الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثامنة عشرة: ذكر البلقيني في "تصحيح المنهاج" قال الماوردي في الأحكام السلطانية: إذا كان القاضي شافعياً لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها. وإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل به. وقال في الحاوي: إن القاضي المنتسب إلى مذهب الشافعي وأبي حنيفة لا يجوز له تقليد صاحب المذهب، بل يعمل على اجتهاد نفسه وإن خالف مذهب من اعتزى إليه. وقال بعض أصحابنا: إنه يحكم بمذهب صاحبه وأصول الشرع تنافيه، وكذا في "الذخائر" انتهى.
فانظر إلى هؤلاء الأئمة كيف لم يستنكروا أن يكون الإنسان مجتهداً وهو مع ذلك ينتسب إلى الشافعي، أو أبي حنيفة أو غيرهما؟
وقال في موضع آخر: قال الغزالي في المنخول: الاجتهاد ركن عظيم في الشريعة، لا ينكره منكر وعليه عول الصحابة رضي الله عنهم بعد أن استأثر الله برسوله صلى الله عليه وسلم وتابعهم عليه التابعون إلى زماننا هذا – إلى أن قال:
ذكر جملة من العلماء المجتهدين
…
السابعة والأربعون: قال الغزالي: فصل في التنصيص على مشاهير المجتهدين من الصحابة والتابعين وغيرهم ولا خفاء بأمر الخلفاء الراشدين، إذ لا يصلح للإمة إلا مجتهد. وكذلك كل من أفتى في زمانهم كالعبادلة وزيد بن ثابت، وأصحاب الشورى، ومعاوية. والضابط عندنا: أن من علمنا قطعاً أنه تصدى للفتوى في أعصارهم، ولم يمتنع عها فهو من المجتهدين. ومن لم يتصد لها قطعاً فلا. ومن ترددنا في ذلك في حقه ترددنا في صفته. قال: وقد انقسمت الصحابة رضي الله عنهم إلى ممسكين لا يفتون بالعلم، وإلى معتنين به. وأصحاب العمل منهم لم يكن لهم منصب الفتوى والذين تعلموا وأفتوا فهم المفتون، ولا مطمع في عد آحادهم بعد ذكر الضابط وهو الضابط أيضاً في التابعين. هذا كلام الغزالي. وقال ألكيا الهراسي في تعليقه في الأصول ما نصه، فإن قيل: فاذكروا لنا المجتهدين ممن تقدم، قلنا: بدأ بالصدر الأول، فالخلفاء الأربعة مجتهدون وبعدهم أهل الشورى: طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن
عوف، وسعد بن أبي وقاص، وبعدهم معاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس رضي الله عنهم وكل من تصدى للفتوى. ونقلت عنه المذاهب من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين كالفقهاء السبعة، وابن سيرين. وقال ابن برهان: أما الصحابة فلا شك أن الفقهاء المشهورين منهم من أهل الاجتهاد وأساميهم معلومة في التواريخ، منهم العشرة، وابن مسعود، وعائشة، وابن عمر، وجابر، وأبو هريرة، وأنس وغيرهم. وأما التابعون: فقد اشتهر المجتهدون منهم كسعيد بن المسيب، والأوزاعي، والشعبي، والحسن، وابن سيرين الفقهاء السبعة.
وقال الزركشي في البحر: قد عد ابن حزم في الأحكام فقهاء الصحابة فبلغ بهم مائة ونيفاً وهذا حيف.
وقد قال الشيخ أبو إسحاق في طبقاته: أكثر الصحابة الملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا فقهاء مجتهدين. لأن طريق الفقهاء فهم خطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وأفعاله. وقد كانوا عارفين بذلك لأن القرآن نزل بلغتهم وعلى أسباب عرفوها، وعلى قصص كانوا فيها فعرفوا منطوقه ومفهومه، ومنصوصه ومعقوله. ولهذا قال أبو عبيدة في كتاب "المجاز" لم ينقل أن أحداً من الصحابة رجع في معرفة شيء من القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بلغتهم، يعرفون معناه، ويفهمون منطوقه وفحواه. وأفعاله هي التي فعلها من العبادات والمعاملات والسير والسياسات. وقد شاهدوا ذلك كله وعرفوه، وتكرر عليهم وتحروه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أصحابي كالنجوم، بأبيهم اقتديتم اهتديتم". ولأن من نظر فيما نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله، وتأمل ما وصفوه من أفعاله في العبادات وغيرها اضطر إلى العلم بفقههم وفضلهم. هذا كلام الشيخ أبي إسحاق.
