله الباطل بقول أبشع منه، إذ يقول:"ومع هذا فأخبرونا متى أجمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ " يعني
من كتب الحديث. فزعم أن الأمة قد كفرت بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله تعالى. إذ أنكر إجماع الأمة على العمل بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام وخص منها أصح كتاب في الدين بعد كتاب الله تعالى، وهو صحيح البخاري مع أن هذه الدعوى مكابرة، وقلب للحقائق، وإنكار لما أجمعت عليه الأمة من العمل بصحيح البخاري ومسلم. وهذا مما لا تجوز المغالطة فيه. وقد اتفق المحدثون على أن جميع ما في الصحيحين من المتصل المرفوع: صحيح بالقطع وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأن كل من يهون من أمرهما فهو مبتدع، متبع غير سبيل المؤمنين، كما عليه هذا الجاهل الأحمق من إنكار العمل بنصوص الكتاب والسنة. فأين تقع أقوال هذا الملحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومما روي عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أنه أتاه رجل، فسأله عن مسألة: فقال الشافعي: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال الرجل للشافعي: أنت ما تقول؟ قال: سبحان الله! تراني في كنيسة؟ تراني في بيعة؟ ترى على وسطي زناراً؟ أقول لك قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول لي ما تقول أنت؟ وأين يقع كلام هذا الملحد أيضاَ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الهيثم بن جميل قال قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً وضعوا كتباً يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم؟ قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية، كما صح عندهم قول إبراهيم. فقال مالك: هؤلاء يستتابون وهذا القول من الإمام مالك في حق عمر رضي الله عنه فكيف بمن يرد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم – التي هي في صحيح البخاري- جملة واحدة، وما في غيره أيضاً من كتب الحديث. وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمهم الله تعالى: قلت لأبي: رجل وقعت له مسألة. وفي البلد رجل من أهل الحديث، فيه ضعف. وفقيه من أهل الرأي، أيهما يسأل؟ قال: لا يسأل أهل الرأي. ضعيف الحديث خير من قوي الرأي. هذا هو كلام أئمة الهدى والدين المقتدى بهم، وهذا أدبهم مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين هذا الملحد من تقليدهم واتباع سبيلهم؟.
سارت مشرقة وسرت مغرباً
…
شتان بين مشرق ومغرب
ومن تأمل كلام هذا الملحد يعلم أنه كلام جاهل متهوس لا قيمة له، ولا يستحق إضاعة الوقت في مناقشته، ومع أنا قد رددنا على جميع أقواله هذه في مناسبات كثيرة من ردنا هذا. فإن عادة هذا الملحد تكرير الكلام، مع الخلط والتناقض في كل ما يكتبه فلا نطيل في تتبع زلاته ووخيم خزعبلاته.
جهله بالأصول وطعنه في أحاديث الرسول
…
قال الملحد: "بينما كنت أكتب في هذا الفصل رأيت في سنن أبي داود ثمانية أحاديث في احتجام الصائم خمسة في حظره، وثلاثة في إباحته. وما بين أبو داود أيها الناسخ وأيها المنسوخ؟ ومن رواة الحظر: الإمام أحمد، فمن أين لنا الوقوف على الصواب لو لم يبين الإمام مالك وغيره أن حديث الحظر كان عام الفتح، وحديث، الإباحة كان في حجة الوداع، فالثاني ناسخ للأول؟ ".
أقول: إذا كان هذا الجاهل الأحمق ممن طبع الله على قلبه، وصدق فيه قوله تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان، الآية:44] فما على الإمام أبي داود وغيره من أئمة أهل الحديث من بأس إذا كان هذا الجاهل الأحمق وأمثاله من المعترضين عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا يفهمون منها مواقع الخطاب. ولا حدود الحلال من الحرام، ولا يميزون بين الرخص والعزائم ولا يعرفون الناسخ من المنسوخ، ولا المفصل من المجمل، ولا المقيد من المطلق، ولا الخاص من العام، إلى غير ذلك من القيود والشروط التي يجب معرفتها على كل من يريد أن يعقل عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم أحكام دينه وفقه شريعته. ثم إن هؤلاء الجهلة يزعمون – كذباً منهم- على أئمة أهل الحديث: أنهم لم يتعرضوا لبيان علوم الكتاب والسنة، بل سردوا الأحاديث سرداً في أبوابها على علاتها. وقد بينا بطلان هذه الدعوى بما قدمناه قريباً من ردنا هذا. وبينا فضل أئمة أهل الحديث وما قاموا به من حفظ شريعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وما أبرزوه لهذه الأمة من أحكامها وغوامض معانيها خالصة نقية، كما خرجت من مشكاة النبوة فقيها
كمال الهدى والنور لكل مفيد ومستفيد بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقد صنف بعض الأئمة في علم الناسخ والمنسوخ وما يلحق بهما كتباً مستقلة ككتاب الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس، وكتاب الموجز في الناسخ والمنسوخ للإمام ابن خزيمة رحمه الله وكتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحافظ أبي بكر محمد بن موسى ألحازمي، وغيرهم ممن تكلم على هذا العلم الذي ليس هو من عويص العلوم، ولا من بحوره المتلاطمة الأمواج، بل هو علم محدود لا خفاء فيه إلا على المقلدين الجامدين على التقليد الأعمى. أمثال الحاج مختار وشيعته الضالين الذين يقولون: إن الناسخ والمنسوخ هو أوسع أسباب الاختلاف بين الصحابة والتابعين والأئمة وأنه عقبة كئود دون فهم نصوص الكتاب والسنة، بل حائل دون الأخذ بأحكامهما إلا بواسطة تقليد الرجال، والقول بقولهم لا بقول الله ولا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الجاهل الأحمق يقول:"بينما كنت أكتب في هذا الفصل" إلى آخر ما ذكره. وهذا منه تشويه لوجه الحق، وقلب للحقائق فإن أبا داود رحمه الله تعالى قد أبان معنى الأحاديث، وميز بين ما دلت عليه من الحظر والرخصة. فقال:"باب في الصائم يحتجم" أورد فيه حديث ثوبان وما في معنا إلى آخر الباب. ثم قال: "باب الرخصة في ذلك" أورد فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" إلى آخره، فما يريد هذا الأحمق من أبي داود غير هذا البيان؟ ولكن كما قيل:
عليك بالبحث أن تبدي غوامضه
…
وما عليك إذا لم تفهم البقر
فأما جزم المعترض الأحمق بأن حديث الحظر كان عام الفتح، وحديث الإباحة كان في حجة الوداع، ودعواه نسخ الأول بالثاني. فهذا ليس بصحيح لأنه لم يثبت تأخر حديث الرخصة على حديث الحظر. ولم تثبت صحة الزيادة التي في حديث ابن عباس. وهي قوله:"في حجة الوداع" والخلاف في هذه المسألة معروف في محله من كتب الأحكام، وإنما القصد
بيان خطأ هذا الجاهل وافترائه على أئمة أهل الحديث.
قال الجاهل الأحمق: "ورأيت في كثير من أبواب البخاري أحاديث قد أجمعت الأمة على أن أحكامها منسوخة، ولا تجد في البخاري حديثاً يشير لنسخ واحد منها وأمثال هذا لا يكاد يحصى، فذكرت هذا استطراداً".
والجواب: أن هذا الملحد قد تعمد الكذب الصريح الذي لا مغالطة فيه، لا يخشى فيه ما توعد الله به أمثاله من الكاذبين في قوله تعالى:{أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود، الآية:18] يقول هذا الملحد: إنه رأى في كثير من أبواب البخاري أحاديث قد أجمعت الأمة على نسخ أحكامها. وأن البخاري لم يشر إلى نسخ واحد منها قال: وأمثال هذا لا يكاد يحصى وأنه ذكر هذا استطراداً، وهذا الكلام المنكر من هذا الملحد الضال لا شك أنه استطراداً منه بالكذب لنصرة الباطل. يقصد به الطعن في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. فقد قال: إنه يستحيل أخذ الأحكام منها مباشرة. لأن فيها الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل، وأنه لا يعرف صحيحها من ضعيفها- إلى غير ذلك من أقوال هذا الملحد – التي يريد بها الصد عن العمل بنصوص الكتاب والسنة إلى وجوب التقليد.
ولم يكتف هذا الملحد بالكذب على صحيح البخاري، ورمى صاحبه بالتدليس. بل قال:"إن كتب الحديث ليس فيها بيان ولا إشارة تهدي إلى الصواب" إلى آخر ما قاله من الزور والفجور في حق أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بل زاد على ذلك بأن الأمة قد أجمعت على ما زعمه من نسخ كثير من أحاديث صحيح البخاري، مستهيناً بهذه الأمة التي هو بين أظهرها، يفتري عليها الكذب بكل جراءة ووقاحة. لا يرى عليه حسيباً في الدنيا ولا محاسباً في الآخرة بريئة منه ومما نسبه إليه. فقد أجمعت الأمة قديماًً إجماعاً صحيحاً على قبول صحيح البخاري، وصحة ما فيه من أحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي كتاب "الحطة في ذكر الصحاح السنة" قال: "وأما الصحيحان: فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما
فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأن كل من يهون أمرهما فهو مبتدع، متبع غير سبيل المؤمنين". وقال الإمام عماد الدين بن كثير رحمه الله تعالى:"وكتاب البخاري الصحيح يستسقى بقراءته الغمام، وأجمع على قبوله وصحة ما فيه أهل الإسلام" وفي مقدمة فتح الباري على صحيح البخاري: قال أبو جعفر العقيلي: "لما صنف البخاري رحمه الله تعالى كتاب الصحيح عرضه على ابن ألمديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم. فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث". قال العقيلي: "والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة" وقال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: "إن الإجماع الصحيح من الأمة على أن النسخ الواقع في جملة أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام لا تبلغ عشرة أحاديث. قالوا: ولا شطرها". انتهى.
فأين هذا مما يزعمه هذا الملحد الضال على أحاديث صحيح البخاري، فضلاً عن جملة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؟.
قال الملحد: "وأما قولكم: إنا لا قصد لنا إلا الرجوع إلى الشريعة وإلى ما كان عليه السلف..الخ، فنسألكم: أي شريعة تعنون؟ وأي سلف تريدون؟ فإن قلتم: نعني الشريعة المحمدية ونريد الصحابة والتابعين قلنا لكم: فلنعم ما عنيتم، ونعم ما أردتم. لكنا لا نكون معكم كما قيل: أعمى يقود بصيراً، بل نطالبكم بالدليل لنكون باتباعكم كما نحن باتباع أئمتنا على يقين".
الجواب: أن هذا الملحد يخلق ما يقول، مستحلاً الكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى عباده المؤمنين. فنحن لم نقل: إن قصدنا الرجوع إلى الشريعة وما كان عليه السلف، لأننا لم نخرج عنهما، حتى ندعي الرجوع إليهما. ولم نسلك بحمد الله تعالى طريقاً غير طريق السلف الصالح من هذه الأمة. ولا نعرف شريعة غير شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وهي الشريعة التي ختم الله بها جميع الشرائع. فما وجه سؤال هذا الملحد واستفساره عن أي شريعة نعني؟
وعن أي سلف نريد؟ فهل عنده شرائع متعددة، أو سلف غير من حملوا هذه الشريعة المحمدية إلينا؟ حتى يورد علينا هذا السؤال اللائق به، وبكل أعمى ممن قلدهم، من الملحدين الصادين عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فالكتاب والسنة هما دليلنا وحجتنا. ومن قال بهما فهو إمامنا وليس لنا سلف إلا من أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى اتباع سنتهم، حيث يقول:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعه ضلالة" فأما الذين يدعون تقليد الأئمة الأربعة، وهم مخالفون لهم فيما هم مجمعون عليه، من النهي عن تقليدهم وتقليد غيرهم، ومع ذلك أيضاً يخالفون فيما هم مجمعون عليه من أصول الدين فضلاً عن فروعه: فدعواهم هذه من أبطل الباطل، بل حقيقتها المغالطة باسم تقليد الأئمة، لترويج باطلهم. يشهد لذلك ما نحن بصدد الرد عليه، مما جاء في رسالة هذا الملحد التي هي بين أيدينا، فقد حشاها بالبدع والشرك في عبادة الله تعالى، ناسباً عمله هذا إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى مذهب من قلده من الأئمة الأربعة، يرى ذلك كل مطلع عليها ممن نور الله بصيرته.
يقول هذا الملحد: "هذه كتب أئمتنا وأتباعهم- إلى قوله- أأنتم أعلم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وطريقة أصحابه وتابعهم، أم من تقدم ومضى من أعلام الفقهاء وأجلاء المحدثين والمفسرين والأولياء والفلاسفة والحكماء من أهل السنة؟ أرأيتم أم سمعتم أن أحداً منهم كان على غير مذهب من المذاهب الأربعة، أو أن أحداً منهم تصدى لوضع مذهب خامس؟ فالافتراء على الأحياء والأموات، وادعاء الإنسان بما ليس فيه سهل. لكن الامتحان يكشف الحق ويكب المبطل على وجهه، فتسود وجوه وتبيض وجوه" إلى آخر ما قاله من الهذيان الذي لا طائل تحته.
فأما قوله" "هذه كتب أئمتنا" فإن كان يقصد الأئمة الأربعة وأتباعهم المحققين لمذهب أئمتهم وما دونوه من الكتب الصحيحة المنقحة في مذهب كل
إمام منهم، فليس لنا اعتراض عليها ونحن أعلم بها منه فإليها نرجع، وهي الحكم بيننا وبين هذا المفتري الضال، والله خير الحاكمين.
وأما إن كان يريد الفلاسفة والحكماء ودحلان وأمثالهم: فلا نلتفت إليه ولا ننظر في كتبهم إلا لرد باطلهم، وتفنيد أكاذبيبهم.
الملحد ليس على مذهب من المذاهب الأربعة
…
وأما قوله: "أرأيتم أم سمعتم – إلى أخره" فالجواب أننا قد رأينا وسمعنا: أن هذا المعترض ليس على مذهب من المذاهب الأربعة، بل هو من المفترين عليهم وهو أيضاً من المفترين على الأحياء والأموات، وهو الذي يدعي لنفسه ما ليس لها. وعند الامتحان يوم القيامة: سوف ينكشف جهله ويظهر الحق على باطله، فيكبه الله على وجهه مسوداً يوم تبيض وجوه أهل السنة والجماعة. وسيأتي هو إن شاء الله تحت لواء مسيلمة الكذاب. لأنه قد وافق مسيلمة بالكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. أما شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: فسيأتي إن شاء الله تعالى تحت لواء سيد المسلمين لأنه من أنصاره والمجدد لما اندرس من ملته الحنيفية. فهو أحق بها وأهلها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة، الآية: 120] .
عقيدة الملحد في التوسل والرد عليها
…
قال المعترض: "المسألة الثانية في التوسل والزيارة إذا سبق القضاء بشقاء إنسان، تنوعت عليه أساليب إغواء الشيطان، وتفتحت له أبواب الشقاء، فيدخل الشيطان الكفر عليه والعياذ بالله تعالى من باب العبادة، من حيث يرى فيه ميلاً إليه. وقد دخل علي في واقعة حال وقعت لي وأنا في المدينة، فالتزمت التوسل ونذرت صدقه فأتاني من حيث يميل طبعي، فقال: إذا كان القضاء مبرماً والقدر مقدراً، فما فائدة التوسل والصدقة؟ فاتركهما والزم التوكل والتسليم فوقع في نفسي هذا الكلام وملت إليه لكن الله اللطيف أراني في تلك الليلة رؤيا عصمني بها من شر هذا الخبيث".
أقول: إنه مما يجب التنبيه عليه ههنا:
أولاً: هو بيان معنى التوسل والزيارة في عرف ومذهب هذا المعترض لئلا
يلتبس الحق بالباطل. فإن التوسل والزيادة عنده هما: دعاء الأموات استقلالاً من دون الله تعالى، والغلو بالقبور وأصحابها وجعلهما أوثاناً تعبد من دون الله تعالى. وهكذا يتذرع أعداء الله وأعداء رسول الله – لستر ضلالهم – بذكر الأسماء فقط، وقلب الحقائق. فيصادمون نصوص الكتاب والسنة، ويحرفونها عن مواضعها، وقد مهد هذا المعترض لما يسميه مسألة "التوسل والزيادة" بكلام هو أحق به. لأنه ينطبق على قوله وعمله وقد شهد بذلك على نفسه فقال:"وقد دخل علي الشيطان في واقعة حال وقعت لي وأنا في المدينة" إلى آخر القصة. فرجل – كهذا الأحمق – ينزل نفسه منزلة العلماء بل منزلة من يزعم أنه من الأولياء، يقر على نفسه بأن الشيطان دخل عليه فشككه في مسألة من الدين، لا تخفى إلا على الجهلة الطغام أمثاله. وهي أن التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة – من الدعاء ونذر الصدقات لوجه الله تعالى – ينافي التوكل على الله، والتسليم لقضائه وقدره، وأنه أيضاً أتاه الشيطان من حيث يميل طبعه، وهذه شهادة أخرى على جهله وأنه يميل إلى التشكك في أمور دينه. ولم يجد في كتاب الله تعالى ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يدفع به شر هذا الخبيث. حتى رأى رؤيا في المنام عصمه الله تعالى بها – بزعمه – من شر هذا الخبيث، والواقع أنه زاد استخذاءً له، وازداد تمكن الشيطان منه بزيادة غفلته وعماه عن هدى الله في كتابه وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
نقول: إن هذا رجل أجنبي عن دين الإسلام، فما هو دخل الرؤيا في الأحكام – نفياً أو إثباتاً – ثم ما غرض هذا المشعوذ من إيراد هذه القصة الزائفة، إلا ليزكي بها نفسه، ويعلن أنه من الأولياء الذين يزعم أنهم يأخذون الأحكام من ذات النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مشافهة. وذلك إما بطريق الرؤيا، أو بكشف الحجاب، وأن ذلك يغنيهم عن النظر في الكتاب والسنة؟ هذا ما يقوله فيما تقدم من رسالته هذه. ولولا تزكية هذا الأحمق لنفسه ما كان لإيراد هذه القصة معنى ولا فائدة، إلا فضيحة نفسه، والله تعالى لا يصلح عمل المفسدين.
