الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تجيبنا. فقال: أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك؟ قال: نعم، قال: إني قد كبرت سني ورق عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني، ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان إذا سمعا مني حقاً قبلاه، وإذا سمعا خطأ تركاه، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه. قال محمد بن حارث: هذا والله هو الدين الكامل، والعقل الراجح، لا كمن يأتي بالهذيان، ويريد أن ينزله من القلوب منزلة القرآن.
مناقشة المقلدين
…
قال أبو عمر: يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به، وخالفت السلف في ذلك؟ فإنهم لم يقلدوا. فإن قال قلدت لأن كتاب الله عز وجل لا علم لي بتأويله، وسنة رسوله لم أحصها، والذي قلدته قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلم مني. قيل له: أما العلماء إذا اجتمعوا على شيء من تأويل الكتاب، أو حكاية سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه. ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض، فما حجتك في تقليد بعض دون بعض وكلهم عالم؟ ولعل الذي رغبت عن قوله: أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه. فإن قال: قلدته لأني علمت أنه على صواب، قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع؟ فإن قال: علمت بدليل. فقد أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل، وإن قال: قلدته لأني أعلم أنه أنه أعلم مني، قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقاً كثيراً ولا تخص من قلدته إذا علتك فيه أنه أعلم منك. فإن قال: قلدته لأنه أعلم الناس. قيل له: فهو إذاً أعلم من الصحابة رضي الله عنهم. وكفى بقول مثل هذا قبحاً، وإن قال: أنا إنما أقلد بعض الصحابة، قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم؟ ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله على أن القول لا يصح لفضل قائله وإنما يصح بدلالة الدليل عليه. وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك قال: ليس كلما قال رجل قولاً – وإن كان له فضل – يتبع عليه. يقول الله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر، الآية: 18] فإن قال: قصر نظري وقلة علمي يحملني على التقليد. قيل له: أما من قلد فيما ينزل به
من أحكام شريعته عالماً بما يتفق له على علمه، فيصدر في ذلك عما يخبره به بمعذور لأنه قد أتى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك. ولكن من كانت هذه حاله هل تجوز له الفتوى في شرائع دين الله؟ فيحمل غيره على إباحة الفروج، وإراقة الدماء، واسترقاق الرقاب، وإزالة الأملاك، وتصييرها إلى غير من كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ولا قام الدليل عليه، وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان هو المصيب فيما خالفه فيه. فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى، لحفظه الفروع لزمه أن يجيزها للعامة وكفى بهذا جهلاً ورداً للقرآن. قال الله عز وجل:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء، الآية: 36]، وقال:{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف، الآية: 82] وقد أجمع العلماء أن ما لم يتبين ويستيقن فليس بعلم، وإنما هو ظن والظن لا يغني من الحق شيئاً. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد فأغنى ذلك عن الإكثار. انتهى كلام الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى.