قال الزركشي في البحر: ولا يطمع في عد آحاد المجتهدين من الصحابة والتابعين لكثرتهم وعدم حصرهم. انتهى.
وقد تقدم في كلام ابن حزم عند جماعة من المجتهدين فيهم كثرة، فلا
نطيل بإعادتهم. وقد عق الشيخ أبو إسحاق في طبقاته – وظهر كلامه في خطبته: أنه لم يذكر فيها سوى المجتهدين – فإن قال: هذا كتاب مختصر في ذكر الفقهاء لا يسع الفقيه جهله لحاجته إليه في معرفة من يعتبر قوله في انعقاد الإجماع، ويعتد به في الخلاف. وبدأت بفقهاء الصحابة ثم بمن بعدم من التابعين وتابعي التابعين، ثم بفقهاء الأمصار، ثم ذكر جملة من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين والأئمة الأربعة. وجملة من أقرانهم وأتباعهم، وداود الظاهري وجملة من أتباعه. فظاهر صنعه: أن كل من ذكره في هذا الكتاب فهو مجتهد لأنه شرط في كتابه ذكر من يعتبر قوله في انعقاد الإجماع ويعتد به في الخلاف وهذا الوصف ليس إلا للمجتهد.
وقال النووي في شرح المهذب: المزني وأبو ثور وأبو بكر بن المنذر أئمة مجتهدون. وهم منسوبون للشافعي. فأما المزني وأبو ثور: فصاحبان للشافعي حقيقة، وابن المنذر متأخر عنهما وقد صرح في المهذب في مواضع كثيرة بأن الثلاثة من أصحابنا أصحاب والوجوه. وجعل أقوالهم وجوهاً في المذهب. وتارة يشير إلى أنها ليست وجوهاً. وقد قال إمام الحرمين في باب ما ينقض الوضوء من النهاية: إذا انفرد المزني برأي فهو صاحب مذهب، وإذا خرج الشافعي قولاً: فتخريجه أولى من تخريج غيره. وهو يلتحق بالمذهب لا محالة. قال النووي: وهذا الذي قاله الإمام حسن لا شك في أنه متعين. وذكر النووي في شرح المهذب: أن حرملة له مذهب مستقل لنفسه.
وفي طبقات ابن السبكي في ترجمة عبدان المروزي أحد الحفاظ قال: روى أبو بكر بن السمعاني بإسناده عن بعض المشائخ قال: اجتمع في عبدان أربعة أنواع من المناقب: الفقه والإسناد والورع والاجتهاد.
وقال ابن الصلاح في ترجمة محمد بن نصر المروزي: ربما تذرع متذرع بكثرة اختياراته المخالفة لمذهب الشافعي إلى الإنكار على الجماعة العادين له في أصحابنا. وليس الأمر كذلك لأنه في هذا بمنزلة ابن خزيمة والمزني وأبي
ثور وغيرهم. ولقد كثرت اختياراتهم المخالفة لمذهب الشافعي ثم لم يخرجهم ذلك عن أن يكونوا في قبيل أصحاب الشافعي معدودين، وبوصف الاعتزاء إليه موصوفين.
ووصف ابن السبكي في طبقاته الإمام أبا بكر ابن خزيمة بالاجتهاد المطلق. وذكر الذهبي وغيره في ترجمة الإمام أبي جعفر بن جرير الطبري: أنه كان من المجتهدين لا يقلد أحداً، وله مذهب مستقل، وتصانيف على مذهبه، وأتباع مقلدون له، يفتون ويقضون بقوله. وأشار إلى ذلك النووي في تهذيب الأسماء واللغات ونقل فيه عن الرافعي: أنه قال: تفرد ابن جرير لا يعد وجهاً في مذهبنا وإن كان معدوداً في طبقات أصحاب الشافعي.
وقال الذهبي في طبقات القراء، في ترجمة أبي عبيد القاسم بن سلام: كان يجتهد ولا يقلد أحداً.
