المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌افتراء الملحد على أئمة أهل الحديث والرد عليه - البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار

[فوزان السابق]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌إظهار ما في صدر خطبة الملحد العظمى من جهل وتناقض

- ‌تحريف الملحد لكلام الله وتصرفه فيه

- ‌أفاضل علماء مصر والهند والعراق الذين ردوا على دحلان والنبهاني

- ‌الرد على الملحد في زعمه أن الاجتهاد بدعة

- ‌قول الإمام ابن القيم في الحض على الاجتهاد

- ‌قول الإمام الشاطبي في مختصر تنقيح الفصول: إن الاجتهاد فرض كفاية

- ‌قول الجلال السيوطي في كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض

- ‌فصول من كتاب السيوطي في نصوص المحققين في الاجتهاد

- ‌نقض زعم الملحد أنه متفق مع أهل السنة على مذهب السلف

- ‌إننا والحمد لله على مذهب السلف لم نخرج عنه

- ‌أدلة من كلامه في رسالته: أنه عدو للحديث ولمذهب السلف

- ‌بيان مذهب السلف، ومن هم السلف

- ‌جمل من رسالة الملحد في محاربته لمذهب السلف

- ‌افتراؤه الكذب: أن التوسل بالموتى في القرآن والحديث

- ‌كذبه على الأئمة الأربعة بأنهم دعوا الناس إلى تقليدهم

- ‌نقل ابن القيم عن الأئمة النهي عن التقليد

- ‌تكفير الملحد لعلماء السلف

- ‌أقوال ثقات المؤرخين في صحة عقيدة الوهابيين

- ‌كلام العلامة المصري محمود فهمي

- ‌كلام العلامة محمد بن علي الشوكاني في مدح الإمام عبد العزيز بن سعود

- ‌قصيدة العلامة محمد بن الأمير الصنعاني في مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌كلام الشيخ عبد الكريم الهندي في مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌نقض ما زعمه الملحد من طغيان الوهابيين وبغيهم بالحجاز

- ‌كلام المؤرخ المصري في أن الوهابيين طهروا الحجاز من الشرك والفساد

- ‌كلام الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في تطهير الوهابيين الحجاز من الشرك والفساد

- ‌حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى والي مكة الشريف أحمد بن سعيد

- ‌كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى علماء مكة

- ‌المناظرات التي كانت بين علماء نجد وعلماء مكة

- ‌سرور الملحد من ظهور أهل الباطل على أهل الحق والتوحيد

- ‌ثناء الملحد على دحلان لاتفاق روحيهما الخبيثتين

- ‌تزوير الملحد ل‌‌تاريخ الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌تاريخ الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌فصل - استطراد في سيرة الشيخ محمد عبد الوهاب وبعض أقواله

- ‌طعن الملحد في آل سعود لنصرتهم للشيخ والرد عليه

- ‌طعنه في آل الشيخ والرد عليه

- ‌موقف سليمان بن عبد الوهاب من أخيه الشيخ محمد وكذب الملحد في روايته عنه

- ‌افتراءات الملحد لأصول الإسلام تماديا في الإنكار على الشيخ والرد عليه

- ‌أصل مذهب الوهابيين من القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام

- ‌افتراء الملحد عليهم في الصفات والرد عليه

- ‌الوهابيون لم ينبشوا القبور بل سووها اتباعا لسنة الرسول عليه السلام

- ‌قول الملحد ببطلان مذهب الوهابية لأنه كمذهب الصحابة والتابعين

- ‌ادعاؤه أن الوهابيين ينكرون الإجماع ودحض مفترياته

- ‌قول الملحد بعدم جواز تقليد الصحابة والتابعين والرد عليه

- ‌أقوال العلماء في وجوب اتباع الصحابة

- ‌الوهابيون متبعون لا مبتدعون

- ‌أقوال الأئمة والعلماء في النهي عن التقليد والحض على الاجتهاد

- ‌هل على العامي أن يتمذهب بمذهب معين؟ رأي الإمام ابن القيم في ذلك

- ‌افتراء الملحد على الوهابيين في الإجماع على القراءات

- ‌ادعاء الملحد بأن الإجماع عرف بعد عصر الأئمة الأربعة

- ‌زعمه أن الأمة كلها على السنة وتفنيد مفترياته

- ‌الفرق بين التقليد والاتباع

- ‌مناقشة المقلدين

- ‌التقليد قبول قول بلا حجة

- ‌أدلة جديدة على إبطال التقليد

- ‌المذهب: معناه دين مبدل

- ‌الواجب على كل مسلم: الاجتهاد في معرفة معاني القرآن والسنة

- ‌لم يقل أحد من أهل السنة: إن إجماع الأربعة حجة معصومة

- ‌افتراءات أخرى للملحد على الوهابيين ودحضها

- ‌كذبه على الفخر الرازي

- ‌كذبه على الوهابيين بأنهم قالوا إن الدين كان واحدا وجعله الأئمة أربعا

- ‌بيان جهل الملحد

- ‌ليس الأئمة سبب الاختلاف بل هو من غلاة المقلدين

- ‌عداوة الملحد لكتب الحديث وأهل الحديث

- ‌ نبذة من سيرة أئمة المذاهب

- ‌قول الملحد برفع الحرج عن الأمة بتعدد بتعدد الأهواء

- ‌في هذا القول طعن فيما كان عليه رسول الله وأصحابه

- ‌كذبه على شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌إنكاره بقاء الاجتهاد في الأمة

- ‌جهله بالأصول والقواعد والمصطلحات

- ‌ذكر جملة من العلماء المجتهدين

- ‌افتراؤه بوجود أولياء كانوا يتلقون الشريعة من ذات صاحبها عليه السلام بدون واسطة

- ‌اعتباره التلفيق أصلا في الشريعة

- ‌ادعاؤه أن الاختلاف هو عين الرحمة والرد عليه من الكتاب والسنة وكلام العلماء

- ‌كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌افتراء الملحد على أئمة أهل الحديث والرد عليه

- ‌مبدأ جمع الحديث وتأليفه وانتشاره

- ‌ طبقات كتب الحديث

- ‌بين أئمة المذاهب وأئمة الحديث

- ‌ادعاء الملحد أن الأمة لم تجمع على صحيح البخاري

- ‌جهله بالأصول وطعنه في أحاديث الرسول

- ‌الملحد ليس على مذهب من المذاهب الأربعة

- ‌عقيدة الملحد في التوسل والرد عليها

- ‌افتراؤه بأن القرآن جاء بالتوسل بالرسل والأولياء

- ‌ادعاؤه بأنه لا يجوز تطبيق صفات الكافرين والمشركين على المسلمين ولو عملوا مثل أعمالهم واعتقدوا مثل عقائده

- ‌قوله بحياة الرسول في قبره والرد عليه

- ‌تناقضه بادعائه الاجتهاد الذي نفاه نفاه قبلا وتفسيره القرآن بهواه

- ‌أقوال العلماء في الحياة البرزخية

- ‌افتراء الملحد على الوهابيين أنهم أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌زعمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب استقلالا

- ‌عقيدته في الزيارة ودحض مفترياته

- ‌إقامة المواليد بدعة وضلالة

- ‌تحريف الملحد لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وصرفه عن معناه

- ‌نص كلام شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌حنقه على شيخ الإسلام لتحقيقه توحيد الله تعالى وإفراده بجميع أنواع العبادات

- ‌لم يحرم شيخ الإسلام ابن تيمية زيارة القبور على الوجه المشروع بل منع تعظيمها وشد الرحال إليها اتباعا للسنة

- ‌كل من تصدى للرد على شيخ الإسلام كانوا من حثالة المقلدين

- ‌زيارة القبور الشرعية ليست مباحة فقط، بل هي سنة مؤكدة

- ‌ليس قصد التبرك من زيارة القبور إلا على دين المشركين الأولين

- ‌خلط الملحد بين التوسل والاستشفاع والاستغفار

- ‌جعله التوسل إلى الله كالتوسل إلى السلاطين

- ‌كذبه على الله بأن الشرع أباح التوسل

- ‌فصل من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة

- ‌افتراء الملحد بأن الوهابيين يعتقدون تأثير الأعراض

- ‌جهله بأن الدعاء هو العبادة

- ‌لم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة إن التوسل هو دعاء الأموات

- ‌إن الله لم يتعبدنا باتباع عقولنا بل أرسل إلينا رسولا بالمؤمنين رؤوف رحيم

- ‌ما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم لحماية حمى التوحيد

- ‌هذا الملحد المخذول هو الذي عارض الرسول عليه السلام في أصل رسالته

- ‌شهادة للوهابيين بالإيمان بالقرآن وإنكاره عليهم محبة الرسول وهذا مما لا يتفق مع الشهادة

- ‌الوهابيون بحمد الله سميعون مطيعون منفذون لكلام الله ولسنة رسوله عليه الصلاة والسلام