وأما قول المعترض: "وقد يرمي الإنسان في شرك الشرك من طريق الطاعة
كما رمى الوهابيين وإخوانهم بإغواهئم على أن التوسل بجاه الرسول عليه الصلاة والسلام وزيارة قبره الشريف: شرك بالله ومناف للتوحيد، وأغواهم بما جاء في القرآن العظيم بحق المشركين. فذهب بإيمانهم تحت ستار العبادة، وغرس في قلوبهم بغض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاداته بتعليل الطاعة، ففسروا الزيارة بمعاني عبادة الأوثان، وشبهوا التوسل بما يفعله مشركو العرب وغيرهم فانظر ما أشقاهم وأحمقهم وأبعدهم عن الحق".
فنقول: إن دعوى المعترض على الوهابيين وإخوانهم بأنهم يقولون: إن التوسل بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره الشريف: شرك بالله ومناف للتوحيد، كذب وافتراء من المعترض، بل إن الوهابيين وإخوانهم يقولون: إن التوسل بجاه المخلوقين كافة لم يشرعه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا فعله أصحابه، ولا التابعون من بعدهم، ولا قال به الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى. وإذا كان ذلك كذلك فهو خلاف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم. وكذلك التابعون من بعدهم فيكون ذلك مردوداً على من جاء به بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية: "من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد" هذا ولو لم يكن في هذا الحدّث إلا مخالفة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام ومخالفة عمله وعمل أصحابه رضي الله عنهم والتابعين من بعدهم، لكفى في رده. فضلاً عن أنه من أعظم وسائل الشرك في عبادة الله تعالى، كما هو معروف اليوم من أعمال الجهلة الغلاة بالقبور والمقبورين.
وأما زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها عند الوهابيين من أفضل الأعمال، وكذا زيارة المسلمين فإنها سنّة، وذلك على ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته فيما علمه لأصحابه. وأما شد الرحال لزيارة القبور كافة: ففيها خلاف بين العلماء وحجة المانعين لشد الرحال إليها أقوى.
وأما قول المعترض: "وأغواهم بما جاء في القرآن العظيم بحق المشركين" فنقول: سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم، وسنة الغواية لما جاء في القرآن قول وخيم. وهذه جرأة من هذا المعترض تليق بحماقته وجهله، وإلا فإن القرآن العظيم قد جاء لهداية الخلق إلى الحق وإلى طريق السعادة، وتحذيرهم وإنذارهم على طريق الشقاوة والغواية. والقرآن عربي غير ذي عوج أنزله الله هي سنته صلى الله عليه وسلم وفيها بيان شرعه، وتفصيل ما أجمل في كتاب ربه، فلم يترك صلى الله عليه وسلم خيراً إلا دل أمته عليه، ولا شراً إلا حذرها عنه. وقال صلى الله عليه وسلم:"تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك".
افتراؤه بأن القرآن جاء بالتوسل بالرسل والأولياء
…
فقول المعترض: "إن ما جاء في القرآن العظيم بحق المشركين: هو الذي ذهب بإيمان الوهابيين تحت ستار العبادة" قول مفتر وقح. لا يعرف ما جاء في القرآن العظيم، بل هو من الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون. أما الوهابيون: فإن الكتاب والسنّة هما الإمام المتبع لهم، سالكين طريق السلف الصالح، من الصحابة والتابعين ومن تبعهم. لا يحيدون عن طريقهم ولا يقولون في كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم من عند أنفسهم، ولا ينفردون بقول لا يشهد له الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ومن تبعهم من الأئمة المحققين. ويعتمدون في القرآن على تفاسير الأئمة المتفق على إمامتهم، كتفسير الإمام محمد بن جرير الطبري، والإمام العماد ابن كثير وغيرهما من أئمة المفسرين. وأما السنّة المطهرة: فعندهم مدونات الحديث، كالصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها من كتب الحديث وشروحها لأئمة أهل الحديث. لا يقولون في شيء منها برأيهم، بل الحق ضالتهم مع من كان. فالوهابيون يعلمون أن نبيهم محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وأن الله تعالى أرسله للناس كافة بشيراً ونذيراً، وأنزل عليه كتاباً لا تغيير فيه ولا تبديل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأن ما جاء فيه من الأحكام والأمر والنهي والوعد والوعيد فه ولكافة الأمة المحمدية من أولها إلى آخرها حتى قيام الساعة. وأما القول بأن الآيات
التي نزلت بحق المشركين من العرب: لا يجوز تطبيقها على من عمل عملهم ممن يتسمى بالإسلام، لأنه يقول:"لا إله إلا الله" فهو قول من أغواه الشيطان فآمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، لأن مجرد اللفظ بقول "لا إله إلا الله" مع مخالفة العمل بما دلت عليه، لا تنفع قائلها ما لم يقم بحق "لا إله إلا الله" نفياً وإثباتاً. وإلا كان قوله لغواً، لا فائدة فيه، وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة. وقال:"إنها من حق لا إله إلا الله" إلى آخر الحديث. وروى الترمذي وصححه عن أبي واقد الليثي رضي الله عته قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنيني، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط فمررنا بسدرة. فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر. إنها السنن. قلتم والذي نفسه بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم" فأين هذا ممن يدعون الأموات استقلالاً من دون الله تعالى، ويصرفون لهم من العبادات ما لا يجوز صرفه لغير الله تعالى، ويعتقدون فيهم النفع والضر، والقدرة على ما لا يقدر عليه إلا الله تبارك وتعالى؟
فالمعترض يريد تعطيل أحكام الكتاب والسنّة وقصرها على من نزلت فيهم. وهذا القول يقتضي رفع التكليف عن آخر هذه الأمة، والرجوع بها إلى الجاهلية الأولى. أم الوهابيون وإخوانهم: فأنهم متمسكون بكتاب الله تعالى سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم وهما قدوتهم ومن قال بهما، فإنهما يدفعان عمن يتمسك بهما الغواية، ويغرسان في قلبه حبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وموالاته، ومعاداة من ألحد فيها وحرفهما عن مواضعهما، أمثال هذه الأحمق المستحق لوصفه بالشقاوة، والبعد عن الحق. والله تعالى هو الحكم العدل، وسيحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
ادعاؤه بأنه لا يجوز تطبيق صفات الكافرين والمشركين على المسلمين ولو عملوا مثل أعمالهم واعتقدوا مثل عقائده
…
قال المعترض: "ولو صح لهم هذا التأويل الباطل لكانوا هم أشد الناس شركاً لأنهم يزورون الأمراء والحكام، ويتزلفون إليهم، ويتوسلون ببعضهم في
حوائجهم بكل قول وعمل. وربما خاب أملهم بما يرجون فماذا علينا إذا توسلنا بجاه من فضله الله على كل خلقه في طلب نعيم دائم ورضا كريم. لا يمن ولا ينفع أو بقضاء حاجة دنيوية؟ فالمؤمن لا يعتقد لمخلوق فعلاً أو تأثيراً. وقد بسط العلماء الجواب عما يفعله العوام مما يظن أن فيه شبهة شرك، وما هي فيه. ونحن وإياهم ما نقصد بذلك إلا إتباع أمر الله تعالى باتخاذ الوسائل، وابتغاء الأسباب التي منها السعي والكسب والدعاء، واتخاذ الوسائط، والتوسل بجاه أحبابه. وكل هذا صريح في القرآن العظيم والسنّة. لكن إذا سبق الشقاء عميت الأبصار وضلت البصائر".
أقول: إن المعترض يعني بالتأويل الباطل: تطبيق الآيات القرآنية على جميع الأمة المحمدية، حتى تقول الساعة، فمن اتصف بصفات أهل الخير وعمل عملهم فهو منهم ومن اتصف بصفات أهل الشرك والكفر وعمل عملهم فهو منهم. لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة. حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ".
يقول المعترض: إننا نتأوَّل آيات نزلت بحق المشركين وقد مضوا. فمن تسمّى بالإسلام ولو عمل عملهم فأنه لا يضره ذلك، ولا يسمى مشركاً. وهذا قول من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وفساد هذا القول معلوم بنصوص الكتاب والسنّة التي لا تقبل تأويلاً. ولا يجهلها إلا معاند أو معرض عن معرفة ما فرضه الله تعالى عليه من واجبات دينه.
وأما قول المعترض: "إنهم بهذا التأويل يكونون أشد الناس شركاً لأنهم يزورون الأمراء والحكام
…
إلى آخره".
فإنه قول غبي أحمق، وهو أن دعاء الأحياء فيما بينهم ومخاطبة بعضهم بعضاً في قضاء حوائجهم، وسؤال الضعيف من القوي فيما هو تحت قدرته:
يكون كدعاء الأموات أو الغائبين، وسؤالهم ما لا يجوز سؤاله إلا من رب العالمين. بل يقول المعترض: إن بحق الأحياء أشد شركاً مما هو في حق الأموات والغائبين والله تعالى يقول في كتابه العظيم: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر، الآية:22] وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو عمل ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" ومن المعلوم بالحس والعقل أنه إذا مات الإنسان فقد انقطعت عنه كل صلة في هذه الحياة الدنيا، وانقطع عنه كل حبيب من قرب أو بعيد، وأفضى إلى عالم آخر، وبرزخ ينتظر فيه يوماً:{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج، الآية:2] لا يملكون لأنفسهم نفعاً. ولا يدفعون عنها ضراً فضلاً عن غيرهم أإله من الله أيها المشركون المتعلقون على الأموات؟
وأما الأحياء: فإنهم في دار التكليف، خلقهم الله تعالى لعبادته، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً، وقدرة وإرادة. وجعل منافعهم مشتركة فيما بينهم وأمرهم بالتعاون، ورفع بعضهم فوق بعض درجات. ليتخذ بعضهم بعضاً سُخررياً كل ذلك لحكمة، وهي عمارة هذا الكون الذي يجمعهم ويعيشون فيه ولولا ذلك لتعطلت الأسباب، واختل نظام العالم أجمع، فالمساواة بين الأحياء والأموات، وتكليف الأموات بأعمال الأحياء مخالف للمعقول والمنقول، بل للمحسوس الملموس المستقر في فطرة كل مخلوق، إلا من سلب عقله وينه، والحمد لله الذي عافانا.
وأما قول المعترض: "فماذا علينا إذا توسلنا بجاه مَم فضَّله الله على كل خلقه؟ " فقد تقدم الجواب عنه قريباً فلا نعيده.
وأما قوله: "فالمؤمن لا يعتقد أن لمخلوق فعلاً أو تأثيراً".
فالجواب: أن من يجعل المخلوق شريكاً لله تعالى في عبادته يخافه
ويرجوه، ويدعوه من دون الله تعالى لنفعه، وكشف ضره، إلى غير ذلك مما يصرفه له من أنواع العبادة: فأن هذا مشرك وليس بمؤمن وكيف يكون مؤمناً من يتعلق على الأموات، يخافهم ويرجوهم، وينذر لهم النذور ويقرب لهم القرابين، معرضاً عن رب كريم، قادر سميع بصير، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، إلى ميت عاجز قد انقطع عمله؟ والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة، الآية:186] ويقول تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل، الآية:62] .
ثم يقال لهذا المعترض الأحمق: من هم العلماء الذي تقول عنهم إنهم بسطوا الجواب عما يفعله غلاة عباد القبور من الشرك بالله عندها. وزعموا أن عملهم هذا ليس بشرك فلا بد أن هؤلاء العلماء الذين يقول عنهم المعترض هذا القول هم الذين قادوه إلى الضلالة، وأوقعوه في الهاوية، كدحلان وأمثاله من أئمة الضلال. وأما المغالطة وتحريف آيات الكتاب وأحاديث السنّة المطهرة فهذه هي بضاعة أهل الباطل.
وأما قوله: "ونحن وإياهم ما نقصد بذلك إلا إتباع أمر الله تعالى".
فهذه كذب على الله تعالى. فأن الله لم يأمر بأن يشرك معه أحد في عبادته و {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل، الآية:105] إن الذين صرح به القرآن هو النهي عن الشرك قليله وكثيره وتخليد المشركين في نار جهنم، وتحريم الجنة عليهم. وأما هذه الحجج التي ينتحلها المعترض فإنما هي حجج باطلة، بل مفاتيح لأبواب الشرك في عبادة الله تعالى، وما يقصد منتحلو هذه الحجج إلا إتباع أهوائهم، وما يسوله لهم الشيطان. فإن هذه الأسماء التي يغالطون بها من اسم "الوسيلة، والشفاعة، والوسائط" وغيرها مجرد أسماء مقلوبة الحقائق. وإنما هي دعاء غير الله تعالى وصرف عبادته لهؤلاء الأموات، الذي يزعمون أنهم وسائط بينهم وبين الله
تعالى وأنهم يشفعون لهم عند الله وقد جاء القرآن بتكذيبهم وتضليلهم ودحض باطلهم لا كما يدعي هذا الملحد.
قوله بحياة الرسول في قبره والرد عليه
…
وأما قوله: "وحيث إن هذه المسألة ذات فروع، ويتعلق بها مسائل أخر فأقسمها إلى مباحث:
المبحث الأول: في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم أن هذه المسألة من أهم المسائل التي اختلف فيها علماؤها ببعضهم، وهم والمعتزلة وغيرهم. وسببه عدم وجود نص في القرآن العظيم يبيّن كيفية حياته عليه الصلاة والسلام بعد وفاته، يؤيد الأحاديث الدالة على حياته الجسدية بعد وفاته، وحيث إن هذه الأحاديث مع أحاديث المعراج المشيرة لحياة بعض الرسل الذين رآهم عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة، وآيتي سورة البقرة وسورة آل عمران المذكور فيهما حياة الشهداء: تكون حجة قوية بإثبات حياته الجسدية من نص القرآن بقاعدة القياس التي هي أحد أصول الدين عندنا. فما أدري كيف غفل علماؤنا عنها؟ وذهب النافون منهم وراء تعاليل يعارضها النص والعقل
…
إلى آخر ما هذى به".
والجواب: أن في كلام هذا الأحمق من العجمة وسوء التعبير ما هو اللائق بجهله وحماقته. وقد جعل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم البرزخية بعد وفاته من فروع مسألة التوسل ومتعلقاتها. وثم مضى في بيداء جهله وإتّباع هواه يقلب الحقائق وينصر الباطل والله تعالى لا يصلح عمل المفسدين.
فأما قوله: "اعلم أن هذه المسألة من أهم المسائل التي اختلف فيها علماؤنا ببعضهم وهم والمعتزلة وغيرهم".
فنقول: إن هذه المسألة التي يعنيها الأحمق ليست كما قال: ذات أهمية لغموضها، وعدم بيانها إلا عليه وعلى علمائه الذين ذكرهم. وإلا فقد وردت بها نصوص الكتاب والسنّة، ولم يختلف أحد من علماء المسلمين المقتدى بهم في أن هذه الحياة البرزخية عامة لجميع الخلق. أما حياة الشهداء البرزخية التي
خصوا بها دون غيرهم فهي جزاء لهم على ما قاموا به من إجابة داعي الجهاد في سبيل الله تعالى وبيع أرواحهم لله ابتغاء مرضاته، وطلباً لوعده بأن لهم الجنة في الدار الباقية، يرزقون من نعيمها المقيم، في حياتهم البرزخية قبل غيرهم، لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى. لا أنهم يردون إلى الحياة الدنيا حياة الهم والحزن والتكليف، كما يريده لهم هذا الأحمق ومشايخه أمثال دحلان والنبهاني الذين يزعمون أنهم أحيوا بعد موتهم، وردوا إلى حياتهم الدنيا إلا أنّا لا نراهم، وأنه يسمعون دعاء من يدعوهم، ويجيبون سؤال من يسألهم. ويقولون فوق ذلك: إن الأموات أفضل من الأحياء، وأقرب إلى الله تعالى منهم. فهم أولى وأحق بأن يسأل منهم كل ما يجوز سؤالهم من الأحياء والله تعالى يقول:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر، الآية:22] .
وأما قوله: "إن سبب هذا الاختلاف هو عدم وجود نص في القرآن العظيم يبيّن كيفية حياته عليه الصلاة والسلام بعد وفاته".
فالجواب: أن هذا الأحمق قد غفل أو تغافل، أو جهل أو تجاهل، عما أنزله الله تعالى في كتابه الكريم، وما جاء في سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، حيث يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: الآيتان30-31] وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران، الآية:144]، وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء، الآيتان:34-35] ففي هذه الآيات قد سوى الله تعالى بين نبيه صلى الله عليه وسلم وبين كل مخلوق في الموت والبعث، والاختصام عنده تعالى. وقال سبحانه وتعالى عن عبده ونبيه عيسى عليه السلام:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة، الآية: 117] وأما السنّة فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابن آدم انقطع
عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" وروى البخاري في صحيحه حديث الحوض وفيه:"ليردن عليَّ أناس من أصحابي حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول: أصحابي. فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك" وروى البخاري أيضاً في صحيحه عن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني فرطكم على الحوض، من مر عليّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردن عليَّ أقوام لم أعرفهم، ثم يحال بيني وبينهم" قال أبو حاتم: فسمعني النعمان بن عياش فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم، فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري سمعته وهو يزيد فيه: "فأقول: إنهم من أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي". وروى البخاري عن ابن عباس رض الله عنهما قال: "لما حُضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال- فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده. فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك. فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا عني. فكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لنا ذلك، لاختلافهم ولغطهم". وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني مقبوض" وفي شرح المواهب اللدنية قال: ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال للناس: خذوا عني مناسككم، فلعلني لا ألقاكم بعد عامي هذا، وطفق يودع الناس. فقالوا: هذه حجة الوداع، فلما رجع من حجه إلى المدينة جمع الناس بما يدعي خَمًّا في طريقه بين مكة والمدينة. فخطبهم وقال- بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ- أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي، فأجيب. ثم خض على التمسك بكتاب الله تعالى ووصى بأهل بيته. وعن عائشة رضي الله عنها: "أن عمر رضي الله عنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يقول: والله
ما مات رسول الله، فجاء أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وقال: بأبي أنت وأمي، طبت حياً وميتاً. والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً. ثم خرج فقال: أيها الحالف، على رِسْلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر رضي الله عنهما، فحمد الله وأنثى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وقال:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر، الآية:30]، وقال تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران، الآية:144] قال: فنشج الناس يبكون" رواه البخاري. ثم قال: "فرجع عمر رضي الله عنه عن مقالته التي قالها" كما ذكره الوائلي أبو نصر عبد الله في كتاب "الإبانة" عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين بويع أبو بكر رضي الله عنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم استوى على منبره وتشهد عمر رضي الله عنه ثم قال: "أما بعد، فإني قلت لكم أمس مقالة، وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب الله تعالى، ولا عهد إليَّ رسول الله، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله حتى يدبرنا- أي يكون آخرنا موتاً أو كما قال- فاختار الله ع وجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم. وهذا الكتاب الذي هدى الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم. فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسوله صلى الله عليه وسلم". قال: واختلف في معنى قول أبي بكر رضي الله عنه: "لا يجمع الله عليك الموتتين" فقيل: هو على حقيقته وأشار بذلك إلى الرد على من زعم- هو عمر- أنه: "سيجئ فيقطع أيدي رجال" كما في البخاري في المناقب. قالت عائشة رضي الله عنها: وقال عمر: "وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم" لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى ثانية. إذ لا بد من الموت قبل يوم القيامة. فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين، كما جمعهما على غيره. كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف- أربعة، أو ثمانية، أو عشرة، أو ثلاثون، أو أربعون ألفاً- حذر الموت وهم قوم من بني إسرائيل وقع الطاعون
ببلادهم ففروا. فقال لهم الله: موتوا. فماتوا. ثم أحياهم بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيهم حزقيل. فعاشوا دهراً عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالفن، واستمرت في أسباطهم، وكالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها. قال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة، الآية: 259] .