وقال ابن السبكي في الطبقات الوسطى، في ترجمة قاسم بن محمد بن سيار القرطبي: كان يذهب مذهب الحجة والنظر، وترك التقليد، ويميل إلى مذهب الشافعي يعني مع كونه من المنسوبين إلى أتباع الإمام مالك – ولكنه كان يترك التقليد، ويميل إلى مذهب الشافعي لأنه أداه اجتهاده إليه ثم قال: الوليد: لم يكن بالأندلس مثله في حسن النظر، والبصر بالحجة. وروى عن ابن عبد الحكم أنه قال: لم يقدم علينا من الأندلس أحد أعلم من قاسم بن محمد. وقال الأسنوي في الطبقات في ترجمة ابن المنذر: كان أحد الأئمة الأعلام لم يقلد أحداً في آخر عمره.
وقال الدارقطني في ترجمة شيخه القاضي أبي بكر أحمد بن كليل أحد أصحاب ابن جرير: كان يختار ولا يقلد أحداً. قيل له: أما كان جريري المذهب؟ يعنى على مذهب شيخه ابن جرير – فقال: بل خالفه، واختار لنفسه.
وقال القرطبي في مختصر التمهيد في ترجمة الإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر: كان يرى الاجتهاد.
وقال الشيخ أبو إسحاق في ترجمة شيخه القاضي أبي الطيب: لم أر فيمن رأيت أكمل اجتهاداً منه.
وألف الشيخ الجويني كتاباً لم يلتزم فيه مذهب الشافعي واختار فيه أشياء مختلفة للمذهب. وكتب له البلقيني رسالة يقول فيها: الشيخ أهل لأن يجتهد ويتخير. ووصفه غير واحد بالاجتهاد ووصف الذهبي في طبقات الحفاظ: البغوي بالاجتهاد، وأشار البغوي نفسه إلى ذلك في خطبة التهذيب.
وقال ابن السبكي في الطبقات: قال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي: لم أدرك فيمن رأيت وحضرت من العلماء –على اختلاف مذاهبهم- من كملت له شرائط الاجتهاد المطلق إلا ثلاثة: أبو يعلى ابن الفراء، وأبو الفضل الهمداني القرطبي، وأبو نصر بن الصباغ. وادعى عبد الوهاب أحد أئمة المالكية الاجتهاد في كتابه "المقدمات" كما تقدم نقله عنه.
وقال ابن السبكي في الطبقات الكبرى، في ترجمة إمام الحرمين: الإمام لا يتقيد بالأشعري، ولا بالشافعي، وإنما يتكلم على حسب تأدية نظره واجتهاده.
وقال الإمام ناصر الدين بن المنير في أول تفسيره في حق إمام الحرمين: له علو همة إلى مساواة المجتهدين. ووصفه بالحافظ سراج الدين القزويني في فهرسته بأنه المجتهد ابن المجتهد. وادعى الغزالي الاجتهاد في كتابه "المنقذ من الضلال" وأشار فيه إلى أنه المبعوث على رأس المائة الخامسة لتجديد الدين.
وذكر الصلاح الصفدي في ترجمة ابن خزيز منداد، أحد أئمة المالكية: أن له اختيارات اختارها لنفسه خالف فيها أهل مذهبه، وهذا شأن المجتهدين.
وقال أيضاً في ترجمة العلامة أبي عبد الله محمد بن الخيار العبدري القرطبي، صاحب التنبيهات على المدونة: إنه كان من أهل الحفظ والاستبجار،
ورأس قبل موته في النظر وترك التقليد، وأخذ بالحديث وتوفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
وقال أيضاً في ترجمة الإمام أبي عبد الله محمد بن علي المازري، أحد أئمة المالكية: أخبرت عن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العبد أنه كان يقول: ما رأيت أعجب من هذا –يعني المازري- لأي شيء ما ادعى الاجتهاد؟ وكانت وفاة المازري سنة ست وثلاثين وخمسمائة.
ووصف الذهبي في طبقات الحفاظ القاضي أبا بكر بن العربي أحد أئمة المالكية بالاجتهاد المطلق. وكان أبو علي الحسن بن الخطير النعماني الفارسي، أحد أئمة الحنفية يقول: قد انتحلت مذهب أبي حنفية، وانتصرت له فيما وافق اجتهادي وكانت وفاته سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.
وذكر الحافظ أبو جعفر بن الزبير في تاريخ الأندلس في ترجمة القاضي أبي القاسم الطيب بن محمد المرسي: أنه كان ممن يتعاطى درجة الاجتهاد، كانت وفاته سنة ثمان عشرة وستمائة.
