الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأربعة من غزارة العلم في جميع فنون علم الشريعة. ولكن لا يلزم من ذلك أن تدعى الأمة لترك الكتاب والسنة والنظر فيهما، وفقه معانيهما، والحرص على العمل بما فيهما من شرائع، مكتفية عنهما بعلوم الأئمة الأربعة، ولا أن تلتزم تقليدهم وعدم الخروج عن هذه الكتب المنسوبة إلى مذاهبهم، وهم لم يعلموا بها، ولا علم بها أصحابهم المعاصرون لهم. وقد بنيت أكثر هذه الكتب على محض آراء الرجال وتفريعاتهم. وفيها من المسائل المخالفة لمذاهب الأئمة الأربعة في أصول الدين – فضلا عن فروعه- شيء كثير. وقد تغالى كثير من الجهلة الحمقى- أمثال هذا المعترض- في الدعوة إلى التقليد الأعمى. وحرموا النظر في نصوص الكتاب والسنة لأجل العمل بهما والتحاكم إليهما. وقد قال هذا المعترض الملحد:"ومع هذا فأخبرونا متى اجتمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ وأي عالم أو فقيه أفتى في حكم عن البخاري أو غيره؟ " ويعني بغيره: كتب الحديث. وهذا شطط عن سلوك سبيل المؤمنين ورفع للتقليد عن حدوده الجائزة بين من يعتد بهم من أئمة المسلمين. وهو عدم وجود النص أما إذا وجد النص من الكتاب أو السنة فلا يجوز التقليد. فكيف بمن ينكر النص والعمل به في أصح كتاب، بعد كتاب الله تعالى باتفاق الأمة وهو صحيح البخاري؟. ويقول: إنه لا يجوز تقليد أحد من هذه الأمة من أولها إلا آخرها، إلا الأئمة الأربعة مع أن الأئمة الأربعة قد نهوا عن تقليدهم وتقليد غيرهم، وأنكروا التقليد أشد إنكار في نصوص عنهم لا تقبل المغالطة. فأي تقليد يدعيه هؤلاء المبطلون، بعد ما اشتهر عن الأئمة من إنكار التقليد؟.
افتراء الملحد على أئمة أهل الحديث والرد عليه
…
قال المعترض: "وأئمة الحديث ما دونوه بهذا القصد، ولا تتبعوا فيه أحوال الصحابة والتابعين، بل دونوه لأجل حفظه. فلذا ما كان من مقصدهم تحري ما تحراه الأئمة سيما أن الأربعة سبقوهم لبيان ما يجوز التعبد به والتعامل فيه وما لا يجوز. ومن البديهي: أن مدون الأحكام بقصد العمل بها أعلم من مدونها بقصد جمعها".
أقول: هذا افتراء من الملحد على أئمة أهل الحديث، وحط من قدرهم
وعلمهم، وبخس لثمرة جدهم واجتهادهم، وفضلهم في حفظ شريعة نبيهم صلى الله عليه وسلم وتنقيحها وتنظيمها، وقد أتعبوا في ذلك أجسامهم وأفكارهم، وهجروا في جمعها أوطانهم، واستغرقوا في تقييدها وتصحيحها ليلهم ونهارهم، فأبرزوها في كتب نهجوا فيها منهاج التحقيق والتدقيق، وبينوا فيها صحيحها من سقيمها، وقويها من ضعيفها، وبينوا حال رجالها وعللها وجميع طرقها. وبينوا ناسخها ومنسوخها، وعامها وخاصها ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفصلها، وظاهرها ومضمرها. وبينوا غريبها ومشكلها، ومعانيها وفقهها، واستنبطوا غوامضها وما دلت عليه من فنون الشريعة في جميع العبادات والمعاملات التي كلف الله بها عباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. ولولا أئمة أهل الحديث واعتناؤهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمعه وتدوينه ما عرفنا منه شيئاً ولا وصل إلينا منه إلا القليل ممزوجاً بآراء الرجال. فجزى الله أهل الحديث عن حفظهم لشريعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم أفضل ما جزى به المجاهدين المحسنين وإن رغم أنف الملحد الحاج مختار. فليس يضير أهل الحديث شيء من أقوال هؤلاء الحمقى الضالين" {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد، الآية:17] فهذه علوم أهل الحديث، وأعلامهم ساطعة أنوارها للسالكين، هادية إلى المحجة لسنة سيد المرسلين.