- ‌حديث "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وتلاعب الملحد به

- ‌آية {من يشفع شفاعة حسنة} وإلحاده في معناها

- ‌حديث "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك" وبيان أنه واه

- ‌كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الحديث

- ‌تضعيف حديث قصة فاطمة بنت أسد

- ‌نقض دعوى الملحد أن النبي يتوسل بنفسه وبالأنبياء

- ‌نقض دعوى الملحد في حديث الأعمى والكلام على ضعفه ومعناه

- ‌كذب الملحد في دعوى عمل الصحابة بحديث الأعمى

- ‌تحريف الملحد للمنام بجعله حديثا

- ‌قصة رؤيا بلال بن الحارث مكذوبة

- ‌تحريف الملحد في توسل عمر بالعباس

- ‌كذب حديث توسل آدم برسول الله

- ‌تحريف الملحد في استدلاله على دعاء الموتى بحديث الشفاعة

- ‌أقوال علماء السلف في حديث الشفاعة

- ‌تحريف الملحد في استدلاله بحديث "يا عباد الله احبسوا

- ‌كفر الحاج مختار بضربه الأمثال لله بخلقه

- ‌ضلال الملحد وسادته في معاني الاستشفاع والاستغفار والتوسل

- ‌نحريف الملحد لآيات القرآن في الاستشفاع والاستغفار والتوسل

- ‌كذب الملحد وشيعته على الوهابيين بدعوى تحريم الصلاة على رسول الله

- ‌أكاذيب دحلان وضلالاته في تسوية الأحياء بالأموات

- ‌معارضة الملحدين نصوص الكتاب والسنة بأهوائهم

الفصل: ‌افتراء الملحد على أئمة أهل الحديث والرد عليه

الأربعة من غزارة العلم في جميع فنون علم الشريعة. ولكن لا يلزم من ذلك أن تدعى الأمة لترك الكتاب والسنة والنظر فيهما، وفقه معانيهما، والحرص على العمل بما فيهما من شرائع، مكتفية عنهما بعلوم الأئمة الأربعة، ولا أن تلتزم تقليدهم وعدم الخروج عن هذه الكتب المنسوبة إلى مذاهبهم، وهم لم يعلموا بها، ولا علم بها أصحابهم المعاصرون لهم. وقد بنيت أكثر هذه الكتب على محض آراء الرجال وتفريعاتهم. وفيها من المسائل المخالفة لمذاهب الأئمة الأربعة في أصول الدين – فضلا عن فروعه- شيء كثير. وقد تغالى كثير من الجهلة الحمقى- أمثال هذا المعترض- في الدعوة إلى التقليد الأعمى. وحرموا النظر في نصوص الكتاب والسنة لأجل العمل بهما والتحاكم إليهما. وقد قال هذا المعترض الملحد:"ومع هذا فأخبرونا متى اجتمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ وأي عالم أو فقيه أفتى في حكم عن البخاري أو غيره؟ " ويعني بغيره: كتب الحديث. وهذا شطط عن سلوك سبيل المؤمنين ورفع للتقليد عن حدوده الجائزة بين من يعتد بهم من أئمة المسلمين. وهو عدم وجود النص أما إذا وجد النص من الكتاب أو السنة فلا يجوز التقليد. فكيف بمن ينكر النص والعمل به في أصح كتاب، بعد كتاب الله تعالى باتفاق الأمة وهو صحيح البخاري؟. ويقول: إنه لا يجوز تقليد أحد من هذه الأمة من أولها إلا آخرها، إلا الأئمة الأربعة مع أن الأئمة الأربعة قد نهوا عن تقليدهم وتقليد غيرهم، وأنكروا التقليد أشد إنكار في نصوص عنهم لا تقبل المغالطة. فأي تقليد يدعيه هؤلاء المبطلون، بعد ما اشتهر عن الأئمة من إنكار التقليد؟.

ص: 256

‌افتراء الملحد على أئمة أهل الحديث والرد عليه

قال المعترض: "وأئمة الحديث ما دونوه بهذا القصد، ولا تتبعوا فيه أحوال الصحابة والتابعين، بل دونوه لأجل حفظه. فلذا ما كان من مقصدهم تحري ما تحراه الأئمة سيما أن الأربعة سبقوهم لبيان ما يجوز التعبد به والتعامل فيه وما لا يجوز. ومن البديهي: أن مدون الأحكام بقصد العمل بها أعلم من مدونها بقصد جمعها".