وأشار ابن الصلاح إلى دعوى الاجتهاد. فإنه أفتى في صلاة الرغائب بأنها من البدع المنكرة. ثم بعد مدة صنف جزءاً في تقريرها وتحسين حالها، وإلحاقها بالبدع الحسنة، فشنع عليه الناس بأنه ناقض ما أفتى به أولاً فاعتذر عن ذلك بأنه تغير اجتهاده. وقال: الاجتهاد يختلف على ما قد عرف.
قال أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث" بعد حكاية كلامه: ونحن نأخذ باجتهاده الأول الموافق للدليل وفتوى غيره. ونرد اجتهاده الثاني المنفرد هو به.
وقال الذهبي في العبر في ترجمة الشيخ عز الدين بن عبد السلام: انتهت إليه معرفة المذهب، وبلغ رتبة الاجتهاد. ووصفه ابن السبكي في الطبقات بالاجتهاد المطلق.
وقال ابن كثير في تاريخه: كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام في آخر أمره لا يتقيد بالمذهب، بل اتسع نطاقه وأفتى بما أدى إليه اجتهاده.
وقال الزركشي في شرح المنهاج: لم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد. ووصف الشيخ تاج الدين بن الفركاح وأبا شامة بالاجتهاد. وذكره السبكي في طبقاته، فقال في ترجمته: وكان يقال: إنه بلغ رتبة الاجتهاد. وأشار أبو شامة نفسه إلى ذلك في خطبته الكتاب"المؤمل في الرد إلى الأمر الأول".
ومن تأمل صنع النووي في شرح المهذب عرف أنه بلغ رتبة الاجتهاد لا محالة، خصوصاً اختياراته الخارجة عن المذهب. فإن ذلك شأن المجتهد.
وخرج الشيخ تاج الدين بن الفركاح بدعوى الاجتهاد لنفسه، فإنه ألف كتاباً سماه "الرخصة العميمة في أحكام الغنيمة" قرر فيه شيئاً خارجاً عن المذهب. وقال في آخره: هذا ما أدى إليه اجتهادي في هذه الأقوال على حسب هذه الأحوال بالاستنباط من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ومغازيه. وأقوال العلماء. هذه عبارته.
وما زلت في عجب مما كان بلغني من قول ابن الفركاح هذه المقالة. وكنت أقول: هذا شيء لا يعرف في المذهب، حتى رأيت كتابه وتصريحه فيه: بأنه قال ذلك اجتهاداً لنفسه لا نقلاً للمذهب، فانجلى ما كان في خاطري من ذلك.
وقال أبو حيان في النضار، في ترجمة قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن علي بن يحيى المعروف بالشريف: كان يميل إلى الاجتهاد. وكانت وفاته سنة اثنتين وثمانين وستمائة. وادعى القاضي ناصر الدين بن المنير أحد أئمة المالكية –وهو رفيق ابن دقيق العيد- الاجتهاد. فقال في أول تفسيره: المقلد أعمى، والمخصوم أعشى، والمجتهد هو الذي يستبصر إن شاء الله، وقد شاء. فقوله:"وقد شاء" تصريح تدعواه إلى: وقد شاء الله إلى. وقال بعد ذلك: إن الإمام جمال الدين بن الحاجب كتب له إجازة بالفتوى. فكتب له فيها: إنه
أهل لذلك، وفوق الأهل لذلك فقيل له: وما فوق الأهل لذلك إلى أين المظهر فقال: الرتبة المصطلح عليها الآن في الفتيا: رتبة متوسطة بين التقليد والاجتهاد، وفوق ذلك: أعلى من الوسط. وكانت وفاته سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
وذكر ابن فرحون في طبقات المالكية في ترجمة أخي ابن المثير هذا، واسمه علي: أنه كان يفضل على أخيه، وأنه كان ممن له أهلية الترجيح والاجتهاد في مذهب مالك وكانت وفاته سنة بضع وثمانين وستمائة.
وعين المجتهدين في هذا العصر الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد.