وقال القاضي عبد الوهاب، أحد أئمة المالكية في أول كتابه "المقدمات" في أصول الفقه: الحمد لله الذي شرع وكلف، وبين ووقف، وفرض وألزم، وأوجب وحتم، وحلل وحرم، وندب وأرشد، ووعد وأوعد، ونهى وأمر، وأباح وحظر، وأعذر وأنذر، ونصب الأدلة والأعلام على ما شرع لنا من الأحكام، وفصل الحلال من الحرام، والقرب من الآثام، وحض على النظر فيها والتفكر والاعتبار والتدبر، فقال جل ثناؤه:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر، الآية: 2] وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء، الآية: 82]، وقال:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَاّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت، الآية: 43]، وقال:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص، الآية: 29]، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ} [النساء، الآية: 83]، وقال:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة، الآية: 122] الآية. "والتفقه" من التفهم والتبيين، ولا يكون ذلك إلا بالنظر في الأدلة واستيفاء الحجة دون التقليد، لأن التقليد لا يثمر علماً، ولا يفضي إلى معرفة، وقد جاء النص بذم من أخلد إلى تقليد الآباء والرؤساء، واتباع السادات والكبراء، تاركاً بذلك ما ألزمه الله من النظر والاستدلال، وفرض عليه من الاعتبار والاجتهاد. فقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة، الآية: 170]، وقال:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف، الآية: 22] في نظائر من هذه الآيات، تنبيهاً بها على علة حظر التقليد. بأن فيه ترك اتباع الأدلة والعدول عن الانقياد إلى قول من لا يعلم أنه فيما تقلد فيه مصيب أو مخطئ. فلا يأمن من التقليد لغيره كون ما يقلده فيه خطأ وجهلاً. لأن صحة المذهب لا تتبين من فساده باعتقاد المعتقد له، وشدة تمسكه به. وإنما يتميز صحيح المذاهب من فاسدها وحقها من باطلها بالأدلة الكاشفة عن أحوالها، والمميزة بين أحكامها. وذلك معدوم في المقلد لأنه متبع لقول لا يعرف صحته من فساده، وإنما اعتقده لقول مقلده به. فإن زعم صاحب التقليد أنه يعرف صحة القول الذي قلد فيه ويعلم أنه حق، وأن اعتقاده واجب. فذلك باطل منه لأن العلم بذلك لا يكون إلا بالنظر في الأدلة التي هي طريق العلم به فإذا عدل عنها علمنا بطلان دعواه للعلم بصحة ما قلد فيه، فإن قال: علمت صحة القول الذي قلدت فيه بدليل وحجة، قلنا: فأنت إذن غير مقلد، لأنك عارف بصحة القول الذي تعتقده، والتقليد: هو اتباع القول، لأن قائلاً قال به من غير علم بصحته من فساده.
ثم قال – فإن قيل: فإذا كنتم تمنعون التقليد وتدعون إلى النظر: فيجب أن تبينوا صحته وتثبتوه طريقاً للعلم بالمنظور فيه. فالجواب: أن القرآن قد حض على النظر والاعتبار في الآيات السابقة، ولا يجوز أن يحض على النظر فيما لا يثمر علماً، ويأمر باعتقاد ما يؤدي إليه. وإن لم يكن حقاً مع قوله تعالى: {وَلا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء، الآية: 36] وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة، الآية: 169]، وقوله:{وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَاّ الْحَقَّ} [النساء، الآية: 171] ومع ما ورد به القرآن من الاستدلال على مدلولات والتنبيه على تصحيح وإفساد مقالات. وذلك في القرآن كثير، يطول استيفاؤه ومن الظاهر في ذلك المشهور ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من الاحتجاج والاستدلال في مسائل الأحكام، ومناظرة بعضهم لبعض، وذلك أشهر وأظهر من تكلف الإطالة بتقصيه، فبان بما أوردناه صحة النظر والاستدلال وثبوته طريقاً للعلم بالمنظور فيه.
فإن قيل: أخبرونا عن مريد التفقه ما الذي يلزمه؟ قلنا: لا يسوغ لمن فيه فضل للنظر والاجتهاد وقوة على الاستدلال والاعتبار أن يعتقد التفقه إلا من طريق الاستدلال الصحيح، العاري عن آفات النظر المانعة له من استعماله على وجهه وترتيبه في حقه.
فإن قيل: فهذا خلاف ما أنتم عليه من دعائكم إلى درس مذهب مالك بن أنس، واعتقاده، والتدين بصحته، وفساد ما خالفه؟ قلنا: هذا ظن منك بعيد، وإغفال شديد، لأنا لا ندعو من ندعوه إلى ذلك إلا إلى أمر قد عرفنا صحته، وعلمنا صوابه بالطريق التي قد بيناها، فلم نخالف بدعائنا إليه ما قررناه، وعقدنا الباب عليه.
هذا كلام القاضي عبد الوهاب وهو نظير قول من قال من أصحابنا: ما قلدنا الشافعي ولكن طابق اجتهادنا اجتهاده.
وقال القاضي عبد الوهاب أيضاً في كتابه "الملخص" في أصول الفقه.
فصل في فساد التقليد: التقليد لا يثمر علماً، فالقول به ساقط، وهذا الذي قلنا: هو قول كافة أهل العلم. وذهب قوم من ضعفة من ينتمي للعلم، وممن يفرغ على نفسه من استيفاء النظر على وجهه حتى أن يكشف له به فساد مذهب، قد تمت له معه وئاسة، أو حصل له نشوة أو عادة، أو عصبية إلى صحة