أقول: هذا افتراء من الملحد على أئمة أهل الحديث، وحط من قدرهم

ص: 256

وعلمهم، وبخس لثمرة جدهم واجتهادهم، وفضلهم في حفظ شريعة نبيهم صلى الله عليه وسلم وتنقيحها وتنظيمها، وقد أتعبوا في ذلك أجسامهم وأفكارهم، وهجروا في جمعها أوطانهم، واستغرقوا في تقييدها وتصحيحها ليلهم ونهارهم، فأبرزوها في كتب نهجوا فيها منهاج التحقيق والتدقيق، وبينوا فيها صحيحها من سقيمها، وقويها من ضعيفها، وبينوا حال رجالها وعللها وجميع طرقها. وبينوا ناسخها ومنسوخها، وعامها وخاصها ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفصلها، وظاهرها ومضمرها. وبينوا غريبها ومشكلها، ومعانيها وفقهها، واستنبطوا غوامضها وما دلت عليه من فنون الشريعة في جميع العبادات والمعاملات التي كلف الله بها عباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. ولولا أئمة أهل الحديث واعتناؤهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمعه وتدوينه ما عرفنا منه شيئاً ولا وصل إلينا منه إلا القليل ممزوجاً بآراء الرجال. فجزى الله أهل الحديث عن حفظهم لشريعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم أفضل ما جزى به المجاهدين المحسنين وإن رغم أنف الملحد الحاج مختار. فليس يضير أهل الحديث شيء من أقوال هؤلاء الحمقى الضالين" {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد، الآية:17] فهذه علوم أهل الحديث، وأعلامهم ساطعة أنوارها للسالكين، هادية إلى المحجة لسنة سيد المرسلين.

وقل للعيون الرمد للشمس أعين

سواك تراها في مغيب ومطلع

وسامح نفوساً أطفأ الله نورها

بأهوائها لا تستفيق ولا تعي

وبعد هذا، فيحسن بنا في هذا المقام أن نورد نبذة يسيرة من كلام أهل العلم تدل على شرف علم الحديث وأهله، وبيان فضلهم وحسن قصدهم في حفظ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وإبرازها لهذه الأمة نقية كما خرجت عن مشكاة النبوة لتقوم بها الحجة على المكلفين بما فيها من أمر ونهي، لا كما يزعمه الهلباجة الحاج مختار، من أنها إنما جمعت لحفظها، لا للعمل بها.

قال الإمام العالم العلامة صديق حسن القنوجي رحمه الله تعالى في كتابه

ص: 257

"الحطة في ذكر الصحاح السنة" الفصل الثاني في شرف علم الحديث، وفضيلة المحدثين: اعلم أن أنف العلوم الشرعية ومفتاحها، ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها، وعمدة المناهج اليقينية ورأسها، ومبنى شرائع الإسلام وأساسها، ومستند الروايات الفقهية كلها، ومأخذ الفنون الدينية دقها وجلها، وأسوة جملة الأحكام وأسها، وقاعدة العقائد وأسطقسها، وسماء العبادات وقطب مدارها، ومركز المعاملات ومحط حارها وقارها: هو علم الحديث الشريف، الذي تعرف به جوامع الكلم، وتنفجر منه ينابيع الحكم، وتدور عليه رحى الشرع بالأسر، وهو ملاك كل نهي وأمر، ولولاه لقال من شاء ما شاء، وخبط الناس خبط عشواء، وركبوا متن عمياء، فطوبى لمن جد فيه، وحصل منه على تنويه، يملك من العلوم النواصي، ويقرب من أطرافها البعيد القاصي، ومن لم يرضع من درة، ولم يخض في بحره، ولم يقتطف من زهره، ثم تعرض للكلام في المسائل والأحكام: فقد جار فيما حكم، وقال على الله تعالى ما لم يعلم، كيف؟ وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. والرسول أشرف الخلق كلهم أجمعين، وقد أوتي جوامع الكلم، وسواطع الحكم، من عند رب العالمين. فكلامه أشرف الكلم وأفضلها، وأجمع الحكم وأكملها، كما قيل:"كلام الملوك ملك الكلام" وهو تلو كلام الملك العلام، وثاني أدلة الأحكام. فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها، وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها، وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها، وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها: تتوقف على بيانه صلى الله عليه وسلم، فإنها ما لم توزن بهذا القسطاس المستقيم، ولم تضرب على ذلك المعيار القويم، لا يعتمد عليها ولا يصار إليها. فهذا العلم المنصوص، والبناء المرصوص بمنزلة الصيرف لجواهر العلوم، عقليها نقليها، وكالنقاد لنقود كل فنون أصليها وفرعيها، من وجوه التفاسير والفقهيات، ونصوص الأحكام، ومآخذ عقائد الإسلام، وطرق السلوك إلى الله سبحانه وتعالى ذي الجلال والإكرام. فما كان منها كامل المعيار في نقد هذا الصراف، فهوا لحري بالترويج

