الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن قوله: "أحدثوا مذاهب أربعة لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن أراد بذلك أنهم اتفقوا على أن يحدثوا هذه المذاهب مع مخالفة الصحابة رضي الله عنهم فهذا كذب عليهم. فإن هؤلاء الأئمة لم تكونوا في عصر واحد بل أبو حنيفة توفي سنة خمسين ومائة، ومالك سنة تسع وسبعين ومائة، والشافعي سنة أربع ومائتين، وأحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين، رحمه الله تعالى. وليس في هؤلاء من يقلد الآخر، ولا من يأمر باتباع الناس له بل كل منهم يدعوا إلى اتباع الكتاب والسنة إذا قال غيره قولاً يخالف الكتاب والسنة عنده رده ولا يوجب على الناس تقليده.
وإن قلت: إن أصحاب هذه المذاهب اتبعهم الناس فهذا لم يحصل بمواطأة، بل اتفق أن قوماً اتبعوا هذا وقوماً اتبعوا هذا. كالحجاج الذين طلبوا من يدلهم على الطريق فرأى قوم دليلاً خريتاً فاتبعوه، وكذلك آخرون. وإذا كان كذلك لم يكن في ذلك اتفاق أهل السنة على باطل، بل كل قوم ينكرون ما بل كل قوم ينكرون ما عند غيرهم من الخطأ فلم يتفقوا على أن الشخص المعين عليه أن يقبل من كل واحد من هؤلاء ما قاله، بل جمهورهم لا يأمر العامي بتقليد شخص معين غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يقوله. والله تعالى قد ضمن العصمة للأمة فمن تمام العصمة أن جعل عدداً من العلماء إذا أخطأ الواحد في شيء، كان الآخر قد أصاب فيه، حتى لا يضيع الحق. ولهذا لما كان في قول بعضهم من الخطأ مسائل كبعض المسائل التي أوردها – يعني الرافضي – كان الصواب في قول الآخر، فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلاً إلى أن قال:
لم يقل أحد من أهل السنة: إن إجماع الأربعة حجة معصومة
…
الوجه الثامن: إن أهل السنة لم يقل أحد منهم: إن إجماع الفقهاء الأربعة حجة معصومة، لا قالوا: إن الحق منحصر فيهم، وأن ما خرج عنهم باطل، بل إذا قال من ليس من أتباع الأئمة – كسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد ومن قبلهم ومن بعدهم من المجتهدين – قولاً يخالف الأئمة الأربعة: رد ما تنازعوا فيه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وكان القول الراجح هو الذي قام عليه الدليل. انتهى.
وقال الإمام السيوطي في كتابه "الرد" السابعة والأربعين: قال الغزالي في "المنخول" فصل في التنصيص على مشاهير المجتهدين من الصحابة والتابعين وغيرهم، ولا خفاء بأمر الخلفاء الراشدين إذ لا يصلح للإمامة إلا مجتهد. وكذلك كل من أفتى في زمانهم – كالعبادلة وزيد بن ثابت وأصحاب الشورى ومعاوية إلى آخره – ثم ذكر كلاماً لبعض العلماء في مجتهدي الصحابة والتابعين – إلى أن قال: وقال الرزكشي في "البحر": قد عد ابن حزم في الأحكام فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، فبلغ بهم مائة ونيفاً، وهذا حيف. وقد قال الشيخ أبو إسحاق في طبقاته: أكثر الصحابة الملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا فقهاء مجتهدين لأن طريق الفقه فهم خطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وأفعاله. وكانوا عارفين بذلك لأن القرآن نزل بلغتهم، وعلى أسباب عرفوها، وقصص كانوا فيها. فعرفوا منطوقة ومفهومه ومنصوصه ومعقوله – إلى أن قال – وقال الزركشي في "البحر": ولا يطمع في عد آحاد المجتهدين من الصحابة والتابعين لكثرتهم وعدم حصرهم. وقد عقد الشيخ أبو إسحاق في طبقاته الفقهاء، وظاهر كلامه في خطبته أنه لم يذكر فيها سوى المجتهدين. فإنه قال:"هذا كتاب مختصر في ذكر الفقهاء لا يسع الفقيه جهله، لحاجته إليه في معرفة من يعتبر قوله في انعقاد الإجماع ويعتد به في الخلاف. وبدأت بفقهاء الصحابة رضي الله عنهم ثم بمن بعدهم من التابعين وتابعي التابعين، والأئمة الأربعة، وجملة من أقرانهم وأتباعهم وداود الظاهري وجملة من أتباعه".