وفيما أوردناه من نصوص الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة في كيفية وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وفي حياته البرزخية التي يقول عنها الملحد: إنه لا يوجد نص في القرآن العظيم يبيّن كيفية حياته البرزخية بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كفاية في فضيحته وإشهار جهله بكتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه أجنبي عنهما جملة وتفصيلا.
تناقضه بادعائه الاجتهاد الذي نفاه نفاه قبلا وتفسيره القرآن بهواه
…
ومع هذا الجهل المركب في هذا الملحد فهو يدعي الاجتهاد المطلق انظر إلى قوله:
"وحيث إن هذه الأحاديث مع أحاديث المعراج المشيرة لحياة بعض الرسل، الذين رآهم عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة، وآيتي سورة البقرة وآل عمران المذكور فيهما حياة الشهداء: تكون حجة قوية بإثبات حياته الجدية من نص القرآن بقاعدة القياس التي هي أحد أصول الدين عندنا. فما أدري كيف غفل علماؤنا عنها؟ وذهب النافون منهم وراء تعاليل يعارضها النص والعقل" إلى آخر كلامه.
فهذا الملحد الأحمق من الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وإن هم إلا يظنون. فقد لبس ثوب الاجتهاد المطلق في تأويل كتاب الله تعالى بعدما كان ينكر وجوده في هذه الأمة من بعد عصر الأئمة الأربعة، ويضلل من يقول ببقاء الاجتهاد في هذه الأمة إلى قيام الساعة، ويكفر أيضاً من يخرج من تقليد أحد الأئمة الأربعة ويقول:"إنه خارج عن الإسلام، كما خرج إبليس من بين الملائكة" وها هو الآن يخالف الأئمة الأربعة ويخالف علماء الدين الذين نعى عليهم غفلتهم، عما أحاطت به قريحته من الاستدلال على حياة الشهداء
الجسمية من نص القرآن بقاعدة القياس التي يقول إنها أحد أركان الشرع عندنا.
ويقول: "إن القياس المستعمل في الاستدلال ثلاثة: قياس اللغة، وقياس الدلالة، وقياس الشبه. وحيث إن بحثنا هذا ينطبق القياس فيه على قياس العلة والدلالة، كما سترى، فإن أنكر عليّ منكر فليأت بالبرهان الناقض".
ونحن نقول: لا برهان أصرح على فساد قياسك من انفرادك به، ومخالفتك للمعقول والمنقول، ولعلمائك الذين تدّعي تقليدهم، وإقراراك بذلك على نفسك حيث تقول:"فهذا ما ألقاه الله في روعي بدون أن أراه في موضع" فما هي قاعدة القياس التي تقيس بها الأموات على الأحياء، وتقيس بها الآخرة على الدنيا، فأقصر فلست عالماً ولا عاقلاً، وإنما أنت جاهل أحمق، وضعت نفسك في جملة الأئمة المجتهدين وأنت من جملة الأغبياء الضالين الممخرقين.
أقوال العلماء في الحياة البرزخية
…
ولما كان هذا الأحمق، قد أطال الكلام على آيتي سورة البقرة وآل عمران بمحض رايه تبعاً لهواه، وجخله المتناهي، الذي لا يستحق النظر فيه ولا الالتفات إليه. فإني ذاكر ما قاله بعض أئمة المفسرين على هاتين الآيتين، ليتبيّن جهله وضلاله، وأنه بوادٍ، وأئمة التفسير بواد آخر.
قال الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى: القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] يقول تعالى ذكره، يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر على طاعتي في جهاد عدوكم، وترك معاصيي، وأداء سائر فرائضي عليكم. ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله: هو ميت. فإن الميت من خلقي من سلبته حياته وأعدمته حواسه. فلا يلتذ لذة ولا يدرك نعيماً. فإن من قتل منكم ومن سائر خلقي في سبيلي أحياء عندي في حياة ونعيم وعيش هنيء، ورزق سني، فرحين بما آتيتهم من فضلي، وحبوتهم به من كرامتي. كما حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران، الآية:169] من ثمرات الجنة، ويجدون
ريحها، وليسوا فيها، حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال حدثنا يزيد، قال حدثنا سعيد عن قتادة قوله:{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] كما يحدث "أن أرواح الشهداء تتعارف في طير ببض، يأكلن من ثمار الجنة، وأن مساكنهم سدرة المنتهى" وأن للمجاهد في سبيل الله ثلاث خصال من الخير: من قتل في سبيل الله منهم صار حياً مرزوقاً. ومن غُلب آتاه الله أجراً عظيماً. ومن مات رزقه الله رزقاً حسناً. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] قال: "أرواح الشهداء في صور طير أبيض" حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154]"في صور طير خضر يطيرون في الجنة حيث شاءوا منها، يأكلون من حيث شاءوا" حدثني المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثن عثمان بن غياث، قال: سمعت عكرمة يقول في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] قال: "أرواح الشهداء في طير خضر في الجنة". فإن قال لنا قائل: وما في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] من خصوصية الخبر عن المقتول في سبيل الله الذي لم يعم به غيره. وقد علمت تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف حال المؤمنين والكافرين بعد وفاتهم. فأخبر عن المؤمنين أنه يفتح لهم من قبورهم أبواب الجنة يشمون روحها، ويستعجلون لله قيام السّاعة، ليصيروا إلى مساكنهم منها. ويجمع بينهم وبين أهليهم وأولادهم فيها. وعن الكافرين: أنه يفتح لهم من قبورهم أبواب إلى النار، ينظرون إليها، ويصيبهم من نتنها ومكروهها، ويسلط عليهم فيها إلى قيام الساعة، من يقمعهم فيها. ويسألون الله فيها تأخير قيام الساعة، حذراً من المصير إلى ما أعده الله لهم فيها،
مع أشباه ذلك من الأخبار؟ وإذا كانت الأخبار بذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما الذين خص به القتيل في سبيل الله مما لم يعم به سائر البشر غيره من الحياة، وسائر الكافر والمؤمنين غيره أحياء في البرزخ. أما الكافر فمعذبون فيه بالمعيشة الضنك، وأما المؤمنون فمنعّمون بالروح والريحان ونسيم الجنان؟ قيل: إن الذي خص الله به الشهداء في ذلك وأفاد المؤمنين بخبره عنهم تعالى ذكره، إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الجنة ومطاعمها في برزخهم قبل بعثهم، ومنعمون بالذي ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر، من لذيذ مطاعمها الذي لم يطعمه الله أحداً غيرهم في برزخه قبل بعثه. فذلك هو الفضيلة التي لضلهم وخصهم بها عن غيرهم. والفائدة التي أفاد المؤمنين عنهم، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران، الآيتان:169-170] وبمثل الذي قلنا جاء الخبر عن رسول الله صلى عليه وسلم: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان وعبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن محمود بن لبيد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة بكرة وعشياً" حدثنا أبو كريب قال: حدثنا جابر بن نوح عن الأفريقي عن ابن باشر السلمي- أو أبي بشار، شك أو جعفر- قال:"أرواح الشهداء في قباب بيض من قباب الجنة، في كل قبة زوجتان، رزقهم في كل يوم طلعت فيه الشمس: ثور وحوت، فأما الثور ففيه طعم كل ثمرة في الجنة. وأما الحوت: ففيه طعم كل شراب في الجنة" فإن قال قائل: فإن الخبر عما ذكرت أن الله تعالى ذكره، أفاد المؤمنين بخبره عن الشهداء من النعمة التي خصهم بها في البرزخ غيره موجود في قوله:{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} [البقرة، الآية:154] وإنما فيه الخبر عن حالهم أموات هم أم أحيا؟ قيل: إن المقصود بذكر الخبر عن حياتهم: إنما هو الخبر عما هم فيه من النعمة، ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عباده عما خص
به الشهداء في قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران، الآية:169] وعلموا حالهم بخبره ذلك. ثم كان المراد من الله تعالى ذكره في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} [البقرة، الآية:154] نهى خلقه عن أن يقولوا للشهداء: إنهم موتى، ترك إعادة ذكر ما قد بيَّن لهم من خبرهم. وأما قوله:{وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] فإنه يعني به: ولكنكم لا ترونهم فتعلمون أنهم أحياء، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به، وإنما رفع قوله:{أَمْوَاتٌ} [البقرة، الآية:154] بإضمار مكنى عن أسماء من يقتل في سبيل الله. ومعنى ذلك: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات، ولا يجوز النصب في "أموات" لأن القول لا يعمل فيهم. وكذلك قوله "بل أحياء" رفع بمعنى: أنهم أحياء. انتهى.
وقال على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج، الآية:58] يقول تعالى ذكره: والذين فارقوا أوطانهم وعشائرهم، فتركوا ذلك في رضي الله تعالى وطاعته وجهاد أعدائه. ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك ليرزقنهم الله يوم القيامة في جناته رزقاً حسناً. يعني بالحسن: الكريم، وإنما يعني بالرزق الحسن: الثواب الجزيل: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج، الآية:58] يقول: وإن الله لهو خير من بسط فضله على أهل طاعته وأكرمهم.
وقال على قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء، الآيتان:34-35] يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وما خلدنا أحداً من بني آدم يا محمد قبلك في الدنيا فنخلدك فيها. ولا بد لك من أن تموت كما مات من قبلك من رسلنا {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء، الآية:34] يقول: فهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون في الدنيا بعدك؟ لا، ما ذلك كذلك، بل ميتون بكل حال عشت أو مت. انتهى.
وقال الإمام عماد الدين ابن كثير على قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} [البقرة، الآية:154] الآية، يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون، كما في صحيح مسلم:"أن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت. ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطّلع عليهم ربك اطلاعه. فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا وأي شيء نبغي؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يُتركون من أن يسألوا قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نتقل فبك مرة أخرى، لما يرون من ثواب الشهادة. فيقول الرب جل دلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون" وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله إلى جسده يوم يبعثه" ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضاً، وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن، تشريفاً لهم وتكريماً وتعظيماً. قال الحسن: إن الشهداء أحياء عند الله تعالى، تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشياً، فيصل إليهم الوجع، انتهى.
وقال العلامة السيد محمود الألوسي في تفسيره "روح البيان" على قوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] أي لا تحسون ولا تدركون ما حالهم بالمشاعر. لأنها من أحوال البرزخ التي لا يُطّلع عليها ولا طريق للعلم بها إلا بالوحي- ثم ذكر ما ورد في ذلك عن السلف إلى أن قال- وأما القول في حياة هذا الجسد الرميم، مع هَدْم بنيته، وتفرق أجزائه، وذهاب هيئته، وإن لم يكن ذلك بعيداً عن قدرة من بدأَ الخلق ثم يعيده، لكن ليس إليه كثير حاجة. ولا فيه مزيد فضل، ولا عظيم منة. بل ليس فيه سوى إيقاع ضعفة المؤمنين بالشكوك والأوهام، وتكليفهم من غير حاجة بالإيمان بما يعدون قائله من سفهاء الأحلام، وما يحكى من مشاهدة بعض الشهداء الذي قتلوا منذ مئات السنين
وأنهم إلى اليوم تشخب جروحهم دماً إذا رفعت العصابة عنها، فذلك مما رواه هَيَّان بن بَيَّان وما هو إلا حديث خرافة. وكلام يشهد على مصدقيه بتقديم السخافة. هذا ثم إن نهي المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء "أموات" إما أن يكون دفعاً لإبهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البزرخ، وتلك خصوصية لهم، وإن شاركهم في النعيم- بل وزاد عليهم- بعض عباد الله تعالى المقربين، ممن يقال في حقهم ذلك، وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام، قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولم يروه أبداً. وليس في الآية نهي عن نسبة "الموت" إليهم بالكلية، بحيث إنهم ما ذاقوه أصلاً ولا طرفة عين، وإلا لقال تعالى: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله ماتوا. فحيث عدل عنه إلى ما ترى: علم أنهم امتازوا- بعد أن قتلوا- بحياة لائقة بهم، مانعة عن أن يقال في شأنهم "أموات" وعدل سبحانه عن "قتلوا" المعبر عنه في آل عمران إلى "يتقل" رَوْماً للمبالغة في النهي، وتأكيداً للفعل في تلك السورة، يقول مقام هذا العدول هنا كما قرره بعض أحبابنا من الفضلاء المعاصرين. انتهى.
ونحن نكتفي بهذا القدر من الرد على خرافات هذا الأحمق فيما ذكره في هذا البحث من التخليط، من دون أن نتتبع هفواته ومتناقضاته لأنها كلها جهل ومعارضة لنصوص الكتاب والسنّة كما بيّنا ذلك فيما أوردناه من الآيات والأحاديث وأقوال السلف الصالح وأئمة المفسرين. وكما أقر هو بذلك على نفسه في موضعين من بحثه هذا، وهو الذي يريد به إثبات الحياة الجسدية للشهداء والأنبياء، وهي الحياة التي يزعم أنها لا تختلف عن حياتهم في الدنيا يتصرفون فيها كيف شاءوا، ويسمعون ويجيبون، وينفعون ويضرون من دون الله. هذا هو غاية بحثه، ومنتهى قصده. أما الحياة التي شرف الله تعالى بها الشهداء ومن شاء من صالحي عباده، وزادهم فيها شرفاً بالعندية عنده تعالى: فليست في نظر هذا الأحمق شيئاً في جانب الحياة الدنيا، بل الحياة الدنيا عنده أفضل منها. لذلك تراه يحاول، ويعمن في تحريف الكلم عن مواضعه، لإثبات
أن أرواحهم ردت إليهم، وأنهم أذن لهم بالخروج والتصرف، كما نقل ذلك عن دحلان والنبهاني، وذلك نقلاً منهما عن السيوطي من كتاب "تقويم الحلك: له، إن صدق في النقل. وبعد هذا قال:"فإن قيل: أي علاقة لهذا البحث مع ما أنت بصدده؟ قلت: العلاقة كلية. لأنه إذا صح لنا دليل حياته صلى الله عليه وسلم الجسمية بعد وفاته- وقد صح بعون الله- تمهد لنا تقرير كل ما أنكروه علينا وحصل لنا بذلك فضيلة أخرى وهي نوع من الصحبة ولم ينقصنا من الصحبة التامة سوى رؤية ذاته الشريفة".
هذا ما قاله الأحمق في بيان مقصده من هذا البحث، وهو إثبات الحياة الجسمية الكاملة للشهداء والأنبياء، ليتسنى له تقرير ما أنكرناه عليه من تحريم دعاء الأموات والغائبين، وطلب الحاجات من المخلوقين فيما لا يقدر على إجابته إلا رب العالمين. ومع ما عليه هذا الملحد من الانحراف عن الصراط المستقيم، وكونه من الداعين إلى عبادة الأولياء والصالحين يزعم أنه حصل على نوع من الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لم ينقصه من الصحبة التامة إلا رؤية ذاته الشريفة. ولم يعلم هذا الجاهل الغبي: أنه من أعداء الله تعالى وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، المشركين في عبادته تعالى غيره. وقد غرَّه الغرور، قال تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر، الآية:8] .
افتراء الملحد على الوهابيين أنهم أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
…
قال الملحد: "واعلم يا أخي أن للوهابيين وإخوانهم أعداء الله ورسوله مطاعن كثيرة بالرسول عليه الصلاة والسلام، كلها من المكفرات، وإن كانت بحد ذاته من المضحكات، تجل عقول الصبيان عن التمسك بها. لكن علماء الحرمين والهند ما قصروا بواجباتهم بل أنزلوا على رؤوسهم صواعق الردود التي لا محيص منها إلا لذي وقاحة وقحة وسفاهة، كهذه الطائفة ومن على شاكلتهم".
أقول: على زعم هذا المفتري بأننا أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سبحانك هذا
بهتان عظيم، وهذا الزعم الباطل ليس بكثير ولا بمستغرب من الحاد مختار، لأنه سفيه أحمق، وليس له حظ من العلم والتقى، وإنما هو ممن اتخذ إلهه هواه، فزعن أننا أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم بغير برهان من الله تعالى. وما حمله على ما رمانا به من الافتراء علينا إلا أننا قد جردنا إتّباعنا لكتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وحققنا ما جاء بهما قولاً وعملاً، مقتفين أثر السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم من أئمة الهدى والدين، محققين لتوحيد الله تعالى في جميع أنوع العبادة، والبراءة من كل تعلق على غيره تعالى من الأموات وغيرهم، وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، ونذر النذور لهم وخوفهم ورجائهم، وغير ذلك مما يفعله عباد القبور ويسمون عملهم هذا "تشفعاً بهم إلى الله تعالى وتوسلاً بجاههم عنده" لأنهم يزعمون أنهم واسطة بين الله تعالى وبين عباده، يرفعون إليه حوائجهم، وهذا الملحد من ورثتهم، ومن الداعين إلى مذهبهم. وقد قال في صحيفة "53" من رسالته هذه:"إن القرآن صرح باتخاذ الوسائط والتوسل بجاه أحبابه". وقال في صحيفة "83" منها: "إن علماءنا ما قالوا بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء، وندبوا إليه من تلقاء أنفسهم. حاشاهم من ذلك، وهم أمناء الدين، وخلفاء الرسل، بل أخذوه من كلام الله وكلام رسوله أمراً وفعلاً".