قال في "الطالع السعيد" في ترجمة: ذي الباع الواسع في استنباط المسائل والأجوبة الشافعية لكل سائل- إلى أن قال: إن ذكر التفسير، فمحمد فيه محمود المذهب أو الحديث: فالقشيري صاحب الرقم المعلم والطراز المذهب، أو الفقه فأبو الفتح العزيز، والإمام الذي الاجتهاد إليه ينتسب- إلى أن قال: جعل وظيفة العلم والعمل له ملة، حتى قال بعض الفضلاء: من مائة سنة فقد الناس مثله. وكتب له: بقية المجتهدين وهذا بين يديه فأقر عليه ولا شك أنه من أهل الاجتهاد ولا ينازع في ذلك إلا من هو من أهل العناد، ومن تأمل كلامه عرف أنه أكثر تحقيقاً، وأمثل وأعلم من بعض المجتهدين فيما تقدم واتفق. ثم قال: حكى صاحبنا الفقيه الفاضل العدل علم الدين الأصفوني قال: ذكره شيخنا العلامة علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي، فأثنى عليه. فقلت: لكنه ادعى الاجتهاد. فسكت ساعة مفكراً. فقال: والله ما هو ببعيد. قال: وقال شيخنا أبو حيان: هو أشبه من رأيناه يميل إلى الاجتهاد. وهذا من أبي حيان غاية الإنصاف، فإنه كان بينه وبين ابن دقيق العيد وقفة مشهورة.
وقال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس في ترجمته: كان حسن الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب.
وقال ابن السبكي في الطبقات الكبرى: هو المجتهد المطلق. قال: ولم
ندرك أحداً من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة، المشار إليه في الحديث النبوي صلى الله عليه وسلم فإنه أستاذ زمانه علماً وديناً.
وقال الصلاح الصفدي في تذكرته: لم تجتمع شروط الاجتهاد في عصر ابن دقيق العيد إلا فيه، وقال في تاريخ: وكان ابن دقيق العيد مجتهداً ثم نقل عنه أنه قال: طابق اجتهادي اجتهاد الشافعي، إلا في مسألتين إحداهما: أن الابن لا يزوج أمه، ولم يذكر الأخرى. وقال العلامة ركن الدين بن القويع من قصيدة يمدح بها ابن دقيق العيد:
إلى صدر الأئمة باتفاق
…
وقدوة كل حبر ألْمَعِيٍّ
ومن بالاجتهاد غدا فريدا
…
وحاز الفضل بالقدم العلي
وقال الكمال الإدفوي: أخبرني الشيخ نجم الدين القمولي: أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أعطاه دراهم، ،أمره أن يشتري بها ورقاً ويجلده أبيض. قال: ففعلت ذلك، وكان عدد الكراريس خمسة وعشرين كراساً فصنف تصنيفاً. وقال: إنه لا يظهر في حياته. قال ابن النقاش: يذكر أن ذلك الكتاب اسمه "التسديد في ذم التقليد" وذكروا: أن ابن عدلان أخذه إليه واختص به. قال: ولعمري إن هذا الكتاب لفرد في معناه، فذ في جلالته ومبناه.
وذكر الحافظ ابن حجر في خطبة كتابه"تغليق التعليق" أنه كان مجتهد الوقت. وكان في هذا العصر الإمام نجم الدين بن الرفعة، وله أهلية الاجتهاد والترجيح في المذهب ومات سنة عشر وسبعمائة.
وذكر الذهبي في ترجمة الكمال ابن الزملكاني: أنه كان عالم العصر، وكان بقية المجتهدين. ونقل ذلك ابن السبكي في الطبقات. وكانت وفاته سنة سبع وعشرين وسبعمائة.
وفي هذا العصر: شيخ الإسلام العلامة تقي الدين بن تيمية رحمه الله
تعالى، وصفه غير واحد بالاجتهاد، منهم الشيخ ولي الدين العراقي في فتاويه. وفيه أيضاً شيخ الإسلام تقي الدين السبكي وصفه غير واحد بالاجتهاد في زمنه، وبعده منهم: ولده الشيخ تاج الدين في الترشيح وفي الطبقات. وبعده ولده الشيخ تاج الدين المذكور، أشار إلى دعوى الاجتهاد في بعض تصانيفه، وقال في كتابه"جمع الجوامع": لما تكلم على مسألة خلو الزمان عن مجتهد. فقال: والمختار أنه لم يثبت وقوعه، فهذا تصريح منه بأن الزمان إلى حين عصره ما خلا عن مجتهد، وفي عصره: شيخ الشافعية جمال الدين الأسنوي كانت له أهلية الاجتهاد في المذهب ترجيحاً وتخريجاً، والعلامة شمس الدين محمد يوسف القونوي الحنفي فإن لاحافظ ابن حجر قال في ترجمته: صار له في ’خر أمره اختيارات تخالف المذاهب الأربعة، لما يظهر له من دليل الحديث. وبعده شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، وصفه غير واحد بالاجتهاد، منهم ولده. قال في ترجمته: منحه الله درجتي الاجتهاد والإطلاق، فتمكن من استخراج الأحكام بالاستنباط من الدليل. وبعده: مجد الدين الشيرازي صاحب القاموس، ادعى الاجتهاد، وصنف في ذلك كتاباً سماه "الإصعاد إلى رتبة الاجتهاد" وكانت وفاته في شوال سنة سبع عشرة وثمانمائة والحمد لله وحده، انتهى.