وقال النووي في شرح "المهذب": المزني وأبو ثور وأبو بكر بن المنذر أئمة مجتهدون، وهم منسوبون للشافعي. وقد عد كثيراً من الأئمة المجتهدين ممن عاصروا الأئمة الأربعة، أو تقدموهم، أو جاءوا من بعدهم ونحن نذكر أسماء من جاءوا من بعدهم على سبيل التلخيص عن الإطالة، فمنهم: حرملة، وعبدان المروزي، والإمام ابن جرير الطبري، وأبو عبيد القاسم بن سلام، والقاسم بن محمد بن سيار القرطبي، وابن المنذر، والقاضي أبو بكر أحمد بن كليل، والإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر، والقاضي أبو الطيب، ومحمد
الجويني، والإمام البغوي، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو الفضل الهمداني القرطبي، وأبو نصر الصباغ، والقاضي عبد الوهاب أحد المالكية، وإمام الحرمين، والإمام الغزالي، وأبو علي الحسن بن الخطير النعماني الفارسي، والقاضي أبو القاسم الطيب بن محمد، والشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأبو شامة، والإمام النووي، والشيخ تاج الدين الفركاح، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية. وقد عد كثيراً من المجتهدين يطول حصرهم، وكلهم بعد الأئمة الأربعة.
ثم إن في اليمن وفي الهند من فحول العلماء المجتهدين الذين جمعوا علوم الأولين والآخرين- وخصوصاً على الكتاب والسنة اللذين هما أصل الأصول، وعليهما مدار سعادة الدنيا والآخرة- خلقاً كثيراً لا ينكر فضلهم، وبلوغهم رتبة الاجتهاد في علوم الشريعة إلا مكابر معاند، يحاول تكذيب أخبار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في حفظ هذا الدين، وبقاء طائفة من أمته على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم قائمون على حفظه. ينفون عنه غلو الغالين، وانتحال المبطلين فهذه الطائفة هم المجتهدون الذين يحكمون بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم نصاً واستنباطاً متبعين في ذلك الصحابة والتابعين، ومن سلك لسبيلهم إلى يوم الدين. فأما المقلدون فليسوا من أهل العلم، ولا من حماته ولا تقوم بهم حجة ولا ينعقد بهم إجماع.