فهذا ما يقوله الأحمق الملحد مفترياً على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فكيف لا يفتري على الوهابيين ويزعم أنهم أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؟ إذ إنهم يخالفونه في عقيدته الوثنية فأنكروها عليه، وعادوه من أجلها، وتبرأوا منه ومن كل مشرك مع الله غيره في عبادته.
وأما قوله: "إن للوهابيين مطاعن كثيرة بالرسول عليه الصلاة والسلام".
فهذا من الفجور وقول الزور، وقد سبق في أول رسالته هذه ما نقل عن دحلان من بهته وافترائه على الوهابيين، ما قد أشبعنا الرد عليه مفصلاً في محله ما أغنانا عن إعادته ههنا.
وأما قوله: "إن علماء الحرمين والهند ما قصروا بواجبهم من الرد على الوهابيين
…
إلى آخره".
فنقول: إن هذه سنّة الله التي قد مضت في خلقه، فما منهم إلا راد ومردود عليه، فمحق ومبطل. وقد قال تعالى:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود، الآيتان: 118-119] وقال إمام دار الهجرة مالك رضي الله عنه: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم نقول أيضاً: وهل أوذي أحد من خلق الله تعالى وعورض، ورد عليه أكثر مما أوذي وعورض أنبياء الله تعالى ورسله؟ وقد قال فرعون لعنه الله تعالى لقومه:{ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر، الآية:26]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف، الآية:179] فماذا علينا إذا رد علينا أمثال هؤلاء الحيارى الضالين ما دمنا متمسكين بكتاب ربنا، وبسنّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم مقتفين أثر سلفنا الصالح من الصحابة ومن تبعهم من أئمة الهدى الدين من هذه الأمة المحمدية؟
وأيضاً فإنه قد رد على هؤلاء الضلاّل المعتدين من قد حقق الحق وأبطل الباطل من علماء الهند المحققين من أهل الحديث، ومن علماء نجد والعراق وقد مضى ذكر ردودهم، وذكر مناظرة علماء الوهابيين مع علماء مكة بمكة، وذلك بحضور الشريف غالب، وأنه بعد المناظرة وإلزام علماء مكة الحجة من الكتاب والسنّة في جميع المسائل التي جرت فيها الخصومة بين الفريقين: أقر علماء مكة بأن الحق هو ما كان عليه الوهابيون، فرادعه ترى الحق واضحاً، فلا نطيل بترديد الكلام إتباعاً لهذا الأحمق المفلس من الحق والصدق.
وأما ما ذكره الملحد عن أحمد رضا خان: فإنه رواية. ولم يذكر من كلامه كلمة واحدة ونحن أيضاً لم نقف على شيء من كلام هذا الرجل، وحيث
إن من عادة هذا الأحمق الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى العلماء أيضاً من بعدهم، والجرأة على تحريف كلامهم مع ما اتصف به من الغباء والفهم العاطل، والنظر القاصر، اللذين لا يمكن أن يدرك معهما معاني كلام الله تعالى، ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يفرق بين أئمة الإسلام المحققين وبين المبتدعين الضالين، فليس هو أمين فيما ينقله أو بعزوه لعالم من علماء المسلمين.
وعلى تقدير صحة ما يقوله عن محمد رضا خان: هو بمعصوم، فقد يكون أرضى هذا الملحد في تعضيد باطله والله تعالى لا يرضى عن القوم الظالمين.
زعمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب استقلالا
…
وأما المسألة: "اطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم على علم الغيب".
فإن هذا الملحد، ومن أتبعه من المارقين من الدين، يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب استقلالاً، كما يعلمه الله تبارك وتعالى:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف، الآية:5] وهذا الزعم ينكره كل مؤمن بالله وبكتابه وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وكل مؤمن يؤمن بأن الله تعالى يطلق من يشاء من أنبيائه ورسله على بعض المغيبات. وهذه مسألة لا تحتاج إلى جدل، كيف؟ ونصوص الكتاب والكريم ناطقة بذلك. يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل، الآية:65]، ويقول تعالى:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف، الآية:188} ويقول تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف، الآية:9] وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} (الجن، الآيتان:26-27] وقال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام، الآية:50] فمن لم يقف مع هذه النصوص ويعطي كل ذي حق حقه فقد جعل مع الله إلهاً غيره.
عقيدته في الزيارة ودحض مفترياته
…
قال الملحد: "البحث الثاني: في الزيارة. اعلم يا أخي- شرح الله قلبي وقلبك بنور الإخلاص- إن لنا معشر المؤمنين وجداناً في حب نبيّنا عليه الصلاة والسلام يكفينا عن الاستدلال والاستشهاد على ما نحن في صدده، فيمن شاء فليتبعنا فيتذوق بما ذقنا، ولا تنازع في الأذواق".
أقول: في كلام هذا الجاهل من الركاكة وسوء التعبير ما هو اللائق بجهله وغروره في نفسهن إذ إنه لم يكن من الذين شرح الله صدورهم للإسلام، ونوَّر قلوبهم بنور الإيمان، المتلقى من مشكاة النبوة، وإنما هو من الجامدين على العادات الجاهلية والتقاليد والوثنية التي نشأوا عليها وحكموها في وجدانهم الضال، فجعلوها ديناً يقدمونها على كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. فلم يكن مصدر وجدانهم عن علم ولا هدى ولا نور، وإنما هي عن بلادة وتقليد أعمى وغرور بما ورثوا من الجهالات والضلالات والبعيدة كل البعد عن خالص الإيمان بالله وبرسوله وما جاء به من عند الله تعالى من تعزيزه وتوقيره وإتباع النور الذي أنزله معه. فمواجيدهم صادرة عن هوى نفوسهم الأمارة بالسوء، وعن وسوسة الشيطان الذي أضلهم عن سلوك سبيل المؤمنين، لذلك يقول الأحمق:"إنه يكتفي بوجدانه فيما يزعمه من حب نبيّنا عليه الصلاة والسلام عن الاستدلال والاستشهاد لما هو في صدده" ويعني به: ما سيذكره من الغلو الذي آله بهم إلى الكفر الشنيع، ومن ثم حذر ونهى الله عنه ورسوله في حقه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وفي حق كل مخلوق، وذلك فيما يموه به عباد القبور من اسم الزيارة عامة وزيارة قبره الشريف خاصة، فإن حقيقة هذه الزيارة عندهم هي دعاء الأموات وصرف خالص العبادة لهم من دون الله فاطر الأرض والسموات. وأما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم: فإنها تبع لمحبة الله تعالى. وقد ادعى قوم محبة الله تعالى، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران، الآية:31]، وكل من ادعى ما ليس فيه طولب بالدليل:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة، الآية:111] وكيف يدعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من هو خصم لدعوته إخوانه من الرسل، وهي توحيد الله
تعالى؟ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] ، وهذا الملحد وإخوانه من عباد القبور يصرفون العبادة للموتى الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ويسمونها زيارة القبور، ويقول هذا الأحمق بكل وقاحة:"فمن شاء فليتبعنا فيتذوق بما ذقنا، ولا تنازع في الأذواق".
فنقول له: ومن أنت أيها الجهول الظلوم الكفار، حتى تكون متبوعاً؟ ألست من حثالة الجهلة المقلدين؟ الدُّعاة إلى غير سبيل المؤمنين؟ فبعداً وسحقاً للقول الظالمين.
ثم يقال لهذا الإمعة: إن التنازع كل التنازع في الأذواق التي جعلتها أساس دينك، فبطل وانهار فوق رأسك:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر، الآية:8] ولولا التنازع في الأذواق، ما كن في الدنيا راد ولا مردود عليه، ولا كان شيطان أبي واستكبر وكان من الكافرين، ولا كنت وسلفك من أولياء الشيطان الرجيم.
ثم إن هذا الأحمق قام يتهوس بكلام كله نفاق ورياء لا يهمنا، وليس هو من موضوعنا في شيء إلا أنه زعم فيه:"أن من لم يرقص ويتمرغ في الرمل في عرفات" وما ذكر معه من هراء القول والسخرية حيث قال: "فإنه لا يشعر بشيء، ولا يدرك ولا يد لذة باغتنام أجر، ولا رغبة في زيادة فضل- إلى أن قال- بل قف في الحرم المكي، واصرف نظرك إلى الناس إذا قال المؤذن يا أرحم الراحمين ارحمنا. ترى من خَرَّ مصروعاً، ومن علا نحيبه وبكاؤه وشخص ببصره إلى السماء مندهشاً" إلى آخر ما هذى به من هذه الخرافات والنفاق الخالص الذي ينضح بخبيث الشرك والكفر والفسوق عن أمر الله وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم فإن هذا هو شأن هؤلاء المنافقين الدجالين الذين يتصنعون في هذه المجتمعات الشريفة أنواع الحيل لبلوغ في نفوسهم، مكراً وخداعاً، فليس
هؤلاء السفلة- إخوان الحاج مختار- أفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتقى لله، ولا أعرف به منهم. فإنهم لم يعملوا هذه الأعمال فلم يرقصوا ولم يتمرغوا في الرمل، ولم يصرعوا متخبطين، كما يصرع حزب الشيطان من وليهم الشطان الرجيم، وإنما كانوا كما وصفهم الله، وأثنى عليهم بقوله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد، الآية:28] .
ثم قال الأحمق: "أما الأحاديث الواردة بفضل زيارة الرسول عليه الصلاة والسلام، والأنبياء والأولياء والصالحين، وما يحصل منها من البركات والخيرات فهي أكثر من أن تجمع في مختصر مثل هذا" إلى آخر ما هذى به.
فالجواب: أن الزيارة الشرعية لقبور موتى المؤمنين من الأنبياء والأولياء والصالحين وكافة قبور المسلمين سنّة متفق عليها، لا خلاف فيها عند كافة المسلمين. وأما القبور الوثنية التي بنيت عليها القباب، وأقيمت عليها الأستار والأنصاب، وبنيت عليها المساجد، فكل ذلك مما لعن رسول الله فاعله، وكذلك الزيادة البدعية الشرعية المخالفة لهدى الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم من القرون المفضلة، وما يحدث بسببها من الغلو بأصحاب القبور وما يُصْرف لهم من أنواع العبادات من الدعاء والخوف والرجاء ونذر النذور لهم، وغيرهم مما لا يجوز صرفه لغير الله تعالى. فإن هذه هي الزيارة المحرمة وصاحبها ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه هي الزيارة التي ننكرها وينكرها كل من نوَّر الله بصيرته بهدى الإسلام، ورزقه فهماً صالحاً يميز به بين الحق والباطل.
وأما من أغواهم الشيطان: فإنهم يجعلون مع الله تعالى آلهة أخرى، يصرفون لهم ما لله من العبادة من الدعاء والخوف والرجاء، وغير ذلك مما عليه عباد القبور من الغلو بأصحابها، وهذا أمر واقع لا ينكره إلا مكابر معاند، أمثال الحاج مختارة من قلدهم.
وأما قوله: "إن الشيطان أغوانا، وإننا نزعم أن زيارة قبور الرسل والأنبياء والتوسل بجاههم شرك بالله تعالى".
فهذا كذب، والذي ننكره من ذلك هو ما صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه وكل ما فيه صرف حق الله تعالى لغيره كما تقدم ذكره آنفاً.
وأما قوله: "أننا نتزلف للأمراء، وأن هذا التزلف منا أقبح من عبادة الأوثان والأصنام".
فهذا القول من هذا الملحد من هذر المجانين، ونزغات الشياطين، التي تحلى بها وبأمثالها من الأقوال الباطلة هذا الأحمق.
إقامة المواليد بدعة وضلالة
…
وأما قوله: "زعموا أن القيام في المولد الشريف بدعة.
فالجواب: أن القيام والقعود وإقامة الموالد كله بدعة، إذا يقترن بها ما هو واقع فيها اليوم من المفاسد وأنواع الفسوق. فإذا انضمت إليها هذه المنكرات التي يجب أن صان عنها جناب المصطفى صلى الله عليه وسلم ويطهر ذكره عن أوساخها، فلا يشك عاقل- فضلاًً عن عالم- في أنها من البدع المحرمة التي لم تكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عهد أصحابه ولا القرون المفضلة من بعدهم. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية: " من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد".
فهل لهذا الملحد أن يأتينا بدليل عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم في إقامة هذه الموالد، أو عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، أو أحد من التابعين، أو أحد من الأئمة الأربعة؟ وإذا كان هذا ليس معروفاً من أقوال وأفعال من ذكرناهم فلا شك ولا ريب في أنه مردود على قائله، مأزور فاعله بنص حديث عائشة رضي الله عنها الذي قدمناه آنفاً.
قال الملحد: "تتبعت المظان من الكتب لأعرف أول قائل بهذه الضلالة،
وداع إليها. فما وجدت لها أثراً عن أحد من علماء أهل السنّة قبل الشيخ أحمد بن تيمية، فتعقبت ما عرفت من مؤلفاته، لأقف على نص صريح له فوجدته ذكر هذه المسألة في موضعين من كتابه "الجواب الصحيح" الأول في صحيفة (121) من الجزء الأول، والثاني في صحيفة (55) من الجزء الثاني. نقل في الأول حديث:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وحديث: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" وحديث:"لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". ثم قال: إلى أمثال ذلك مما فيه تجريد التوحيد لله رب العالمين، صم استطرد في تشبيه ما جاء في هذه الأحاديث بعبادة الشمس والقمر والأوثان والصور والسجود لها والاستشفاع بها وبأصحابها- إلى أن قال-: وإن كان يذكر عن بعض الأنبياء تصوير صورة لمصلحة فإن هذه من الأمور التي قد تنوعت فيها الشرائع بخلاف السدود لها، والاستشفاع بأصحابها. فإن هذا لم يشرعه نبي من الأنبياء ولا أمر أحد قط من الأنبياء أن يدعي غير الله عز وجل، لا عند قبره ولا في مغبيه، ولا يتشفع به في مغيبه بعد موته، بخلاف الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ويوم القيامة وبالتوسل به بدعائه والإيمان به، فهذا من شرع الأنبياء عليهم السلام، وانتهى. فانظر ما في هذا الكلام من التلاعب والتقلب، والقياس الفاسد، والتهور الذي أدخله في زمرة محرفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواضعه، فالأحاديث التي استدل بها وحرفها صريحة في النهي عن الجلوس على القبور، كما يفعله أهل زماننا نساء ورجالاً والصلاة إليها، كما يفعله الوثنيون. ليس فيها نهي عن الزيارة، ولا تشبيه من يزور قبر نبي أو غيره بعابد الشمس والقمر وغيرهما. وسيأتي حيث النهي عن الزيارة ثم إباحتها، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يزور أهل البيقع، ويستغفر لهم. ونعوذ بالله من الغلو المؤدي إلى خرق إجماع الأمة من عهد الرسول إلى اليوم، وتشبيه كافة المسلمين بعبادة الشمس والقمر والأوثان. ولا يغرنك ما رأيته من استثناء الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه حصر الاستثناء في حياته ويوم القيامة ومن هذا الحصر تفهم
اعتقاده بتحريم زيارة القبر الشريف، والتمويه بعدم إنكاره ما جاء في كلام الله، وإنكاره الأحاديث الواردة بحق الزيارة والتوسل والاستشفاع. فهل بعد هذا الضلال ضلال؟ والعياذ بالله.
وأما كلامه الثاني: فإنه بعدما نقل آيات في حق المشركين قال: وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] فالمسيح صلوات الله وسلامه عليه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه، لم يأمر أحد من الأنبياء بأن يعبد ملك، ولا نبي، ولا كوكب، ولا وثن. ولا تسأل الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب ولا نبي ولا ملك فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة ويقول: اشفعوا لنا إلى الله. انتهى.
فانظر ما في هذا الكلام من الخلط والضلال:
أولاً: قياسه التوسل والاستشفاع على عبادة النصارى والوثنيين للصور والأوثان.
ثانياً: جعل الاستشفاع والتوسل بهذا القياس من المكفرات.
ثالثاً: استثناء الأحياء والحاضرين وحصر التحريم بالأموات والغائبين، وإدخال الملائكة مع الأموات والغائبين. مع أن الملائكة ليسوا أمواتاً ولا غائبين والتوسل والاستشفاع بالحي أقرب لمظنة الشرك من الميت، وجميع الفرق المشركة ما قالوا بألوهية حدثت لميت بعد موته، بل كلهم قالوا بألوهية أحياء وكلهم ينكرون موت آلهتهم، وسيأتي في البحث الثالث إن شاء الله من كلام الله تعالى رسوله ما يثبت به ضلال هذا المضلّ ويدحض افتراءه على الله وأنبيائه، فلعمر الحق إن كلام هذا الرجل إن لم يكن عن فسق وزيغ فهو أجدر بالجنون واختلال العقل".
والجواب أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم. إن هذا الملحد الدجال بعدما افترى ما افتراه على الوهابيين من الكذب: بأنهم يقولون: "إن التوسل
بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره الشريف شرك باله، ومناف للتوحيد" إلى آخر ما نسبه إليهم من الأكاذيب الباطلة التي لا تجوز المغالطة فيها، بل ي إفك مبين. قد أوفيناها حق الرد عليها من نصوص الكتاب والسنّة بما أزهق باطلها، فهو هنا يتعرض بالافتراء على شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه يزعم أنه إمام الوهابيين وأنهم يقلدونه.
تحريف الملحد لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وصرفه عن معناه
…
يقول هذا الملحد: "إنه تتبع المظان من الكتب ليرى أول قائل بهذه الضلالة وداع إليها" إلى آخر كلامه الذي نقلناه هنا بالحرف الواحد.
فإن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الذين نقله الملحد من كتاب الشيخ المذكور ليس فيه كلمة واحدة تدل على ما زعمه هذا المفتري من أن ابن تيمية يحرم فيه زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر قبور المسلمين، بل كله في تحقيق التوحيد لله تعالى، وفي الرد على النصارى فيما بدلوه من دين المسيح عليه السلام، وما جاءوا به من الغلو الشنيع، وعلى اليهود وغيرهم من أهل الملل الضالة وكل من تشبه بهم وسلك سبيلهم ممن جاءوا من بعدهم، لتحذر هذه الأمة المحمدية سلوك سبيلهم، قارعاً أسماعهم بالآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة النبوية، وكلها نصوص صريحة في لعن هؤلاء الغلاة، ولعن من تشبه بهم سالكاً سبيلهم، لا تقبل تأويلاً ولا مغالطة، كما تعمده هذا الملحد من صرفه لمعاني كلام شيخ الإسلام وتحريفه له عن مواضعه، ونسبته إلى الشيخ من القول ما لم يقله بل ولم يشر إليه بحرف واحد.