وقال السيوطي: أيضاً في موضع آخر من الكتاب المذكور "الباب الثالث" في ذكر من حدث على الاجتهاد وأمر به، وذم التقليد ونهى عنه. اعلم أنه ما زال السلف والخلف يأمرون بالاجتهاد، ويحضون عليه، وينهون عن التقليد ويذمونه ويكرهونه. وقد صنف جماعة لا يحصون في ذم التقليد. فمن صنف في ذلك: المزني صاحب الإمام الشافعي ألف كتاب"فساد التقليد" نقل عنه ابن عبد البر في كتاب"العلم"، والزركشي في "البحر"، ولم أقف عليه. وألف ابن حزم ثالثة كتب في إبطال التقليد، وقفت عليها، وألف ابن عبد البر كتاب العلم في ذلك، وقفت عليه، وألف أبو شامة في ذلك كتابه المسمى"خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول" وقفت عليه، وألف ابن دقيق العيد كتاب "التسديد في ذم التقليد" لم أقف عليه، وألف ابن قيم الجوزية كتاباً في ذم
التقليد، وقفت على كراسين منه، وألف المجد الشيرازي صاحب القاموس كتاب "الإصعاد إلى رتبة الاجتهاد" انتهى كلام السيوطي.
قال العلامة الشيخ أبو الخير نور الحسن بن أبي الطيب صديق بن حسن رحمهما الله في "الطريق المثلى" دل كلام المحققين من أهل الفروع دلالة أوضح من شمس النهار على أن التقليد لا يجوز لرجل قد بلغ رتبة الاجتهاد لمجتهد مثله أو أعلم منه، وقد عرفوا ما وقع في كتب الأصول: أن علوم الاجتهاد خمسة من عرفها على الصفة التي بينها أهل هذا الشأن وأوضحها أهل التأليف في ذلك صار مجتهداً. فكيف بمن عرفها وعرف زيادة عليها، كما نعرفه من جماعة قريبة من علماء العصر، من يعرف هذه العلوم كما ينبغي. فإن الله – وله الحمد والمنة- قد أوجد في قرب عصرنا هذا –فضلاً عمن تقدم- كثيراً من العلماء القائمين بعلوم الاجتهاد، على الوجه المعتبر، بل عرفت فيمن أدركته من شيوخ مشايخي رحمهم الله تعالى والمعاصرين لهم من لديه من كل علم من العلوم الخمسة التي ذكرها أهل الأصول أضعاف ما اعتبره من كل واحد منها. بل ومنهم – كالعلامة الشوكاني، ومن حذا حذوه من علماء السنة الكائنين بالقطر اليماني، ومن سلك مسلكهم من بعدهم بالتوفيق الرباني – من يعرف علوماً أخرى غير تلك العلوم، يقر بهذا ولا ينكره، ويعترف به ولا يجحده، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل أولو الفضل. انتهى.
وهذا ما وسع المقام نقله من كلام أئمة أهل السنة قديماً وحديثاً في وجود المجتهدين في هذه الأمة، قبل عصر الأئمة الأربعة وفي عصرهم ومن بعد عصرهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وأن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات لا يجوز خلو عصر منه وأن ترك الاجتهاد مؤد إلى إبطال الشريعة.
فدعوى هذا المعترض إجماع الأمة على التقليد الأئمة الأربعة: دعوى مكابر معاند، سالك غير سبيل المؤمنين، خصوصاً ما آل إليه التقليد في هذه الأزمنة المتأخرة من هجرة الكتاب والسنة، وعدم الالتفات إليهما. أعاذنا الله من ذلك.