وقل للعيون الرمد للشمس أعين
…
سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح نفوساً أطفأ الله نورها
…
بأهوائها لا تستفيق ولا تعي
وبعد هذا، فيحسن بنا في هذا المقام أن نورد نبذة يسيرة من كلام أهل العلم تدل على شرف علم الحديث وأهله، وبيان فضلهم وحسن قصدهم في حفظ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وإبرازها لهذه الأمة نقية كما خرجت عن مشكاة النبوة لتقوم بها الحجة على المكلفين بما فيها من أمر ونهي، لا كما يزعمه الهلباجة الحاج مختار، من أنها إنما جمعت لحفظها، لا للعمل بها.
قال الإمام العالم العلامة صديق حسن القنوجي رحمه الله تعالى في كتابه
"الحطة في ذكر الصحاح السنة" الفصل الثاني في شرف علم الحديث، وفضيلة المحدثين: اعلم أن أنف العلوم الشرعية ومفتاحها، ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها، وعمدة المناهج اليقينية ورأسها، ومبنى شرائع الإسلام وأساسها، ومستند الروايات الفقهية كلها، ومأخذ الفنون الدينية دقها وجلها، وأسوة جملة الأحكام وأسها، وقاعدة العقائد وأسطقسها، وسماء العبادات وقطب مدارها، ومركز المعاملات ومحط حارها وقارها: هو علم الحديث الشريف، الذي تعرف به جوامع الكلم، وتنفجر منه ينابيع الحكم، وتدور عليه رحى الشرع بالأسر، وهو ملاك كل نهي وأمر، ولولاه لقال من شاء ما شاء، وخبط الناس خبط عشواء، وركبوا متن عمياء، فطوبى لمن جد فيه، وحصل منه على تنويه، يملك من العلوم النواصي، ويقرب من أطرافها البعيد القاصي، ومن لم يرضع من درة، ولم يخض في بحره، ولم يقتطف من زهره، ثم تعرض للكلام في المسائل والأحكام: فقد جار فيما حكم، وقال على الله تعالى ما لم يعلم، كيف؟ وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. والرسول أشرف الخلق كلهم أجمعين، وقد أوتي جوامع الكلم، وسواطع الحكم، من عند رب العالمين. فكلامه أشرف الكلم وأفضلها، وأجمع الحكم وأكملها، كما قيل:"كلام الملوك ملك الكلام" وهو تلو كلام الملك العلام، وثاني أدلة الأحكام. فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها، وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها، وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها، وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها: تتوقف على بيانه صلى الله عليه وسلم، فإنها ما لم توزن بهذا القسطاس المستقيم، ولم تضرب على ذلك المعيار القويم، لا يعتمد عليها ولا يصار إليها. فهذا العلم المنصوص، والبناء المرصوص بمنزلة الصيرف لجواهر العلوم، عقليها نقليها، وكالنقاد لنقود كل فنون أصليها وفرعيها، من وجوه التفاسير والفقهيات، ونصوص الأحكام، ومآخذ عقائد الإسلام، وطرق السلوك إلى الله سبحانه وتعالى ذي الجلال والإكرام. فما كان منها كامل المعيار في نقد هذا الصراف، فهوا لحري بالترويج
والاشتهار، وما كان زيفاً غير جيد عند ذاك النقاد فهو القمين بالرد والطرد والإنكار. فكل قول يصدقه خبر الرسول عليه الصلاة والسلام فهو الأصلح للقبول، وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان. فهي مصابيح الدجى، ومعالم الهدى، وبمنزلة البدر المنير، من انقاد لها فقد رشد واهتدى، وأوتي الخير الكثير، ومن أعرض عنها وتولى، فقد غوى وهوى. وما زاد نفسه إلا التخسير. فإنه صلى الله عليه وسلم نهى وأمر وأنذر وبشر، وضرب الأمثال وذكر، وإنها لمثل القرآن، بل هي أكثر. وقد ارتبط بها اتباعه صلى الله عليه وسلم الذي هو ملاك سعادة الدارين، والحياة الأبدية بلا مين. كيف؟ وما الحق إلا فيما قاله صلى الله عليه وسلم أو عمل به، أو قرره، أو أشار إليه، أو تفكر فيه، أو خطر بباله، أو هجس في خلده، واستقام عليه. فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب. والعمل بهما في كل إياب وذهاب. ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قاله من علم سيط بدمه الحق والهدى، ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى، وقد كان الإمام محمد بن علي بن حسين رضي الله عنهم يقول: إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث.