لذلك رأيت أن أبلغ رد على هذا الملحد، وبياناً لكذبه وافترائه هو أن أبرز كلام شيخ الإسلام الذي زعم أنه نقله من كتاب الشيخ:"الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" كاملاً مجرداً عن تعليقه عليه، ومغالطاته ليراه كل مطلع عليه من أهل العلم والتحقيق، فيعلموا براءة شيخ الإسلام مما رماه به هذا الدجال، ويتحققوا جراءة هذا الملحد على أئمة المسلمين في الافتراء عليهم، وتحريف كلامهم عن مواضعه. فأن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يتعرض في كلامه هذا
لمسألة زيارة القبور كافة، لا بتحريم ولا كراهة لأن زيارة القبور سنّة متفق عليها عند جميع المسلمين فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بها، وعلمها لأصحابه، فمن فعلها كما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمها لأصحابه فهو عامل بسنّة، مأجور عليها ومن أهمل العلم بها فهو تارك لسنّة غير مأزور بتركها.
وأما المسألة التي يتكلم عليها شيخ الإسلام: فهي أم مسائل دين الإسلام وهي تحقيق التوحيد لله تعالى، وإفراده بجميع أنواع العبادات. وهذا التوحيد هو معنى "لا إله إلا الله" لا مجرد لفظها، وبهذا أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ليكون الدين كله لله تعالى. فأين مسألة زيارة القبور- التي هي سنّة- من هذه المسالة- التي هي أصل دين الإسلام؟ {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم، الآية:59] ولكن هذا الملحد ومن قلدهم من دعاة الوثنية سموا دعاء الأموات وصرف أنواع العبادات لهم بزيارة القبور، فضلوا وأضلوا كثيراً من الجهلة عن سواء السبيل.
نص كلام شيخ الإسلام ابن تيمية
…
وهذا نص كلام شيخ الإسلام الذي حرفه الملحد بقصد المغالطة.
قال في"ج1، ص 122،121".
فلما ظهر دين المسيح عليه السلام بعد أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة- في بلاد الروم واليونان: كانوا على التوحيد، إلى أن ظهرت فيهم البدع، فصوروا الصور المرقومة في الحيطان، وجعلوا هذه الصور عوضاً عن تلك الصور. وكان أولئك يسجدون للشمس والقمر والكواكب، فصار هؤلاء يسجدون إليها إلى جهة الشرق التي تظهر منها الشمس والقمر والكواكب، وجعلوا السجود إليها بدلاً عن السجود لها ولهذا جاء خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه الذي ختم الله به الرسالة، وأظهر به من كمال التوحيد ما لم يظهر من قبله. فأمر صلى الله عليه وسلم أن لا يتحرى أحد بصلاته طلوع الشمس ولا غروبها، لأن المشركين يسجدون لها تلك الساعة. فإذا صلى الموحدون لله عز وجل في تلك الساعة صار ذلك نوع مشابهة لهم، فيتخذ ذريعة إلى السجود لهاز وكان من أعظم
أسباب عبادة الأصنام: تصوير الصور وتعظيم القبور. ففي صحيح مسلم وغيره عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأمرني أن لا أدع قبراً مُشْرِفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته" وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا" وفي الصحيحين أنه قال قبل موته بخمس ليال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك". ولما ذكرت له أم سلمة وأم حبيبة كنيسة بأرض الحبشة- وذكرتا من زخرفها وتصاوير فيها- قال: "أولئكِ كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا تلك التصاوير، أولئكِ شرار الخلق عند الله" متفق عليه. ونهي: " أن يستقبل الرجل القبر في الصلاة" حتى لا يتشبه بالمشركين الذي يسجدون للقبور. ففي الصحيح أنه قال: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" إلى أمثال ذلك مما فيه تجريد التوحيد لرب العالمين، الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله. فأين هذا ممن يصور صور المخلوقين في الكنائس ويعظمها، ويستشفع بمن صُوّرت على صورته؟ وهل كان أصل عبادة الأصنام في بني آدم من عهد نوح عليه السلام إلا هذا؟ والصلاة إلى الشمس والقمر والكواكب والسجود إليها ذريعة إلى السجود لها. ولم يأمر أحد من الأنبياء باتّخاذ الصور والاستشفاع بأصحابها ولا بالسجود إلى الشمس والقمر والكواكب، وإن كان يذكر عن بعض الأنبياء تصوير صورة لمصلحة، فإن هذا من الأمر التي تتنوع فيها الشرائع بخلاف السجود لها، والاستشفاع بأصحابها. فإن هذا لم يشرعه نبي من الأنبياء ولا أمر قط أحد من الأنبياء أن يدعى غير الله عز وجل، لا عند قبره، ولا في مغيبه، ولا يتشفع به في مغيبه ولا بعد موته. بخلاف الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وفي يوم القيامة، وبالتوسل به بدعائه، والإيمان به. فهذا من شرع الأنبياء عليهم السلام. ولهذا قال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف، الآية:45] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ
لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل، الآية:36]، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس، الآية:18] وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ. لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر، الآيات:1-4] .
انتهى ما أشار إليه المعترض من كلام الشيخ في صحيفة "120" وما بعدها من الجزء الأول.
ثم نسوق بعده نص كلام الشيخ في "ج5، ص55" من "الجواب الصحيح" الذي ذكره الملحد.
قال الشيخ رحمه الله تعالى في سياق الرد على النصارى في دعواهم نفي الشرك عن أنفسهم، مستدلين على ذلك بالآية الكريمة، وهي قوله تعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة، الآية:82] .
قال: وأما قولهم: "ونفى عنا اسم الشرك" فلا ريب أن الله تعالى فرق بين المشركين وأهل الكتاب في عدة مواضع، ووصف من أشرك منهم في بعض المواضع، بل قد ميز بين الصابئين والمجوس، وبين المشركين في بعض المواضع وكلا الأمرين حق، فالأول: كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة، الآية: 1] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج، الآية:17]، وقال تعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة، الآية:82]، وأما وصفهم بالشرك ففي قوله:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، الآية:31] فنزه نفسه تعالى عن شركهم. وذلك أن أصل دينهم: ليس فيه شرك، فإن الله إنما بعث رسله بالتوحيد، والنهي عن الشرك كما قال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف، الآية:45]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل، الآية:36]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] فالمسيح صلوات الله وسلامه عليه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه، لم يأمر أحد من الأنبياء بأن يعبد ملك، ولا نبي ولا كوكب ولا وثن، ولا أن تسأل الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب ولا نبي ولا ملك، فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة، ويقول: اشفعوا لنا إلى الله، ولا يدعو الأنبياء ولا الصالحين من الموتى والغائبين. ويقول: اشفعوا لنا إلى الله، ولا نصور تماثيلهم ولا مجسدة ذات ظل، ولا مصورة في الحيطان. ولا يجعل دعاء تماثيلهم وتعظيمها قربة وطاعة، وسواء قصدوا دعاء أصحاب التماثيل وتعظيمهم والاستشفاع بهم، وطلبوا منهم أن يسألوا الله تعالى وجعلوا تلك التماثيل تذكرة بأصحابها، أو قصدوا دعاء التماثيل، ولم يستشعروا أن المقصود دعاء أصحابها، كما فعله جهال المشركين، وإن كانوا في هذا جميعه إنما يعبدون الشيطان. وإن كانوا لا يقصدون عبادته فإنه قد يتصور لهم في صورة ما، يظنون أنها صورة الذي يعظّمونه. ويقول: أنا الخضر، أنا المسيح، أنا جرجس، أنا الشيخ فلان، كما وقع هذا لغير واحد من المنتسبين إلى المسلمين والنصارى. وقد يدخل الشيطان في بعض التماثيل فيخاطبهم وقد يقضي بعض حاجاتهم.
فبهذا السب وأمثاله: ظهر الشرك قديماً وحديثاً وفعل النصارى وأشباههم ما فعلوا من الشرك.
انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه اله تعالى من كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" فقد نقلناه بالحرف الواحد مبسوطاً، لما كما تصرّف فيه هذا الملحد في تحريف لفظه ومعناه للتمويه على الجهال.
وبذلك يعلم كل مطلع عليه بطلان ما نسبه هذا الملحد الكذاب، لشيخ الإسلام ابن تيمية بأنه يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر قبور المسلمين ففيما أبرزناه من نص كلام الشيخ- الذي يغالط فيه هذا الملحد- كفاية لرد افترائه على ابن تيمية.
حنقه على شيخ الإسلام لتحقيقه توحيد الله تعالى وإفراده بجميع أنواع العبادات
…
وأما ما تمادى فيه هذا الملحد من الفجور وقول الزور، في حق شيخ الإسلام ابن تيمية من وصفه له بأنه م المحرفين لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورميه بالفسق والجنون والافتراء على الله وأنبيائه- إلى آخر ما هذى به من الفجور وقول الزور- فليس هذا بغريب من هذا الملحد المتناقض، الذي قد اتخذ إلهه هواه. نعوذ بالله من زيغ القلوب، ومن العمى والضلال بعد الهوى. لقد شهد هذا الملحد في رسالته هذه لشيخ الإسلام ابن تيمية بأنه إمام جليل، مقتدى به، وأنه من أهل الحق والإنصاف، وأنه من أجلاء علماء أهل السنّة الذين كانوا وما زالوا على هذا الهدى، وهذا الصراط المستقيم "راجع صحيفة 17 و25 من رسالته هذه" ترى هذه الشهادة من هذا الملحد للشيخ، وبعدها بقليل يرمي الشيخ بهذه الفظائع التي لا تليق ولا تنطبق إلا على من اختلقها. وهو هذا الملحد الذي قد حازها جميعاً متضلعاً بها قولاً وعملاً.
إن الذين أثار غضب هذا الملحد على شيخ الإسلام: هو تحقيق الشيخ لتوحيد الله تعالى، وإفراده بجميع أنواع العبادة، ورده على اليهود والنصارى ما غيروه من دين أنبيائهم، فجعلوا مع الله آلهة أخرى، بسبب الغلو الذي أوجب لعنهم على لسان نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، محذراً أمته أن تسلك سبيلهم، وهذا السبيل
هو الذي يدعو إليه هذا الملحد ومن اقتدى بهم من أئمة الضلال. وإننا نجل شيخ الإسلام ابن تيمية أن نعرّض باسمه مدافعين عنه، أو ناشرين من فضائله ما يلجم كل منافق مارق، متطاول على أئمة المسلمين بالشتم والكذب، من أمثال هذا الملحد بل نعده من الكلاب النابحين. وقد قيل:
فما على العنبر الفواح من حرج
…
إن مات شمه الزَّيَّال والجُعَل؟
أو هل على الأسد الكرار من ضرر
…
أن ينهق العير مربوطاً أو البغل؟
أو هل على الأنجم الزهراء منقصة
…
إن عابها من حضيض البيد منجدل؟
وفي كتاب "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية" لأبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد بن حفص العطار. قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري قال: حدثنا خلف بن تميم قال: حدثنا عبد الله بن السري عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا علن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل على محمد" وبسنده إلى عبيد الله بن موهب بن عصمة بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمقام أحدكم في الدنيا يتكلم بكلمة حق يرد بها باطلاً، أو يحق بها حقاً، أفضل من هجرة معي".
إن هذا الملحد ومن قلدهم من دعاة الشرك في عبادة الله تعالى- أمثال دحلان والنبهاني- ممن جعلوا الأموات وسائط بين الله عباده، وصرفوا لهم خالص العبادة من دون الله تعالى. هؤلاء هم الذين أضلوا كثيراً من جهلة المسلمين وفتحوا لهم أبواب الشرك في عبادة الله تعالى. وسموها زيارة القبور، وطلب الشفاعة من أهلها، وأن الأموات هم وسيلة الأحياء إلى الله تعالى، لأنهم أقرب منهم إلى الله تعالى، وسواء سموا هؤلاء المدعوين أنبياء أو أولياء فإنهم عباد الله تعالى. يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر، الآيتان:2-3] ويقول تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر، الآيتان:43-44] إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة، نصوص بهذا المعنى لا تقبل تحريفاً ولا تأويلاً. قد صدّ عنها هؤلاء الوثنيون الذي تجب محاربتهم وإشهار ضلالهم، وتحذير جهلة المسلمين من سلوك سبيلهم عملاً بهذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قول الملحد: "ولا أطيل الرد عليه لأن جمهوراً من علماء عصره، منهم الإمام السبكي ألقوا كتاباً بالرد عليه، وإثبات مخالفته للسنّة والكتاب والإجماع. فلما قام محمد عبده مفتي مصر المعلوم بإحياء هذه الضلالة طبع رسالة بالرد على الإمام السبكي، زعم أنها تأليف أحد تلاميذ شيخه ابن تيمية. فلما عرف علماء مصر مصدرها، تصدى للرد عليه نخبة من علماء القاهرة منهم الشيخ إبراهيم السمنودي، برسالة سماها "نصرة الإمام السبكي: استوفى فيها إبطال كافة أضاليله".
والجواب: أن الذين ردوا على شيخ الإسلام ابن تيمية: هم الذي خالفوا الكتاب والسنّة والإجماع بل خالفوا جميع ما جاءت به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي بعثهم الله تعالى بكلمة التوحيد وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له وإمام هؤلاء المخالفين هو السبكي الذي رد عليه علماء عصره وأئمة مذهبه. فقد كشفوا ما لفقه من الشبهات، وهدموا ما بناه على جرف هار من المغالطات، بعد أن صار بها إماماً للمبتدعين. فمن الذي ردوا عليه: الحافظ أحمد بن محمد بن عبد الهادي، في كتاب سماه "الصارم المنكبي في الرد على السبكي" فضح به دس السبكي وتدليسه، فيما أورده من الأحاديث الضعيفة والمكذوبة، وما حرف معناه من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم مستدلاً بها على جعل قبور الأنبياء ومن دونهم من الأموات كعبة يحج إليها ويطاف بها. وتنذر النذور لها وتسفك دماء القرابين لساكنيها في سوحها، إلى أمثال هذه الضلالات التي فتح السبكي أبوابها للجهال الذي لا يفرقون بين الحق والباطل
وسماها "شفاء السقام في زيارة خير الأنام".
قال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في مقدمة كتابه "الصارم المنكي": أما بعد، فإني وقفت على الكتاب الذي ألفه بعض قضاة الشافعية، في الرد على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى في مسألة شد الرحال، وإعمال المطي إلى القبور. وذكر أنه قد سماه "شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة" ثم زعم أنه اختار أن يسميه "شفاء السقام في زيارة خير الأنام" فوجدت كتاب مشتملاً على تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة، والآثار القوية المقبولة، وتحريفها عن مواضعها وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً، معجباً برأيه، متبعاً لهواه، ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة، والآراء الساقطة، صائراً في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المحيلة، والحجج الداحضة. وربما خرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها، ولم يوافقه أحد من الأئمة عليه. وهو في الجملة: لون عجيب، وبناء غريب. تارة يسلك فيما ينصره ويقويه مسلك المجتهدين، فيكون مخطئاً في ذلك الاجتهاد، ومرة يزعم فيما يقوله ويدعيه أنه من جملة المقلدين، فيكون من قلده مخطئاً في ذلك الاعتقاد. نسأل الله سبحانه أن يلهمنا رشدنا، ويرزقنا الهداية والسداد. هذا مع أنه إن ذكر حديثاً مرفوعاً أو أثراً موقوفاً- وهو غير ثابت- قبله إذا كان موافقاً لهواه، وإن كان ثابتاً رده إما بتأويل أو غيره، ما يوافق رأيه قبله، وإن كان مطعوناً فيه غير صحيح عنه، وإن كان مما يخالف رأيه رده ولم يقبله، وإن كان صحيحاً ثابتاً عنه وإن حكى شيئاً مما يتعلق بالكلام على الحديث، وأحوال الرواة عن أحد أئمة الجرح والتعديل- كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وأبي حاتم بن حبان البستي، وأبي جعفر العقيلي، وأبي أحمد بن عدي، وأبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك، وأبي بكر البيهقي، وغيرهم من الحفاظ- وكان
مخالفاً لما ذهب إليه لم يقبل قوله، ورده عليه، وناقشه فيه وإن كان ذلك الإمام قد أصاب في ذلك القول، ووافقه عليه غيره من الأئمة، وإن كان موافقاً لما صار إليه تلقاه بالقبول. واحتج به واعتمد عليه، وإن كان ذلك الإمام قد خولف في ذلك، ولم يتابعه غيره من الأئمة عليه. وهذا هو الجور والظلم، وعدم القيام بالقسط. نسأل الله التوفيق ونعوذ به من الخذلان، وإتباع الهوى. إلى أن قال:
فانظر إلى كلام هذا المعترض المتضمن لرد النقل الصحيح بالرأي الفاسد، واجمع بينه وبين ما حكاه عن شيخ الإسلام من الافتراء العظيم والإفك المبين، والكذب الصراح. وهو ما نقله عنه من أنه جعل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: معصية بالإجماع، مقطوع بها. هكذا هذا المعترض عن بعض قضاة الشافعية عن الشيخ أنه قال هذا القول الذي لا يشك عاقل من أصحابه وغير أصحابه أنه كذب مفترى، لم يقله قط، ولا يوجد في شيء من كتبه، ولا دل عليه كلامه، بل كتبه كلها ومناسكه وفتاويه، وأقواله تشهد ببطلان هذا النقل عنه. ومن له أدنى علم وبصيرة يقطع بأن هذا مفتعل مختلق على الشيخ، وأنه لم يقله قط. وقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات، الآية:6] إلى أن قال:
فلما وقفت على هذا الكتاب المذكور أحببت أن أنبه على ما وقع فيه من الأمور المنكرة، والأشياء المردودة، وخلط الحق بالباطل، لئلا يغتر بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين، مع أن كثيراً مما فيه من الوهم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين بالعلم بأدنى تأمل، ولله الحمد. ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغلو والتشنيع والتلبيس: لطال الخطاب، ولبلغ الجواب مجلدات، ولكن التنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم. والله المستعان. إلى أن قال:
ثم ختم الكتاب بجمع الألفاظ الواردة في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ذكر قبل ذلك بعدة أوراق كلاماً يشير به إلى التشنيع على شيخ الإسلام وهو قوله: "ولا شك أن من قال: لا يزار أو لا يسافر لزيارته، ولا يستغاث به بعيد من الأدب معه. نسأل الله العافية".