ص: 258

والاشتهار، وما كان زيفاً غير جيد عند ذاك النقاد فهو القمين بالرد والطرد والإنكار. فكل قول يصدقه خبر الرسول عليه الصلاة والسلام فهو الأصلح للقبول، وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان. فهي مصابيح الدجى، ومعالم الهدى، وبمنزلة البدر المنير، من انقاد لها فقد رشد واهتدى، وأوتي الخير الكثير، ومن أعرض عنها وتولى، فقد غوى وهوى. وما زاد نفسه إلا التخسير. فإنه صلى الله عليه وسلم نهى وأمر وأنذر وبشر، وضرب الأمثال وذكر، وإنها لمثل القرآن، بل هي أكثر. وقد ارتبط بها اتباعه صلى الله عليه وسلم الذي هو ملاك سعادة الدارين، والحياة الأبدية بلا مين. كيف؟ وما الحق إلا فيما قاله صلى الله عليه وسلم أو عمل به، أو قرره، أو أشار إليه، أو تفكر فيه، أو خطر بباله، أو هجس في خلده، واستقام عليه. فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب. والعمل بهما في كل إياب وذهاب. ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قاله من علم سيط بدمه الحق والهدى، ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى، وقد كان الإمام محمد بن علي بن حسين رضي الله عنهم يقول: إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث.

انتهى ما أردت نقله. ثم أطال الكلام رحمه الله تعالى في مدح علم الحديث وأهله مما لا يتسع له ردنا هذا.

ثم قال رحمه الله تعالى الفصل الثاني في مبدأ جمع الحديث وتأليفه وانتشاره: فإنه لما كان من أصول الفروض وجب الاعتناء به، والاهتمام بضبطه وحفظه. ولذلك يسر الله سبحانه وتعالى له العلماء الثقات، الذي حفظوا قوانينه، وأحاطوا قوافيه، فتناقلوه كابراً عن كابر، وأوصله كما سمعه أول إلى آخر، وحببه الله تعالى إليهم لحكمة حفظ دينه وحراسة شريعته، فلم يزل هذا العلم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم غضاً طرياً، والدين محكم الأساس قوياً، أشرف العلوم وأجلها لدى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، خلفاً بعد سلف. لا يشرف بينهم أحد بعد كتاب الله سبحانه وتعالى إلا بقدر ما يحفظ منه ولا يعظم

ص: 259

في النفوس إلا بحسب ما سمع من الأحاديث. فتوفرت فيه الرغبات فما زال لهم من لدن رسول الله إلى أن انقطعت الهمم على تعلمه حتى لقد كان أحدهم يرحل إليه المراحل ذوات العدد، ويقطع الفيافي والمفاوز، ويجوب البلاد شرقاً وغرباً، في طلب حديث واحد ليسمعه من راويه. فمنهم من يكون الباعث له على الرحلة طلب ذلك الحديث لذاته، ومنهم من يقرن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوي بعينه إما لثقته في نفسه، وإما لعلو إسناده، فانبعثت العزائم على تحصيله وكان اعتمادهم أولاً على الحفظ والضبط في القلوب، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب الله سبحانه وتعالى، ولا معولين على ما يسطرونه، وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم. فلما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار وكثرت الفتوحات ومات معظم الصحابة رضي الله عنهم، وتفرق أصحابهم وأتباعهم، وقل الضبط واتسع الخرق، وكاد الباطل أن يلتبس بالحق احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخائف يغفل، والقلم يحفظ، فمارسوا الدفاتر، وسايروا المحابر، وأجالوا في نظم قلائده أفكارهم، وأنفقوا في تحصيله أعمارهم، واستغرقوا لتقييده ليلهم ونهارهم، فأبرزوا تصانيف كثرت صنوفها ودونوا دواوين ظهرت شفوقها، فاتخذها العالمون قدوة، ونصبها العارفون قبلة، فجزاهم الله سبحانه وتعالى عن سعيهم الحميد أحسن ما جزى به علماء أمة وأحبار ملة.

وكان أول من أمر بتدوين الحديث وجمعه بالكتابة: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه خوف اندراسه. كما في الموطأ رواية محمد بن الحسن، أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم:"أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء". وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصفهان عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه كتب إلى الآفاق: "انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه". وعلقه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، فيستفاد

ص: 260