الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقليد. وأنه يثمر العلم بالمقلد فيه والدليل على فساد ذلك: أن المقلد لا يخلو أن يكون عالماً بصحة قول من يقلده، أو غير عالم بذلك، فإن كان عالماً فهذا ليس بمقلد لأن متبع لقول قد عرف صحته بالطريق الذي به عرف كون قائله محقاً، وإن كان غير عالم بصحته لم يأمن أن يكون خطأ وجهلاً. فيقدم على اعتقاده، ومعتقد الجهل والخطأ ليس بعالم. ولا يقال: إن اعتقاده علم فبطل بذلك كون التقليد علماً. وقد دل القرآن على فساد التقليد في غير موضع وعلى ذم من صار إليه، ودان به.
التقليد قبول قول بلا حجة
…
وقال الغزالي في "المستصفى": التقليد هو قبول قول بلا حجة، وليس ذلك طريقاً إلى العلم، لا في الأصول ولا في الفروع. وذهب الحشوية والتعليمية إلى أن طريق معرفة الحق التقليد. وأن ذلك هو الواجب وأن النظر والبحث حرام. ويدل على بطلان مذهبهم مسالك:
الأول: أن صدق المقلد لا يعلم ضرورة فلا بد من دليل، ودليل الصدق المعجزة. فيعلم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بمعجزته وصدق كلام الله بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن صدقه وصدق أهل الإجماع بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن عصمتهم. فحيث لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا دليل فالاتباع فيه اعتماد على الجهل.
المسلك الثاني: أن يقال: أتحيلون الخطأ على مقلدكم أم تجوزونه؟ فإن جوزتموه فأنتم شاكون في صحة مذهبكم وإن أحلتموه فبم عرفتم استحالته؟ أبضرورة، أم بنظر أم بتقليد؟ ولا ضرورة ولا دليل. فإن قلدتموه في قوله: إن مذهبه حق، فبم عرفتم صدقه في تصديق نفسه؟ وإن قلدتم غيره فبم عرفتم صدق المقلد الآخر؟ وإن عولتم على سكون النفس إلى قوله، فبم تفرقون بين سكون نفوسكم وسكون نفوس النصارى واليهود؟ وبم تفرقون بين قول مقلدكم إني صادق محق، وبين قول مخالفيكم؟
ويقال لهم أيضاً في إيجاب التقليد: هل تعلمون وجوب التقليد أم لا؟ فإن لم تعلموا فلم قلدتم؟ وإن علمتم فبضرورة أو نظر أو تقليد؟ ويعود عليهم
السؤال في التقليد، ولا سبيل لهم إلى النظر والدليل. فلا يبقى إلا إيجاب التقليد بالتحكم. فإن قيل: عرفنا صحته بأنه مذهب الأكثرين فهو أولى بالاتباع. قلنا: وبم أنكرتم على من يقول الحق دقيق غامض، لا يدركه إلا الأقلون، ويعجز عنه الأكثرون لأنه يحتاج إلى شروط كثيرة من الممارسة والتفرغ للنظر وإنقاد القريحة، والخلو عن الشواغل. ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان محقاً في ابتداه أمره وهو في شرذمة يسيرة على خلاف الأكثرين. وقد قال تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام، الآية: 116] كيف وعدد الكفار في زماننا أكثر؟ ثم يلزمكم أن تتوقفوا حتى تدوروا في جميع العالم وتعدوا جميع المخالفين، كيف؟ وهو خلاف نص القرآن. قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ، الآية: 13] ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام، الآية: 37] ، {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون، الآية: 70] .
قال: ولهم شبه.
الأولى: أن النظر مفروض في شبهات، وقد كثر ضلال الناظرين فترك الخطر وطلب السلامة أولى. قلنا: وقد كثر ضلال المقلدين من اليهود والنصارى فبم تفرقون بين تقليدكم وتقليد سائر الكفار؟ قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة.
ثم يقال: إذا وجبت المعرفة كان التقليد جهلاً وضلالاً، فكأنكم اخترتم الجهل خوفاً من الوقوع في الجهل، كنت يقتل نفسه عطشاً وجوعاً، خوفاً من أن يغض بلقمة، أو يشرق بشربة لو أكل أو شرب، وكمن يترك التجارة والحراثة خوفاً من نزول صاعقة فيختار الفقر.
الشبهة الثانية: تمسكهم بقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَاّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر، الآية: 4] والنظر فتح باب الجدل، قلنا: نهى عن الجدال بالباطل كما قال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر، الآية: 5] بدليل قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل، الآية: 125] ، {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت، الآية: 46] ثم إنا نعارضهم بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء، الآية: 36] ، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة، الآية: 169] ، {إِلَاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف، الآية: 86] ، {وَمَا شَهِدْنَا إِلَاّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف، الآية: 81] ، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة، الآية: 111] هذا كله نهى عن التقليد وأمر بالعلم. ولذلك عظم الله شأن العلماء فقال تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة، الآية: 11] وقال صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين" ولا يحصل هذا بالتقليد بل بالعلم. وقال ابن مسعود: "ولا تكن إمعة. قيل: وما الإمعة؟ قال: أن يقول: أنا مع الناس، إن ضلوا ضللت، وإن اهتدوا اهتديت، ألا لا يوطنن أحدكم نفسه أن يكفر إن كفر الناس" هذا كلام الغزالي. قال: وعن ابن مسعود أثر أصرح في ذم التقليد من الأثر المذكور وهو ما أخرجه البيهقي في سنه عن ابن مسعود قال: "لا تقلدوا دينكم الرجال".
وقال الإمام ابن حزم في كتابه "النبذ الكافية في علم الأصول": التقليد حرام، ولا يحل لأحد أن يأخذ قول أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا برهان لقوله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف، الآية: 3]، وقوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة، الآية: 170] وقال في حق من لم يقلد: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر، الآيتان: 17- 18]، وقال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء، الآية: 59] فلم يبح الله تعالى الرد عند التنازع إلى أحد دون القرآن والسنة. وحرم بذلك الرد عند التنازع إلى قول أي قائل لأن غير القرآن والسنة، وقد صح إجماع الصحابة رضي الله عنهم كلهم – أولهم عن آخرهم – وإجماع جميع التابعين – أولهم عن آخرهم – وإجماع تابع التابعين – أولهم عن آخرهم – على الامتناع والمنع من أن يقصد منهم أحد إلى قول إنسان منهم أو من قبلهم،