لم يحرم شيخ الإسلام ابن تيمية زيارة القبور على الوجه المشروع بل منع تعظيمها وشد الرحال إليها اتباعا للسنة
…
وليعلم قبل الشروع في الكلام مع هذا المعترض: أن شيخ الإسلام لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه، ولم ينه عنها ولم يكرهها، بل استحبها، وحض عليها. ومناسكه ومصنفاته طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر القبور.
ثم ذكر طرفاً من نصوص كلام شيخ الإسلام في مناسكه باستحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها. قال في آخره: هذا كلام الشيخ بحروفه وكذلك سائر كتبه، ذكر فيها استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم القبور وإنما تكلم على مسألة شد الرجال وإعمال المطي إلى مجرد زيارة القبور، وذكر في ذلك قولين للعلماء المتقدمين والمتأخرين:
أحدهما: القول بإباحة ذلك، كما يقوله بعض أصحاب الشافعي وأحمد.
الثاني: أنه منهى عنه، كما نص إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى.
ولم ينقل عن الأئمة الثلاثة خلافه وإليه ذهب جماعة من أصحاب الشافعي وأحمد. هكذا ذكر الشيخ الخلاف في شد الرحل، وإعمال المطي إلى القبور، ولم يذكر في الزيارة الخالية عن شد رحل وإعمال مطي والسفر إلى زيارة القبور. ومسألة زيارتها من غير سفر مسألة أخرى. ومن خلط هذه المسألة بهذه المسألة وجعلهما مسألة واحدة، وحكم عليهما بحكم واحد، وأخذ في التشنيع على من فرق بينهما، وبالغ في التنفير عنه فقد حرم التوفيق، وحاد عن سواء الطريق
واحتج الشيخ لمن قال بمنع شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور بالحديث المشهور المتفق على صحته وثبوته، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" هكذا أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما بصيغة الخبر "لا تشد الرحال" ومعنى الخبر في هذا معنى النهي، يبين ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تشدوا الرحال إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" هكذا رواه مسلم بصيغة النهي ورواه الإمام إسحاق بن راهويه في مسنده بصيغة الحصر: "إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: مسجد إبراهيم، ومسجد محمد، ومسجد بيت المقدس". وقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة النهي: "لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس" هذا هو الذي فعل الشيخ، حكى الخلاف في المسألة بين العلماء واحتج لأحد القولين بحديث متفق على صحته. فأي عتب عليه في ذلك؟ ولكن نعوذ بالله من الحسد والبغي، وإتباع الهوى. والله سبحانه المسؤول أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه، من العمل الصالح، والقول الجميل، فإنه يقول الحق وهو يهدي السبيل.
انتهى المقصود من نقل ما أردنا نقله من مقدمة كتاب "الصارم المنكي في الرد على السبكي" لبيان طريقة هؤلاء الوثنيين وأئمتهم الضالين، وما يموهون به على الجهال من ذكر الأسماء مع تغيير الحقائق والادعاءات الكاذبة.
وأما قول الملحد: "فلما قام محمد عبده إلى آخر ما قاله في حقه من الافتراء، مستنداً إليه أنه هو الذي طبع كتاب "الصارم المنكي في الرد على السبكي" وأنه بطبع هذا الكتاب أحيا هذه الضلالة" ويعني بهذه الضلالة: تحقيق التوحيد لله تعالى وحده لا شريك له، والرد على عباد القبور وأمثاله.
فالجواب: أن طابع الكتاب المذكور هو الشيخ الجليل السيد عبد القادر التلمساني رحمه الله تعالى.
أما الشيخ الإمام محمد عبده: فإن المعلوم عنه هو تحقيق التوحيد لرب العالمين وتجريد الأتباع لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فمضمون كتاب "الصارم المنكي في الرد على السبكي" مطبوع في قلب الإمام محمد عبده، وفي أعماله وأقواله التي حاز بها إمامة أهل السنّة في زمانه، رحمه الله تعالى، وأعلى مقامه في جنات النعيم بما قام به من نصر الحق وقمع الباطل وأهله.
كل من تصدى للرد على شيخ الإسلام كانوا من حثالة المقلدين
…
وأما قول الملحد: "بأن الشيخ إبراهيم السمنودي قد انتصر للسبكي".
فإنه انتصار مزعوم وبشهب الحق مرجوم، لأنه لم يستند في انتصاره إلى ركن وثيق من كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل إلى شبهات وضلالات قلد فيها السبكي:
حجج تهافت كالزجاج تخالها
…
حقاً، وكلٌّ كاسر مكسور
فالسمنودي وأمثاله كلهم من حُثالة المقلدين، ومن الذين لا تقول بهم الحجة ولا يلتفت إلى ما قالوه لمخالفتهم الكتاب والسنّة في تحقيق توحيد الله الذي بعث به رسله في إخلاص العبادة له وحده لا شريك له، ولسلوكهم سبيل من حذر النبي صلى الله عليه وسلم سلوك سبيلهم ممن جعلوا مع الله آلهة أخرى.
وأما ما نقله الملحد عن الشيخ خليل أحمد الهندي،: فما كان منه موافقاً في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية، مع سائر قبور المسلمين. فهذه الزيارة مما هو متفق عليه عند جميع أهل السنّة، وأما ما خالف الزيارة الشرعية التي علمها الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومضى عليها الصدر الأول من الصحابة والتابعين ومن تبعهم فمردود على من جاء به، لمخالفته لنصوص الكتاب والسنّة.
وكذلك ما نقله الملحد عن النبهاني فيما ذكره في كتابه "الفضائل المحمدية" عن السبكي وابن حجر المكي: أنهما ألفاً كتباً مستقلة في فضل زيارة
الرسول عليه الصلاة والسلام. فهذه الزيارة الشرعية- كما قدمنا- ليس فيها ولا في فضلها خلاف. وقد مضت عليها القرون المفضلة، عاملين فيها بسنّة نبيهم عليه الصلاة والسلام حتى جاء السبكي وابن حجر المكي الهيثمي ومن قلدوهم، فجعلوا القبور مساجد، وصرفوا لها ولأهلها مخ العبادة من دون الله تعالى، وسموها زيارة القبور. وما ذكروه من الأحاديث فإنه دائر بين الضعيف والموضوع وقد تكلم عليها لحافظ ابن عبد الهادي في كتابه "الصارم المنكي" وذكر أقوال علماء الحديث في أسانيدها حال رواتها وأنها لا تصلح لمعارضة نصوص الكتاب والسنّة.
وما نقله الملحد عن الإمام النووي والقاضي عياض والغزالي: فإنه في الزيارة الشرعية التي لا خلاف فيها، وإنما هو يريد المغالطة بذكر أسماء هؤلاء الأئمة الذين هو ألد أعدائهم.
قال الملحد: "وذكر الشيخ الزرقاني في شرح المواهب إجماع السادة المالكية على وجوب زيارة القبر الشريف، وأقام النكير على ابن تيمية وأتباعه الذين اتهموا الإمام مالك بالمنع".
والجواب: أن هذا الملحد لا تأخذه لومة لائم في الكذب على أئمة المسلمين وتغيير كلامهم عن مواضعه. وقد تكرر منه هذا العمل، متعمداً متبعاً لهواه {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص، الآية:50] وقد نبهنا عليه فيما تقدم.
والآن نورد كلام الشيخ الزرقاني بالحرف الواحد من كتابه "شرح المواهب" لفضيحة هذا الملحد المفتري:
قال الشيخ الزرقاني رحمه الله تعالى "ج8، ص297" من شرح المواهب: وقد أطلق بعض المالكية- وهو أبو عمران موسى بن عيسى الفقيه الفاسي- إنها، أي الزيارة واجبة. قال: ولعله أراد وجوب السنن والمؤكد طلبها بحيث شبهت بالواجب، وقد صرح الجمال الإقفهسي في شرح الرسالة بأنها سنّة
مؤكدة، وقال القاضي عياض في الشفاء: إنها سنّة من سنن المسلمين، مجمع عليها، أي على كونها سنّة مأثورة، وفضيلة مرغب فيها. انتهى.
وقال في صحيفة "298" من الجزء المذكور، ولابن عدي في الكامل وابن وآخرين، كلهم عنابن عمر مرفوعاً:"من حج ولم يزرني فقد جفاني" ولا يصح إسناده. وعلى تقدير ثبوته فليتأمل قوله "فقد جفاني" فإنه ظاهر في حرمة ترك الزيارة لأن الجفاء بالمد ويقصر، نقيض الصلة: أذى، والأذى حرام بالإجماع. فتجب الزيارة إذ إزالة الجفاء واجبة وهي- أي إزالة الجفاء- بالزيارة، فالزيارة حينئذ واجبة ولا قائل به إلا الظاهرية، انتهى.
فأين هذا مما يزعمه الكذاب الحاج مختار على السادة المالكية؟ جزاه الله بما جزى به الكاذبين أمثاله.
قال المعترض الأحمق: "قلت: إن من لم يجاور في المدينة مدة ما، أو يأتيها في الموسم لا يعرف من أحوالها والمعجزات الظاهرة فيها شيئاً، أما وفود الزوار فلو جاء أعداء الله ورسوله إلى المدينة المنورة في شهر محرم، حينما يأتي الزوار القافلون من الحج، ورأوا مئات ألوف من مسلمي أقطار الأرض يطوفون حول الحجرة الطاهرة في الصباح، وبعد العصر وكل منهم ينادي بلغته، ويتوسل بلسانه متوسلاً بصاحب الشفاعة لائذاً بحماه، وسمعوا عجيجهم وثجيجهم، وبكاءهم ونحيبهم، لعميت عيونهم، وانفطرت قلوبهم، وانشقت أفئدتهم. وقال العاقل منهم: كل هؤلاء الناس على ضلال ونحن على هدى؟ إن هذا محال، وهزؤ لا تتصوره عقول العقلاء".
أقول: يزعم هذا الملحد المارق بأننا أعداء لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وما ذنبناعنده إلا إتّباعنا لكتاب الله تعالى وسنّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وهو أننا لا نغلو بالقبر وأصحابها ولا نصرف للمقبورين حقاً من حقول الله تعالى، ولا نتخذها مساجد، ممتثلين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم فيما جاءتنا به الأحاديث الصحيحة الصريحة، التي
خرَّجها البخاري ومسلم وأهل السنن والإمام مالك رحمهم الله تعالى، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وحديث ابن مسعود رضي الله عنه:"إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذي يتخذون القبور مساجد" وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وحديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل. فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نُزِل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفِقَ يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغْتَمَّ بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت عائشة رضي الله عنها: يُحذِّر ما صنعوا، ولولا ذلك لأُبرز قبره. ولكن خَشِي أن يتخذ مسجداً". وفي رواية لمسلم: "وصالحيهم" ومع هذه النصوص التي لا تقبل المغالطة، فقد بلغ الغلو بهذا الملحد مبلغاً من الشرك لم يصل إليه إلا عبدة الأصنام. يقول عنا:"إننا لو جئنا إلى المدينة المنورة في شهر محرم حينما يأتي الزوار القافلون من الحد ورأينا ما يفعله مئات ألوف الحجاج من مسلمي كافة الأقطار حول حجرة الرسول الطاهرة ومن الطواف والتوسل واللواذ بحماه، ونسمع عجيجهم وثجيجهم وبكاءهم ونحيبهم، لعميت عيوننا وانفطرت قلوبنا، وانشقت أفئدتنا- إلى آخر ما ذكره".
ونحن نجيب هذا المارق: بأنه قد يصيبنا أكثر مما ذكره إذا رأينا وسمعنا ما يقوله عنهم مم يغضب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وذلك أسفاً منا على المسلمين الذي بدلوا الهدى ضلالاً، والوحيد شركاً، وطاعة الرسول ومشاقة. وكيف لا ينفطر قلب كل مسلم يرى تغيير معالم الدين، ويسمع الشرك برب العالمين في
مهبط وحيه، وفي حرم نبيه صلى الله عليه وسلم وفي جوار قبره الشريف؟ فهل فرض الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الطواف بغير الكعبة؟ وهل فعل ذلك الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان من القرون المفضلة؟ وهل كان العجيج والثجيج والبكاء والنحيب إلا لله وحده لا شريك له في مناجاته في الخلوات، وفي بيته الحرام ومشاعر الحج التي جعلها الله قياماً للناس وأمناً، ويؤدون فيها مناسكهم بين العجيج والثجيج والبكاء والنحيب، لا يذكرون غير الله تعالى، ولا يتوسلون إليه إلا بالأعمال الصالحة عائذين بجلاله تعالى، لائذين بحماه الذي لا يرام {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة، الآية:186] ، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل، الآية:62] هذا هو خالص العبادة لله تعالى، بل مخها، صرفه عباد القبور لو لائجهم الموتى من دون الله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة، الآية:5] ، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة، الآية:59] وما سبب ذلك إلا الغلو بالصالحين، ومجاوزة الحد الذي شرعه الله تعالى من حقوق أنبيائه وأوليائه. قال تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة، الآية:77] وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح، الآية:23]"هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح لما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا لهم أنصاباً، وصوروا تماثيلهم. فلما مات أولئك ونسي العلم: عبدت". وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله" وقال صلى الله عليه وسلم لمن قال له: "ما شاء الله وشئت": "أجعلتني لله نداً؟ قل: ما شاء الله وحده".
وأما استدلال الملحد بالكثرة: فجوابه قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام، الآية:116] .
وأما باقي كلام هذا الأحمق: فليس له قيمة، وليس هو من موضوعنا في شيء. إلى أن قال:
"وجماع القول في هذه المسألة التي وقع إجماع المسلمين من أهل السنّة والشيعة على فضلها ووجوبها: هي من جملة الأمور التي خرق الوهابيون وإخوانهم الإجماع بحظرها وإنكارها، ومرقوا بهذا الخرق من الإجماع، وخلعوا ربقة الإسلام من عنقهم، والعياذ بالله تعالى".
أقول: إن أراد الملحد بهذه المسألة: زيارة القبور الشرعية، فقد كذب علينا، بل ي عندنا سنّة مؤكدة كما أشرنا إلى ذلك في مواضع كثيرة من ردنا هذا. ولم مخالف بحمد الله إجماع المسلمين في زيارة القبور الشرعية. وإن أراد الملحد بالمسألة التي ادعى إجماع المسلمين والشيعة على فضلها ووجوبها: ما عليه الشيعة اليوم من الغلو بالقبور وأهلها، وعبادتهم إياها من دون الله تعالى ومن سل سبيلهم ممن يدعون الإسلام، وأنهم من أهل السنّة، فهؤلاء ليسوا من أهل السنّة، بل هم من عبدة الأوثان. فالوهابيون بريئون منهم جميعاً. ومن إجماعهم، وينكرون ما هم عليه من عبادة الأصنام، وإن سموها بما شاؤوا من الأسماء التي سماها بها أسلافهم من المشركين فهذا هو الشرك بالله تعالى، وهو خرق إجماع المسلمين وصاحبه قد خلع ربقة الإسلام من عنقه حقيقة، لا كما يدعيه هذا المارق على حزب الله تعال وحزم رسوله الموحدين أهل السنّة والجماعة.
ثم قال المعترض: "فصل. وأما زيارة سائر القبور من المسلمين ففي إباحتها أحاديث كثيرة بأسانيد صحيحة، فمنها: ما رواه إمامنا مالك رحمه الله في باب جامع الوضوء من موطئه عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة. فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا
إن شاء الله بكم لاحقون. إلى آخر الحديث" وهذا الحديث رواه مسلم والقاضي عياض والنووي وغيرهم. وروى الإمام أيضاً فيه عن سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهيتكم عن لحوم الأضاحي، فكلوا وتصدقوا وادخروا. ونهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام. ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ولا تقولوا سوءاً" انتهى.
زيارة القبور الشرعية ليست مباحة فقط، بل هي سنة مؤكدة
…
أقول: إن زيارة قبور المسلمين ليست مباحة فقط، كما فهم الغبي الأحمق، بل هي سنّة مؤكدة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها، كما هو صريح في هذين الحديثين. ولم يرد في ذلك تخصيص لقبر نبي أو ولي. وكل ما روي في ذلك لا نصيب له من الصحة باتفاق أئمة المسلمين المعول على اتفاقهم. وقد أورد الملحد هذين الحديثين- مع أنهما حجة عليه- لما فيهما من البيان الواضح عن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره. وذلك في تحديد زيارة القبور الشرعية، والنهي عن الغلو فيها، وعن قول السوء، ومع ذلك كله فالملحد مخالف لكل ما جاء فيهما من أمر أو نهي من صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام. فهو كالحمار يحمل أسفاراً ل يدري ما يقول، ولو أنه فهم أن ما جاء فيهما هادم لكل ما يتعلق به عباد القبور أمثاله من الشُّبه والضلالات لنكص على عقبه عن إيرادهما. فأي سوء أسوأ وزور أقبح من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحادته عن الإعلان بأن مئات الألوف من المسلمين الوافدين من أقطار الأرض يطوفون حول قبر الرسول، ويلوذون بحماه، ويصرخون بدعائه والاستغاثة به في حوائجهم الدنيوية والأخروية؟ هل هناك أسوأ وأقبح من هذا؟ فضلاً عما يصنعونه بقبور موتاهم الآخرين من الشرك في عبادة الله تعالى، وهو دعاء الأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات ونذر النذور، وتقريب القرابين لهم في حضرتهم، خاضعين متذللين لهم، راجين رضاهم قبل رضاء رب العالمين، مسمين أعمالهم هذه بزيارة القبور، وتعظيم أهلها ليرضوا عنهم، فيرفعون حاجاتهم إلى الله تعالى قائلين كما أسلافهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، الآية:3] ، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس، الآية:18] هذا ما يلبس به
السبكي وابن حجر المكي ومقلدوهم، أمثال دحلان والنبهاني ومقلدهم الملحد مختار العظمي.
