الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقيموا هذا المقام خالفوا من حملوا عنه العلم، ولأجل ذلك كان الفقهاء يكرهون التقليد ويقولون: لا ينبغي للرجل أن يفتي حتى يعرف اختلاف العلماء – أي فيختار منها الأحوط للدين، والأقوى باليقين – فلو كانوا يحبون أن يفتي العالم بمذهب غيره لم يحتج أن يعرف الاختلاف، ولكان إذا عرف مذهب صاحبه كفاه، من قبل أن العبد يسأله غداً: ماذا عملت فيما علمت؟ ولا يقال له: فيما علم غيرك؟ وقال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ} [الروم، الآية: 56] فقرن بينهما. فدل على أن من أوتي إيماناً ويقيناً أوتي علماً، كما أن من أوتي علماً نافعاً أوتي إيماناً. وهذه أحد الوجوه في معنى قوله:{كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة، الآية: 22] أي قواهم بعلم الإيمان، فعلم الإيمان هو روحه. وتكون الهاء عائدة على "الإيمان" لأن العالم هو الذي تأهل للاستنباط والاستدلال من الكتاب والسنة، ومعرفة أدوات الصنعة، وآلة الصنع، لأنه ذو تمييز وبصيرة ومن أهل التدبر والعبرة.
الفرق بين التقليد والاتباع
…
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب العلم ما نصه: باب فساد التقليد ونفيه والفرق بن التقليد والاتباع، "التقليد" عند جماعة من العلماء: غير الاتباع، لأن "الاتباع" هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله، وصحة مذهبه. و"التقليد" أن تقول بقوله وأنت لا تعرف وجه القول ولا معناه، وقد ذم الله التقليد في غير موضع من كتابه. فقال:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة، الآية: 31] قال حذيفة وغيره: "لم يعدوهم من دون الله، ولكنهم أحلوا لم وحرموا، فاتبعوهم" وقال عدي بن حاتم: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب، فقال لي: يا عدي، ألق هذا الوثن من عنقك. وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة، حتى أتى على هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة، الآية: 31] قال: قلت: يا رسول الله، إنا لم نتخذهم أرباباً، قال: بلى، أليس يحلون لكم ما حرم الله عليكم، فتحلونه. ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه؟ فقلت: بلى، فقال: تلك عبادتهم". وعن أبي البحتري في قوله عز وجل: {اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة، الآية: 31] قال: أما أنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكنهم أمروهم: فجعلوا حلال الله حرماً وحرامه حلالاً، فأطاعوهم. فكانت تلك الربوبية. وقال جل وعز:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف، الآيتان: 23- 24] فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء، فـ {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف، الآية: 24] وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال، الآية: 22]، وقال:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة، الآيتان: 166- 167] وقال جل وعز عائباً على أهل الكفر وذاماً لهم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء، الآيتان: 52 – 53]، وقال عنهم:{إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ} [الأحزاب، الآية: 67] . ومثل هذا في القرآن كثير في ذم تقليد الآباء والرؤساء. وقد احتج العلماء بهذه الآيات على إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجل فكفر، وقلد آخر فأذنب، فقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها: كان كل واحد ملوماً على التقليد بغير حجة لأن كل ذلك يشبه بعضه بعضاً، وإن اختلفت الآثام فيه، وقال الله جل وعلا:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة، الآية: 115] وقد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب قبل هذا، وفي ثبوته إبطال التقليد أيضاً. فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا، وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها وهي الكتاب والسنة، أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك.
ثم ساق أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وآثاراً عن الصحابة رضي الله عنهم فيها
الأمر والحث على اتباع الكتاب والسنة والتحذير عن آراء الرجال، وزلات العلماء، وأطال في ذلك – إلى أن قال – وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مما قد ذكرناه في كتابنا هذا أنه قال:"يذهب العلماء ثم يتخذ الناس رؤساً جهالاً يسألون فيفتون بغير علم، فيضلون ويضلون" وهذا كله نفي للتقليد وإبطال له لمن فهمه وهدى لرشده. قال: وقال عبيد الله بن المعتز: لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد. وهذا كله لغير العامة. فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها لأنها لا تتبين موقع الحجة ولا تصل بعدم الفهم إلى علم ذلك لأن العلم درجات، لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة، والله أعلم. ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله عز وجل:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل، الآية: 43] .
قال: وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية، بعد ما تقدم، فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني رحمه الله وأنا أورده، قال: يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حكمت به؟ فإن قال: نعم، أبطل التقليد، لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد، وإن قال: حكمت فيه بغير حجة، قيل له: فلم أرقت الدماء، وأبحت الفروج، وأتلفت الأموال، وقد حرم الله ذلك إلا بحجة؟ قال الله عز وجل:{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس، الآية: 68] أي من حجة بهذا، قال: فإن قال: أنا أعلم أني قد أصبت، وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كبيراً من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت عليَّ، قيل له: إذا جاز لك تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى، لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك. فإن قال: نعم، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أبى ذلك نقض قوله، وقيل له: كيف تجوز تقليد من هو أصغر منك وأقل علماً ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علماً؟ وهذا
متناقض. فإن قال: لأن معلمي – وإن كان أصغر – فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه، فهو أبصر بما أخذن وأعلم بما ترك. قيل له: وكذلك من تعلم منه معلمك فهو جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه، فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك. فإن أعاد قوله: جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع، والتابع من دونه، في قياس قوله والأعلى الأدنى أبداً، وكفى بقول يؤول إلى هذا قبحاً وفساداً.
قال أبو عمر: وقال أهل العلم والنظر: حد العلم التبيين، وإدراك العلوم على ما هو به، فمن بان له الشيء فقد علمه، وقالوا: والمقلد لا علم له ولم يختلفوا في ذلك ومن ههنا – والله أعلم – قال البحتري:
عرف العالمون فضلك بالعـ
…
ـلم وقال الجهال بالتقليد
وأرى الناس مجمعين على فضـ
…
ـلك من بين سيد ومسود
وقال أبو عبد الله بن خويز منداد البصري المالكي: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة. والإتباع: ما ثبتت عليه حجة. وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده. والتقليد في دين الله غير صحيح، وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه والاتباع في الدين مسوغ. والتقليد ممنوع. وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عن سحنون قال: كان مالك بن أنس، وعبد العزيز بن أبي سلمة، ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما، وإذا سأله ابن دينار وذووه لم يجبهم. فتعرض له ابن دينار يوماً، فقال له: يا أبا بكر، لم تستحل مني ما لا يحل لك؟ فقال له: يا ابن أخي وما ذاك؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وإذا سألتك أنا وذويّ فلا