فمن متأخري علماء اليمن المجتهدين السيد محمد إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى، والإمام محمد بن علي الشوكاني رحمه الله تعالى. وقد صنف الشوكاني كتاباً سماه "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع" قال فيه- بعد الخطبة- وبعد: فإنه لما شاع على ألسن جماعة من الرعاع اختصاص سلف هذه الأمة بإخراز فضيلة السبق في العلوم دون خلفها، حتى اشتهر عن جماعة من أهل المذاهب الأربعة تعذر وجود مجتهد بعد المائة السادسة- كما نقل عن البعض- أو بعد المائة السابعة- كما زعمه آخرون- وكانت هذه المقالة بمكان من الجهالة لا تخفى على من له أدنى حظ من علم، أو نزر نصيب من عرفان،
وأحقر حصة من فهم لأنها قصر للفضل الإلهي والفيض الرباني على بعض العباد دون البعض. وعلى أهل عصر دون عصر، وأبناء دهر دون دهر، من دون برهان ولا قرآن. على أن هذه المقالة المخذولة، والحكاية المرذولة تستلزم خلو هذه الأعصار المتأخرة عن قائم بحجج الله، ومترجم عن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومبين لما شرعه لعباده وذلك هو ضياع الشريعة بلا مرية، وذهاب الدين بلا شك. وهو تعالى قد تكفل بحفظ دينه وليس المراد حفظه في بطون الصحف والدفاتر، بل إيجاد من يبينه للناس في كل وقت وعند كل حاجة: حداني ذلك إلى وضع كتاب يشتمل على تراجم أكابر العلماء من أهل القرن الثامن ومن بعدهم. ممن بلغني خبره إلى عصرنا هذا، ليعلم صاحب تلك المقالة: أن الله – وله المنة – قد تفضل على الخلف، كما تفضل على السلف، بل ربما كان في أهل العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف العلمية على اختلاف أنواعها من يقل نظيره من أهل العصور المتقدمة كما سيقف على ذلك من أمعن النظر في هذا الكتاب. وحل عن عنقه عرى التقليد وقد ضممت إلى العلماء من بلغني خبره من العباد والخلفاء والملوك والرؤساء والأدباء ولم أذكر منهم إلا من له جلالة قدر، ونبالة ذكر، وفخامة شأن، دون من لم يكن كذلك انتهى المراد منه.
فقد ذكر رحمه الله تعالى في هذا الكتاب عدداً كثيراً من أهل العلم والفضل، المتبحرين في علوم الشريعة وسائر فنون العلم التي يلزم المجتهد الإحاطة بها بل زادوا عليها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد أطلت الرد على مزاعم هذا الجاهل الأحمق، وهي لا تستحق النظر فيها، فضلاً عن الاشتغال بالرد عليها. ولكن أمثاله كثير – لا كثرهم الله – فقد زعموا أن التعبد بنصوص الكتاب والسنة والرد إليهما عند التنازع: محظور علينا، وأن الرجوع في ذلك إلى غيرهما من تقليد الرجال الذين يجوز عليهم الخطأ، وأن تقليد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يجوز {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم، الآية: 59] .
والحاصل مما تقدم: أن التقليد رخصة لمن عجز عن استخراج الأحكام من نصوص الكتاب والسنة فواجب العاجز السؤال لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل، الآية: 43] وشرط السؤال: أن يكون عن حكم الله ورسوله، لا عن مذهب رجل معين يتقيد به دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قول المعترض: "فأي إجماع من عهد آدم إلى اليوم أعظم من هذا الإجماع الذي لا يحاول إنكاره إلا من ران على قلبه، وختم الله على بصره وسمعه".
فنقول لهذا الجاهل الأحمق: إننا بما أوردناه من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ومن كلام الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا. قد بينا له فيه بطلان ما ادعاه من الإجماع الذي لم يستند فيه إلا على مجرد الدعوى، مع مخالفة من ذكرناهم. وأما تعبير هذا الأحمق الساقط، وما ظهر به من الجهل المركب، والغباوة المتناهية فإنه لم يشارك المعترض فيهما أحد، حتى من البله الذين تضرب بهم الأمثال قبله، فإنه – أولاً – لم يذكر فاعل "ران" من قوله:"إلا من ران على قلبه" وفي هذا من وخيم الجهل ما ينطق بحاقة هذا المعترض.
وأيضاً فأنه وصف الختم على العيون، وهذا لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة، الآية: 7] قال الإمام ابن جرير في تفسيره، قوله:{وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة، الآية: 7] خبر مبتدأ، بعد تمام الخبر عما ختم الله جل ثناؤه عليه من جوارح الكفار، الذين مضت قصصهم. وذلك أن "غشاوة" مرفوعاً بقوله "وعلى أبصارهم" فذلك دليل على أنه خبر مبتدأ، وأن قوله:"ختم الله على قلوبهم" قد تناهى عند قوله: "وعلى سمعهم" وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين.
أحدهما: اتفاق الحجة من القراء والعلماء على الشهادة بتصحيحها،