فهؤلاء الوثنيون يتعلقون بالأسماء ويغيرون الحقائق من نصوص الكتاب والسنّة، ويحرفونها عن مواضعها، ويعارضونها بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، محتجين بها على فتح أبواب شركهم وضلالهم الذي أضلوا به كثيراً من جهلة هذه الأمة، مقتفين في ذلك أثر من حذرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم عن سلوك سبيلهم. وذلك فيما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة في لعن متخذي القبور مساجد، لأنه من الغلو الذي نهى الله تعالى عنه وهو أصل عبادة الأصنام. ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه:"ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً" فهؤلاء المبتدعة أئمة الضلال- من ذكرناهم آنفاً- يتعمدون الكذب وتحريف الكلم عن مواضعه، إتباعاً لهوائهم، ويلبسون الحق بالباطل على الجهال. وهذه هي بضاعتهم الضالة الخاسرة التي هي تحليل الشرك في عبادة الله تعالى، وتسميته بزيارة القبور وهذا الملحد يستدل هنا على إباحة زيارة القبور بالأحاديث الشريفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيها:"نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة، ولا تقولوا سوءاً" لكن هذا الملحد يستدل بها على إباحة زيارة القبور فقط، أما ما دلت عليه ودعت إليه من معنى الزيارة والقصد منها، وما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه: فإن هذا الملحد لم يرفع به رأساً، ولم يلتفت إليه، بل صد عنه وصادم أمر النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد أعمى الشيطان أولياءه من الجاهليين وأصمهم عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"وتذكر الآخرة" فمروا عليها مر اللئام، ولم يحاولوا أن يفهموا ما أراده منها الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن معناها البين: أن الزيارة المشروعة التي أبيحت بعد الحظر: إنما هي للقبور الدارسة التي تذكر بالدار الآخرة. أما القبور المشيدة المعظمة ببناء القباب والمساجد عليها والتي يطاف بها، ويدعي أصحابها مع الله فلا يزال النهي منصباً عليها. كما حقق ذلك الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان في كلامه على الزيارة الشرعية والبدعية.
ليس قصد التبرك من زيارة القبور إلا على دين المشركين الأولين
…
وقد قال الملحد في الصحيفة الثانية بعدها: "وإن سمعت من عامي كلاماً يفهم منه اعتقاد التأثير، فما هو إلا من عجزه عن التعبير الشرعي. لكن قلبه غير زائغ وإن رأيته يقبِّل الأعتاب والأبواب والجدران فليس عن اعتقاد شيء بها، كما يعتقده عبدة الأوثان بل لا قصد له إلا التبرك بها".
فهل غاب عن هذا الملحد: أن هذا التبرك هو ما أراده المشركون الأولون حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، الآية:3]{وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس، الآية:18] بل أين هذا التبرك مما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. فيما رواه الترمذي عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حُدَثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم: والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون. لتتبعن سنن من كان قبلكم" فهل طلب الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم إلهاً كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلهاً، أم طلبوا أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها، ويستظلون وينوطون بها أسلحتهم كما هي للمشركين؟
ثم انظر إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد جمع بين الطلبين، وجعلهما متحدذين في المبنى والمعنى، وأقسم على ذلك بأعز قسم وأعظم وأخلصه، بأنَّ طلبهم هذا كطلب بني إسرائيل من موسى. فهل يشك من يعقل عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في أن ما يعمله غلاة القبوريين اليوم عندها: أنه هو الشرك الذي هو كفر الله به المشركين، ولعنهم عليه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وإن اختلفت عباراتهم، كما يزعمون. فقد اتفقت أعمالهم فالأصل يجمعهم، والوعيد يشملهم والله تعالى يحاسبهم بما اتفقوا عليه من ظاهر أعمالهم وباطنها قولاً وعملاً، وسبباً موصلاً إلى ما أقسم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الأسماء لا تغير الحقائق.
خلط الملحد بين التوسل والاستشفاع والاستغفار
…
قال الملحد: "البحث الثالث في التوسل والاستشفاع والاستغفار: كلها ألفاظ مختلفة معناها واحد عند العلماء. لكن لما كان يتطرق لفهم العوام التوسل ما لا يتطرق لفهمه من الاستغفار والاستشفاع. فذكرته في بحث على حدة. وبالله أستعين".
والجواب: أن قول الملحد بأن التوسل والاستشفاع والاستغفار ألفاظ مختلفة، معناها واحد عند العلماء قول مبني على مذهب علمائه الذين قلدهم أر دينه. أمثال دحلان والنبهاني، ممن أشركوا المخلوق في خالص حق الخالق في عبادته التي لا يجوز صرف شيء منها لغير الله تعالى. مما هو معلوم من أعمال عباد القبور من دعاء أهلها وخوفهم ورجائهم، ونذر النذور لهم، وسفك دماء الذبائح والقرابين لهم، سائلينهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، إلى غير ذلك من أنواع العبادات ويسمونها زيارة القبور، والتوسل، والوسيلة، والتشفع، والشفاعة، والاستغفار. ويقولون: إن هذه كلها ألفاظ مختلفة. معناها واحد، وطلبها من الأموات والغائبين جائز ومن أنكرها فقد خرق إجماع المسلمين وتنقص الرسل والصالحين، وأنكر كراماتهم، وهكذا يغالط هؤلاء الوثنيون بالأسماء مع تغيير الحقائق. انظر إلى خرط هذا الملحد وتخليطه، ومخرقته التي تدل على عدم توفيقه لتعمده سلوك غير سبيل المؤمنين.
يقول الملحد: "إذا نظرت بعين البصيرة رأيت التوسل بمعنييه- اللغوي والمصطلح- ناموس جعله الله في الكون لصالح الإنسان في أمر حياته ومعاشه في الدنيا. لا يستغنى عنه إلا من عصمهم الله، والشرع ما أنكره، كما أنكره هؤلاء الحمقى، مع تلبسهم فيه، وعدم استغنائهم عنه، ولا حسبه شركاً. كما حسبوه، بل أباحه. لكن المنكر منه اعتقاد التأثير من غير الله وهو الشرك الخفي. ومع أنك ترى أكثر الناس واقعين في هذا الشرك الخفي، سيما المعتقدون خلق الأفعال، ومنهم من يعتقد يقيناً أن الإنسان يضر وينفع، كما يعتقد بتأثير الأعراض. كالعَدْوَى والأدوية وأمثالها. لكنك لا تجد مؤمناً يعتقد بالرسول عليه
الصلاة والسلام هكذا اعتقاداً، بل غاية اعتقاده: التوسل بجاهه، مع التفويض لله تعالى. وإن سمعت من عامي كلاماً يفهم منه اعتقاد التأثير، فما هو إلا عن عجزه عن التعبير الشرعي، لكن قلبه غير زائغ. وإن رأيته يقبِّل الأعتاب، والأبواب والجدران فليس عن اعتقاد شيء بها، كما يعتقده عبدة الأوثان، فهذا اعتقاد لا يتطرق لقلب مسلم، بل لا قصد له إلا التبرك بها. ألا ترى مراسم المعايدة عند خلفاء آل عثمان بتقبيل السجق المعلق على طرق السدة الجالس فيها السلطان، فما معنى هذا؟ معناه: تقبيل يد الخليفة، فهل فيه شبهة شرك، أو كفر؟ حاشا وألف حاشا، وخلفاؤنا أنزه وأجل من الرضا بشيء فيه شبهة دينية".
هذا بعض مما يقوله الملحد مختار العظمي من النفاق الوضيع، والكفر الشنيع. فما كفاه تحليل الشرك الأكبر في عبادة الله تعالى، وتسميته بالشرك الخفي، ولا ما افتراه على الشرع الشريف بأنه لم ينكر الشرك في عبادة الله تعالى، بل أباحه وما كفته مخرقته فيما يقوله في خلق أفعال العباد والعدوى والأدوية من قلب أوضاع الشريعة، بل أبا دعاء الأموات، وتقبيل أعتابهم وأبوابه وجدرانهم. ويقول: إن هذا ليس عن اعتقاد شيء بها، كما يعتقده عبدة الأوثان وما كفاه هذا الفجور وقول الزور حتى شبه الخالق جل جلاله بسلاطين آل عثمان: تعالى لله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
فكلام هذا الملحد من أوله إلى آخره كلام باطل متناقض، مبني على مذهب عباد القبور، الذي بنوا مذاهبهم على المغالطة في ذكر الأسماء مع تغيير الحقائق.
جعله التوسل إلى الله كالتوسل إلى السلاطين
…
فأما قول الملحد: "إذا نظرت بعين البصيرة، رأيت التوسل بمعنييه اللغوي والمصطلح، ناموس جعله الله في الكون لصالح الإنسان في أمره حياته ومعاشه في الدنيا، لا يستغنى عنه إلا عصمهم الله".
فجوابنا عنه: أن الناظر بعين البصيرة يرى أن كلام هذا الملحد كلام ساقط، لا يستند إلى لغة، ولا إلى اصطلاح صحيح، وإنما هو محض الجهل
والتظليل، مع الافتراء على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا الملحد المخترع لهاذ الناموس لا يعرف لغة ولا اصطلاحاً ولا ناموساً، غلا ما يتصوره من خيالاته الضالة الشيطانية، وأعمال الجهلة الوثنيين الضالين فإن الله تعالى لم يجعل التوسل والوسيلة ناموساً لدعاء الأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربان. بل أمر بابتغاء الوسيلة إليه وحده، وهي التي أجمع المفسرون وأهل اللغة على أنها القربة إليه تعالى بالأعمال الصالحة الخالصة لوجهه الكريم، مع إتّباع رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به من عند الله تعالى. وقد قال صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة عنه:"سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجوا أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حَلَّت عليه شفاعتي يوم القيامة" وأما لفظ "التوسل" في اللغة: فهو التقرب، والوسيلة ما يتقرب به إلى الشيء، ولم يجعل الشرع للتوسل حقيقة غير حقيقته اللغوية. فصرفها إلى دعاء الأموات، وجعلهم وسيلة بين الله وبين عباده، يُدعَون ويرجون من دون الله تعالى جهل وضلال، ما أنزل الله به من سلطان.
كذبه على الله بأن الشرع أباح التوسل
…
فقول هذا الملحد "والشرع ما أنكره بل أباحه" ويعني به: توسل عباد القبور الذي هو دعاء الأموات من دون الله تعالى: قول مكابر لا يخشى في الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم لومة لائم. فقد جهل هذا الملحد أو تجاهل أن ما أرسل الله تعالى به رسله من أولهم إلى آخرهم، إنما هو الدعوة إلى عبادته تعالى وحده، حيث يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] و"العبادة" اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال. فالدعاء: عبادة، بل مخ العبادة:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر، الآية:60] كما أن العكوف حول القبور، وتقبيل الأبواب، والأعتاب، والجدران والنذر لساكنيها عبادة، وتقريب القرابين لهم عبادة، واعتقاد النفع والضر منهم وفيهم عبادة. وغيرها كثير من أعمال عباد القبور التي صرفوها لولائجهم من دون الله تعالى كلها عبادة، وإن سموها بما شاؤوا من
الأسماء التي منها التوسل والوسيلة، متعلقين بالأسماء، مع قبل الحقائق لتضليل الجهلة {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام، الآية:132] .
فصل من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة
"
…
وقد كتب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" ننقل منها ما يلزم نقله لموضوعنا هذا. قال رحمه الله تعالى ورضي عنه:
(فصل) إذا عرف هذا: فقد تبين أن لفظ "الوسيلة" والتوسل فيه إجمال واشتباه، يجب أن تعرف معانيه، ويعطي كل ذي حق حقه، فيعرف ما ورد به الكتاب والسنّة من ذلك ومعناه. وما كان يتكلم به الصحابة رضي الله عنهم ويفعلونه ومعنى ذلك. ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه. فإن كثيراً من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فضل الخطاب. فلفظ "الوسيلة" مذكور في القرآن في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} {المائدة، الآية:35] وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء، الآيتان:56-57] فالوسيلة التي أمر الله بها. أن تبتغي إليه وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات. فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها، تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً. فالواجب والمستحب هو ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأمر به أمر إيجاب، أو استحباب. وأصل ذلك: الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه بإتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك.
والثاني لفظ "الوسيلة" في الأحاديث الصحيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله لي
الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حَلَّت عليه شفاعتي يوم القيامة" وقوله:"من قال حين سمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة والقائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت عليه الشفاعة" فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة وأخبرنا أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله، وهو يرجوا أن يكون ذلك العبد وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول صلى الله عليه وسلم وأخبرنا أن من سأل له الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة لأن الجزاء من جنس العمل. فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم فإن الشفاعة نوع من الدعاء، كما قال:"إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً".
وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة رضي الله عنهم: فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته، والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به، والسؤال به، كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يٌعتقد فيه الصلاح. وحينئذ فلفظ:"التوسل" يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين. ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنّة، فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء: فأحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته.
والثاني: دعاؤه وشفاعته، كما تقدم. فهذان جائزان بإجماع المسلمين. ومن هذه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" أي بدعائه وشفاعته. وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة، الآية:35] أي القربة إليه بطاعته، وطاعة رسوله. قال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء، الآية:80] فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين.
وأما التوسل بدعائه وشفاعته، كما قال عمر: فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به بعد موته إلى التوسل بعمه العباس. ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس. فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته صلى الله عليه وسلم، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له. فإنه مشروع دائماً فلفظ "التوسل" يراد به ثلاثة معان:
أحدها: التوسل بطاعته، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.
والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة، يتوسلون بشفاعته.
والثالث: التوسل بمعنى الإقسام على الله بذاته، والسؤال بذاته: فهذا هو الذي لم تكن الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا بعد مماته عليه الصلاة السلام، لا عند قبره ولا قبر غيره. ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل بشيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عمن ليس قوله حجة كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى. وهذا هو الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه: أنه لا يجوز ونهوا عنه حيث قالوا: لا يسأل الله بمخلوق، ولا يقول أحد أسألك بحق أنبيائك، قاله أبو الحسن القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي في باب الكراهة. وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة. قال بشر بن الوليد: حدثنا أبو يوسف، قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقاً. انتهى المقصود منه.
وبما أوردناه من تحقيق معنى "الوسيلة والتوسل" الوارد ذكرهما في كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم لطالب الحق، وبيان لبطلان كل ما يتعلق به دعاة الوثنية ويغالطون به من ذكر الأسماء مع تغيير الحقائق، وكشف لضلال هذا
الملحد المخلط المتناقض فكيف تحمد العصمة من ناموسه هذا وهو الذي ألبسه خيري الدنيا والآخرة؟ {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر، الآية:31] .
وأما قول الملحد: "فانظر ما أقبح تناقض الوهابيين وإخوانهم، فمن جهة تراهم يعتقدون تأثير الأعراض ومن جهة يمنعون التوسل بالأنبياء".
والجواب: أن الوهابيين متمسكون بكتاب ربهم وسنّة نبيّهم صلى الله عليه وسلم ومن تمسك بهما عصمه الله تعالى عن التناقض. فأما المتناقضون: فهم الذين يتلاعبون في دين الله تعالى بأهوائهم، محرفين لكتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم أمثال هذا الملحد ومن قلدهم دينه من دعاة الوثنية، الذين جعلوا القبور مساجد، وأشركوا أهلها مع الله تعالى في خالص عبادته، بدعائهم وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات. ويسمون شركهم بهؤلاء الأموات مع الله تعالى توسلاً واستغفاراً وتشفعاً، وغيرها من الأسماء التي هي قلب للحقائق وتحريف للكلم عن مواضعه.
افتراء الملحد بأن الوهابيين يعتقدون تأثير الأعراض
…
فأما قول الملحد مفترياً علينا: "بأننا نعتقد بتأثير الأعراض" فهذا من ضمن أكاذيبه علينا فنحن لا نعتقد بتأثير من الأعراض، إلا ما جعله الله تعالى سبباً فيها لصالح عباده، مما أرشدنا إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، مع اعتقادنا بأن النفع والضر كله بيد الله تعالى، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن فلا نطلب إلا منه ولا نرجو أحداً سواه، ولا نتوسل إليه إلا بالأعمال الصالحة من الإيمان به تعالى وبكتبه ورسله، مع تجريدنا الإتباع لنبينا صلى الله عليه وسلم في كل ما جاءنا به من عند الله تبارك وتعالى. فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما أنزل الله داء إلى أنزل له شفاء" وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله" وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن أسامة بن شريك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله" وفي لفظ: "لم
يضع داء إلا وضع له شفاء- أو دواء- إلا داءً واحداً. قالوا: يا رسول الله ما هو؟ قال: الهرم". قال الترمذي: حديث صحيح.
وأما قوله: "ذكرتُ قبلاً قول الوهابيين بتكفير من يتوسل بالرسول عليه الصلاة والسلام وغيره واستدلالهم الباطل، فلا حاجة لإعادته، وكل ذي بصير يعلم أن هذا الاستدلال تحريف للفظ والمعنى. فالله تعالى سمى عمل أولئك عبادة، ما سماه توسلاً، ولا استغفاراً، ولا اشتراكاً في اللغة، ولا ترادف بين اللفظين. فتبديل حقائق كلام الله وتحريفه كفر محض، وتحريف منكر، أولئك كانوا يعبدون تلك الأشياء عبادة حقيقية، ويسمونها آلهة تسمية حقيقية، ويتقربون إليها بجميع أنواع العبادة، ويذكرون أسماءها على ذبائحهم، دون اسم الله تعالى ويعتقدون أن النفع والضر والخير والشر بيد تلك الآلهة وبأمرهم".
والجواب: أن الوهابيين لا يكفرون بمجرد التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم وغيره، وإنما يكفرون يدعون الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات ويسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات وغيرها من أنواع العبادات التي لا يقدر على إجابتها إلا فاطر الأرض والسموات. ويسمون أعمالهم هذه: توسلاً واستغفاراً وتشفعاً وغيرها من الأسماء التي يموهون بها على جهلة المسلمين.
فأما التوسل الذي ليس فيه ما ينافي توحيد الله تعالى في ربوبيته وإلهيته، وإنما فيه الإقسام على الله تعالى بأحد من خلقه: فإن الوهابيين لا يكفرون به، بل هو عندهم حرام، كما يقول به جمهور العلماء المقتدى بهم. فالوهابيون يستدلون عن بطلان أعمال هؤلاء الوثنيين بنصوص الكتاب والسنّة التي لا تقبل تحريفاً ولا تأويلاً، متبعين في ذلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
جهله بأن الدعاء هو العبادة
…
فقول الملحد: "وكل ذي بصيرة يعلم أن هذا الاستدلال تحريف للفظ والمعنى، فإن الله تعالى سمى عمل أولئك عبادة، ما سماه توسلاً ولا استغفاراً،
ولا اشتراك في اللغة، ولا ترادف بين اللفظين، فتبديل حقائق كلام الله وتحريفه كفر محض وتحريف منكر".