انتهى ما أردت نقله. ثم أطال الكلام رحمه الله تعالى في مدح علم الحديث وأهله مما لا يتسع له ردنا هذا.
ثم قال رحمه الله تعالى الفصل الثاني في مبدأ جمع الحديث وتأليفه وانتشاره: فإنه لما كان من أصول الفروض وجب الاعتناء به، والاهتمام بضبطه وحفظه. ولذلك يسر الله سبحانه وتعالى له العلماء الثقات، الذي حفظوا قوانينه، وأحاطوا قوافيه، فتناقلوه كابراً عن كابر، وأوصله كما سمعه أول إلى آخر، وحببه الله تعالى إليهم لحكمة حفظ دينه وحراسة شريعته، فلم يزل هذا العلم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم غضاً طرياً، والدين محكم الأساس قوياً، أشرف العلوم وأجلها لدى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، خلفاً بعد سلف. لا يشرف بينهم أحد بعد كتاب الله سبحانه وتعالى إلا بقدر ما يحفظ منه ولا يعظم
في النفوس إلا بحسب ما سمع من الأحاديث. فتوفرت فيه الرغبات فما زال لهم من لدن رسول الله إلى أن انقطعت الهمم على تعلمه حتى لقد كان أحدهم يرحل إليه المراحل ذوات العدد، ويقطع الفيافي والمفاوز، ويجوب البلاد شرقاً وغرباً، في طلب حديث واحد ليسمعه من راويه. فمنهم من يكون الباعث له على الرحلة طلب ذلك الحديث لذاته، ومنهم من يقرن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوي بعينه إما لثقته في نفسه، وإما لعلو إسناده، فانبعثت العزائم على تحصيله وكان اعتمادهم أولاً على الحفظ والضبط في القلوب، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب الله سبحانه وتعالى، ولا معولين على ما يسطرونه، وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم. فلما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار وكثرت الفتوحات ومات معظم الصحابة رضي الله عنهم، وتفرق أصحابهم وأتباعهم، وقل الضبط واتسع الخرق، وكاد الباطل أن يلتبس بالحق احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخائف يغفل، والقلم يحفظ، فمارسوا الدفاتر، وسايروا المحابر، وأجالوا في نظم قلائده أفكارهم، وأنفقوا في تحصيله أعمارهم، واستغرقوا لتقييده ليلهم ونهارهم، فأبرزوا تصانيف كثرت صنوفها ودونوا دواوين ظهرت شفوقها، فاتخذها العالمون قدوة، ونصبها العارفون قبلة، فجزاهم الله سبحانه وتعالى عن سعيهم الحميد أحسن ما جزى به علماء أمة وأحبار ملة.
وكان أول من أمر بتدوين الحديث وجمعه بالكتابة: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه خوف اندراسه. كما في الموطأ رواية محمد بن الحسن، أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم:"أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء". وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصفهان عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه كتب إلى الآفاق: "انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه". وعلقه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، فيستفاد