جوابنا عنه: أنه قول جاهل غبي مغالط، في ذكر الأسماء مع جهله بالحقائق التي لا تخفى إلا على أعمى البصر والبصيرة أمثاله. فإن هذا الملحد لا يعرف معنى ما يقوله من الاشتراك في اللغة. ولا ترادف الألفاظ فيها، ولا شيئاً من تصريف ألفاظها، بل هو أجنبي عنها. لذلك جهل أن الله تعالى سمى الدعاء عبادة في كتابه العزيز، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى الدعاء "عبادة" بل سماه "مخ العبادة" كما جهل اتفاق أئمة أهل الكتاب والسنّة على أن "العبادة" اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، يقول الله تعالى في كتابه العزيز:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر، الآية:60] ويقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة، الآية:186] وعن النعمان بن يشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة". وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء مخ العبادة" فإن كان هذا الملحد قد جهل هذه النصوص التي هي في كتاب الله تعالى، وفي سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه أئمة أهل الكتاب والسنّة في مسمى "العبادة" فقد ثبت أنه من الصم والبكم والذين لا يعقلون، وإن كان علم بهذه النصوص وتعمد تحريفها وتبديلها، منكراً ما دلت عليه مثل "العبادة" فقد حكم على نفسه بالكفر المحض، والتحريف المنكر بإقراره هذا الذي أثبته على من بدل كلام الله تعالى وحرفه. فقد اضطلع هذا الملحد بهذا التبديل والتحريف الظاهر الذي لا يجد عنه مفراً، وليس له منه مخرج وهكذا الهوى يعمي ويصم. كما أن الجهل المركب والتقليد الأعمى يقودان صاحبهما إلى الخذلان والضلال عن الهدى. نعوذ بالله من ذلك.
وأما قول الملحد: "أولئك كانوا يعبدون تلك الأشياء عبادة حقيقية،
ويسمونها آلهة حقيقية، ويتقربون إليها بجميع أنواع العبادة، ويذكرون أسماءها على ذبائحهم دون اسم الله، ويعتقدون أن النفع والضر والخير والشر بيد تكل الآلهة وبأمرهم".
فالجواب: أن هذه الملحد يعني بقوله أولئك المشركين الأولين، يقول عنهم: إنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام لذاتها ولا يذكرون لهم إلهاً غيرها، صارفين لها جميع أنواع العبادة بأسمائها، لا يذكرون اسم الله تعالى- إلى آخر كلامه الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه- وليس الحق بالباطل، والمدافعة عن أعمال عباد الأوثان باسم القبور من هذه الأمة الذي سلكوا سبيل من قبلهم من المشركين الأولين، يقول عنهم هذا الملحد:"إنهم لا يسمون من يدعونهم من الأموات أصناماً كما يسميهم المشركون قبلهم، بل هم أولياء مقربون عند الله ولهم عنده كرامات فهم لهم وسيلة وشفعاء، ووسطاء بينهم وبين الله تعالى". وما إلى هذه الأسماء التي يصرفون لهم فيها مخ العبادة من دون الله تعالى من الدعاء وسفك الدماء، ونذر النذور وغيرها من الأعمال التي لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، بل أشركوهم مع الله تعالى في توحيد ربوبيته، زاعمين أنهم يعلمون الغيب ويتصرفون في الكون، وغير ذلك من العقائد التي فاقوا بها على شرك المشركين عباد الأصنام، وهذا كتاب الله تعالى يخبر عن المشركين عباد الأصنام: أنهم كانوا يقرون لله تعالى بأنه ربهم، وخالقهم ورازقهم، وأن الأرض وما فيها له وحده، وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وأن بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وأنهم ما عبدوا مَن عبدوا من تلك الأصنام إلا ليقربوهم إلى الله زلفى. ويقولون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس، الآية:18] كما أخبر بذلك عنهم أصدق القائلين في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، الآية:3] ويقول تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس، الآية:18] ويقول تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس، الآيتان:31-32]، يقول تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون، الآية:84-89] ويقول تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان، الآية:32] إلى غير هذه الآيات التي جهلها هذا الملحد أو تجاهلها، وتعمد إلى جحدها محرفاً لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لتضليل الجهلة عن سلوك صراط الله المستقيم.
وأما قول الملحد: "فإذا علمت هذا وفهمت كيف دخلوا بالتحريف والمغالطة على العوام، فاعلم أن علماءنا ما قالوا1 بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء، وندبوا إليه من تلقاء أنفسهم، حاشاهم من ذلك وهم أمناء الدين، وخلفاء الرسل، بل أخذوه من كلام الله تعالى وكلام رسول أمراً وفعلاً، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وماذا عليهم إذا لم تفهم وعول نجد، وجواميس مصر وبقر الشام مقاصدهم ومآخذ أقوالهم؟ ".
والجواب: أن كل مطلع على كلام هذا الملحد ممن أعطاهم الله علماً نافعاً، ونوراً يفرقون بهما بين الحق والباطل: يعلمون علم اليقين أن هذا الملحد ممن ضل عن سلوك صراط الله المستقيم، فهو غارق في ظلمات جهله وضلاله، وأنه من المحرفين لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم جهاراً، لا يخشى في ذلك حسيباً في الدنيا، ولا محاسباً في الآخرة. فقد سمى سادته وكبراءه- دحلان
(1) هكذا أثبتها الملحد بالواو والرفع.
والنبهاني ومن سلك سبيلهم- أمناء الدين، وخلفاء الرسل، مع أنهم قد اشتهروا بعمل كل قبيح من الأعمال، وبكل فجور من الأقوال، معارضين بهما كتاب الله وسنّة نبيّه، وناسبين إلى علماء أهل السنّة من الأقوال ما لم يقولوه، ومحرفين لكلامهم عن مواضعه. وهذا الملحد يقول: إن مضلليه- دحلان والنبهاني- ما قالوا بجواز التوسل، الذي هو دعاء الأموات من الأنبياء والأولياء، وندبوا إليه من تلقاء أنفسهم، حاشاهم من ذلك، بل أخذوه من كلام الله تعالى وكلام رسوله أمراً وفعلاً. وهذا الكلام من هذا الملحد هو عين الكذب والافتراء على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فأين من كلام الله تعالى أيها الملحد؟ وأين من كلام رسوله الأمر بدعاء الأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وطلب رحمتهم لغفران الذنوب دون رحمة الله أرحم الراحمين؟ فمن هو من الصحابة أيها الملحد دعا ميتاً أو غائباً، أو توسل به لجلب نفع أو دفع ضر، أو جعله واسطة بينه وبين الله تعالى؟ ومن هو من الصحابة جعل القبور مساجد؟ بل أين من التابعين وتابع التابعين والأئمة الأربعة: من قال بقول سادتك ومضليك أيها الملحد؟ فاقصر فَضَّ الله فاك. ومن قال بقولك وقول سادتك الضالين المضلين.
وأما قول الملحد: "وقد فصلت كيفية عبادتهم وأقسامها في كتبي الثلاثة، رد الافتراء، ومظهر الإحسان، ومرشد الحيران، وهذه يتبرأ منها كل مسلم".
فالجواب: أن كتب هذا الملحد الثلاثة كلها ظلمات بعضها فوق بعض، فهي كما قال مؤلفها الملحد "تبرأ منها كل مسلم" ونحن نسميها: محض الافتراء، ومظهر الخسران، والتائه الحيران.
وأما قول الملحد في حق علمائه "وماذا عليهم إذا لم تفهم وعول نجد وجواميس مصر وبقر الشام مقاصدهم ومآخذ أقوالهم؟ ".
فالجواب: أن الله تعالى لم يكلف وعول نجد، ولا جواميس مصر، ولا بقر الشام، بفهم شيء من العبادة التي كلف بها عباده من بني آدم، فتكليف هذا الملحد لها بفهم مقاصد سادته ومآخذ أقوالهم ظلم وعدوان ما أنزل الله به من
سلطان. فأما علماء نجد ومصر والشام: فقد قاموا بأداء ما أخذه الله تعالى من الميثاق على أهل العلم بأن يبينوه للناس ولا يكتموه فإنهم قد أظهروا الحق ونصوره، وأبطلوا الباطل وخذلوه. وفضحوا سادتك ومضلليك، ومن سلك سبيلهم من دعاة الشرك في عبادة الله رب العالمين وقد تقدم ذكر بعض مَن رد عليهم من علماء نجد والعراق والهند بما أغنى عن إعادته ههنا.
لم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة إن التوسل هو دعاء الأموات
…
وأما قول الملحد: "قد تقدم آنفاً أن التوسل من ضروريات حياة الإنسان الدنيوية وإباحة الشرع للمنافع الأخروية. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة، الآية:35] وكذلك جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قولاً وفعلاً".
والجواب: أنه قد تقدم الكلام على مسألة التوسل والوسيلة، وتحقيق القول في معناهما لغة وشرعاً وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم قولاً واحداً بأنهما القربة والتقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة، ولم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان من القرون المفضلة- وفيهم الأئمة الأربعة- إن التوسل والوسيلة: هما دعاء الأموات، وجعلهم وسيلة وواسطة بين الله تعالى وبين عباده، يرفعون إليه تعالى حاجاتهم كما يقوله هذا الملحد ومضللوه دعاة الوثنية، حيث يقولون: إن الأموات أقرب إلى الله تعالى من الأحياء، وأنهم يسمعون نداء من يناديهم، ويجيبون دعاء داعيهم وقد شبهوا الخالق جل جلاله بخلقه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
فكلام هذا الملحد من هذر المجانين، وزخرفة الشياطين، الذين يلبسون الحق بالباطل، لترويج مذهب الوثنيين عبّاد الأموات، وإشراكهم في عبادة الله تعالى فاطر الأرض والسموات. فهم يتعلقون بالأسماء مع قلب الحقائق، ويقولون: هذا من عند الله، وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون قاتلهم الله أنى يؤفكون.
وأما قول الملحد: "ومن المقرر ببديهة العقول السليمة أن العاقل يتحرّى في حوائجه الواسطة الأقرب مناسبة، وأنجح وسيلة للموسط إليه، والمطلوب منه ولا يرتاب مسلم: أن ما في الكون وسيلة أقرب مناسبة لله تعالى من حبيبه الأكرم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، بل كيف لا يكون هو أقرب الوسائل وكلام الله شاهد له بذلك؟ أما هو الذين قال الله له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء، الآية:107] أما هو الذي قال الله عنه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (الأحزاب، الآية:6] أما هو الذي قال الله عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة، الآية:128] أما هو الذي أمرنا الله على لسانه بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران، الآية:31] فانظروا يا من خذلهم الله أي مقام أعظم من هذا المقام الذي علق الله محبته ومغفرته على إتباعه عليه الصلاة والسلام؟ أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ فانتظروا ما جاء بحقكم في هذه الآية أما هو الذي قال الله له: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء، الآية:64] أما هو الذي قال الله له: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء، الآية:65] ".
إن الله لم يتعبدنا باتباع عقولنا بل أرسل إلينا رسولا بالمؤمنين رؤوف رحيم
…
والجواب: أن الله تعالى لم يتعبدنا بإتباع بديهة عقولنا السليمة، ولم يتركنا لها هملاً، بل أرسل إلينا رسولاً من أنفسنا عزيز عليه، ما يعنتنا، بالمؤمنين رؤوف رحيم. جداءنا بكتاب عزيز:{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت، الآية:42] يقول الله تعالى فيه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة، الآية:128] ويقول تعالى فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة، الآية:3] ويقول تعالى فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر، الآية:7] فلم يأمرنا الله تعالى في كتابه
العزيز، ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في سنته المطهرة، بأن ندعو الأموات والغائبين بأهوائنا المضللين من سادتنا وكبرائنا ولا أن نجعلهم لنا وسيلة ولا واسطة بيننا وبينه تعالى، يرفعون إليه حاجاتنا. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. بل قال الله لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة، الآية:186] فهؤلاء المدعوون- وإن كانوا أنبياء أو أولياء أو ملائكة مقربين- فليسوا هم شركاء لله تعالى في عبادته فإن العقول التي ترى أن دعاء الأموات والغائبين من دون الله تعالى: أنجح وسيلة تقرِّب إلى الله تعالى، عقول ليست بسليمة، بل هي عقول مريضة شيطانية، بل هي أهواء زائفة، تدعو إلى محادة الله ورسوله والشرك في عبادة الله، ومخالفة جميع رسله، من أولهم إلى آخرهم، الذين أرسلهم الله تعالى بالدعوة إلى توحيده تعالى، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له. حيث يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] ويقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر، الآية:2-3] ويقول تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر، الآيات:64-66] ويقول تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس، الآيتان:106-107] ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل، الآيتان:20-21] ويقول تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ
أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف، الآيتان:5-6] ويقول تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل، الآية:62] ويقول تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم، الآيتان:52-53] ويقول تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ، الآيتان:22-23] ويقول تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر، الآيتان:13-14] ويقول تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ. وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ. وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر، الآيات:19-23] ويقول تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر، الآية:38] ويقول تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر، الآيتان:44] ويقول تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت، الآية:6] ويقول تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً. قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن، الآيات:20-23] ويقول تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف، الآية:188] إلى غير ذلك من الآيات البينات المحكمات التي لا تقبل تأويلاً ولا تحريفاً، ولا معارضاً
في إفراد ربنا الباري جل وعلا في عبادته وحده لا شريك له، وهي العبادة التي مخها الدعاء، كما قاله المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وأما ما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من حمايته لحمى التوحيد امتثالاً لأمر ربهن شرك المشركين الأولين: ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء، الآية:214] فقال: يا معشر قريش- أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا غنى عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب، لا أعنى عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئتِ، لا أغنى عنك من الله شيئاً" وروى الترمذي عن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين- ونحن حُدَثاء عهد بكفر- وللمشركين سِدْرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر، إنها السنن. قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. قال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف، الآية:138] لتركبن سنن من كان قبلكم سنن من كان قبلكم" وفي سنن أبي داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي. فقال: يا رسول الله، جهِدَتْ الأنفس، وضاعت العيال، ونُهِكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله، وسنتشفع بالله عليك. فقال رسول الله: ويحك، أتدري ما تقول؟ وسَبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما زال يسبّح، حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه. ثم قال: ويحك، إنه لا يتشفع بالله على أحد من خلقه. شأنُ الله أعظم من ذلك. الحديث". وروى أبو داود عن عبد الله بن الشخِّير رضي الله عنه قال: "انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله تبارك وتعالى، قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً، فقال: قولوا بقولكم، أو ببعض
قولكم، ولا يستجْرِينّكم الشيطان" وروى النسائي عن أنس رضي الله عنه:"أن أناساً قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. فقال: يا أيها الناس، قولوا بقولكم هذا، ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رجلاً قال للنبي: ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله نداً؟ ما شاء وحده" وروى الطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين. فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله" وروى أبو داود عن قيس بن سعد قال: "أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أحق أن يُسجد له. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم. فأنت أحق بأن يسجد لك. فقال لي: لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ فقلت: لا، فقال: لا تفعلوا، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهن عليهن من حق" وروى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأواه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وهذا قليل من كثير مما ورد عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم من نصوص الكتاب والسنّة الصحيحة الصرحية، التي لا تقبل تأويلاً ولا تحريفاً عما جاءت له من الأمر بتحقيق التوحيد لله تعالى وحده، لا شريك له في جميع أنواع العبادة، ونفي وإبطال كل ما يتعلق به دعاة الأموات من الشبهات والضلالات، وما يحرفونه من كتاب الله تعالى ومن سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم عن مواضعهما، إتباعاً لأهوائهم الشيطانية فيما يدعون إليه من الغلو بالأنبياء والأولياء وغيرهم. ممن أشركوهم مع الله تعالى في خالص عبادته، من الدعاء والخوف والرجاء، ونذر النذور، وسف الدماء، وغيرها من أنواع العبادة. وما كفاهم هذا، بل
شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله وكيف يكون مسلماً من يعارض نصوص الكتاب والسنّة جهاراً لا يخشى فيها لومة لائم، حتى ولا يتكلف لها تحريفاً ولا تأويلاً؟ يقول الله تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر، الآية:22] ويقول هذا الملحد وسادته دحلان والنبهاني: "بل يسمعون ويجيبون من يدعوهم" ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة" ويقول هذا الملحد وسادته "ليس بعبادة، بل هو توسل والله أمر به" ويسمون دعاءهم للأموات وعبادتهم إياهم بجميع أنواع العبادة: توسلاً. وهكذا يحرفون الكلم عن مواضعه فقد ضلوا وأضلوا كثيراً عن سواء السبيل.
وأما قول الملحد: "فانظروا يا من خذلهم الله، أي مقام أعظم من هذا الذي علق الله محبته ومغفرته على إتباعه عليه الصلاة والسلام أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ ".
والجواب: أن المخذول من اتخذ إلهه هواه، وختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة. فهو لا يفرق بين الحق والباطل، بل يؤثر الباطل على الحق، إتباعاً لهواه {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص، الآية:50]{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة، الآية:51] إن المخذول: هو هذا الملحد المتناقض، الذي لم يحترم صاحب هذا المقام العظيم سيد الأولين والآخرين، من أرسله تعالى رحمة للعالمين بل عارضه في أصل رسالته التي أرسله الله تعالى بها إلى جميع خلقه: بأن يعبدوه الله تعالى وحده لا يشركون معه في عبادته أحداً من خلقه. فقام هذا الملحد ومن قلدهم بمعارضة هذا الرسول الكريم في أصل دعوته، التي أرسله الله بها، وجميع الرسل من قبله بقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] : فقام هؤلاء الوثنيون يدعون إلى إشراك الخلق مع خالقهم في خالص عبادته تعالى. وما كفاهم فقد أشركوهم مع الله تعالى في ربوبيته. فقالوا: إنهم يعلمون الغيب ويتصرفون في الكون تعالى الله عما يقول الظالمون
هذا الملحد المخذول هو الذي عارض الرسول عليه السلام في أصل رسالته
…
علواً كبيراً وقد أوردنا من نصوص الكتاب والسنّة في رد أباطيلهم وكشف ضلالهم، وتضليلهم ما فيه الكفاية لطالب الحق ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً.