الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنه قد ثبت على اليسوعيين مؤخرًا أنهم فضحوا فتاتين من طائفة الروم الأرثوذكس وأخفوهما حينًا، ولكنهم أرغموا على ردهما بعدئذٍ لأهلهما (1). ويهاجم (جسب) نظام الأديرة كله ويذكر أنه كان لعنة على سورية، ثم يقول إن بعض الأديرة كان مستقرًا للفاحشة (2).
على أن جميع المبشرين، سواء أكانوا انتهازيين دنيويين أم كانوا مخلصين في مهمتهم، تتميز كل فرقة منهم بعداوة شديدة نحو العرب المسلمين، وبعداوة ظاهرة نحو أهل الفرق النصرانية المباينة لفرقتهم أيضًا.
أَثَرُ الحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ:
ولا ريب في أن مرد هذه العداوة الشديدة إنما هو إلى الحروب الصليبية على ذلك أجمع مؤرخو التبشير كلهم، وهم في ذلك على صواب. ثم إن هذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن العداوة دنيوية سياسية لا صلة لها بالدين. إن المبشر (جسب) مثلاً يود أن يمحي الإسلام من العالم (3).
خَطَرُ الوَحْدَةِ الإِسْلَامِيَّةِ عَلَى الغَرْبِ:
يرى بعضهم أن السبب الأساسي في هذا الكره إنما هو بلا ريب راجع إلى العداوة التي أثارها الصليبيون (4)، وإلى أن المسلمين لا يزالون متأثرين بموقف الدول النصرانية من الإسلام في أثناء الحروب الصليبية (5). إلا أن المستشرق الألماني (كارل بكر) يرى السبب أبعد قليلاً من ذلك، إنه يرى أن الإسلام لما انبسط في العصور الوسطى أقام سَدًّا في وجه انتشار النصرانية ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها (6).
وقريب من هذا ما رآه (غاردنر)(7). إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوروبا. ويحاول المبشرون أن يروا العداوة بين الإسلام وبين الغرب دينية، ولكن الحقيقة لا تلبث أن تظهر في فلتات ألسنتهم فإذا هي سياسية. إن (يوليوس رشتر) يؤنب
(1) Jessup 433
(2)
Jessup 669 - 680
(3)
Cf. Jessup 493، 581 - 2
(4)
Levonian 126.
(5)
Cf. Levonian 109 : Schermerhorn 43; Gairdner 532
(6)
Becker I 3
(7)
Gairdner 303 f، ; cf MW ، Apr، 37، pp. 167 - 178
النصارى على قصر نظرهم في أثناء الأعصر المتطاولة التي تلت ظهور الإسلام، فإنهم كانوا فيها وادعين غافلين بينما كانت الإمبراطورية البيزنطية (الرومانية الشرقية) تغيب شيئًا فشيئًا في الإمبراطورية الإسلامية حتى سقطت القسطنطينية نفسها عام 1453 بيد الأتراك العثمانيين (1). ولا ريب في أن (رشتر) يتألم للناحية السياسية، لأنه هو نفسه يذكر أن سكان الإمبراطورية الشرقية كانوا نصارى بالاسم (2)، أضف إلى ذلك أنه كان مبشرًا بروتستانتيًا بينما سكان الإمبراطورية الشرقية كانوا على المذهب الأرثوذكسي.
ولكن كل ما ذكرناه يعود إلى قبل ألف عام من الدهر، فهل ثمت مبرر لاستمرار هذه العداوة إلى أيامنا هذه؟
إذا اعتبرنا أن أساس العداوة سياسي دنيوي لا روحي ديني أَيْقَنَّا أن هذه العداوة من المبشرين نحو الإسلام لا يزال لها مبرارتها. لقد أبرز (لورنس براون) هذا الموقف في صورة واضحة حينما قال: «إِذَا اتَّحَدَ المُسْلِمُونَ فِي إِمْبرَاطُورِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ، أَمْكَنَ أَنْ يُصْبِحُوا لَعْنَةً عَلَى العَالَمِ وَخَطَرًا، وَأَمْكَنَ أَنْ يُصْبِحُوا أَيْضًا نِعْمَةً لَهُ، أَمَّا إِذَا بَقُوا مُتَفَرِّقِينَ فَإِنَّهُمْ يَظَلُّونَ حِينَئِذٍ بِلَا قُوَّةٍ وَلَا تَأْثِيرٍ» (3). أما القس سيمون (4) فكان أوضح في التعبير لما قال: «إِنَّ الوَحْدَةَ الإِسْلَامِيَّةَ تَجْمَعُ آمَالَ الشُّعُوبِ السُّمْرِ (كَذَا)، وَتُسَاعِدُهُمْ عَلَى التَمَلُّصِ مِنَ السَّيْطَرَةِ الأُورُوبِيَّةِ. وَلِذَلِكَ كَانَ التَبْشِيرُ عَامِلاً مُهِمًّا فِي كَسْرِ شَوْكَةِ هَذِهِ الحَرَكَةِ، ذَلِكَ لأَنَّ التَبْشِيرَ يَعْمَلُ عَلَى إِظْهَارِ الأُورُوبِيِّينَ فِي نُورٍ جَدِيدٍ جَذَّابٍ، وَعَلَى سَلْبِ الحَرَكَةِ الإِسْلَامِيَّةِ مِنْ عُنْصُرَيْ القُوَّةِ وَالتَمَرْكُزِ اللَّذَيْنِ هُمَا فِيهَا: إِذَا كَانَتْ الوَحْدَةُ الإِسْلَامِيَّةُ تَكَتُّلاً ضِدَّ الاِسْتِعْمَارِ الأُورُوبِيِّ، ثُمَّ اسْتَطَاعَ المُبَشِّرُونَ أَنْ يُظْهِرُوا الأُورُوبِيِّينَ فِي غَيْرِ مَظْهَرِ المُسْتَعْمِرِ، فَإِنَّ الوَحْدَةَ الإِسْلَامِيَّةَ حِينَئِذٍ تَفْقِدُ حُجَّةً مِنْ حُجَجِهَا وَسَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ وُجُودِهَا. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ نُحَوِّلَ بِالتَّبْشِيرِ مَجَارِي التَّفْكِيرِ فِي الوَحْدَةِ الإِسْلَامِيَّةِ حَتَّى تَسْتَطِيعَ النَّصْرَانِيَّةُ أَنْ تَتَغَلْغَلَ فِي المُسْلِمِينَ» (5). وكذلك كان الفرنسيون يخافون من المساعي لتحقيق الوحدة الإسلامية (6).
وعلى هذا الأساس أصبح الأتراك خطرًا على أوروبا منذ دخلوا في الإسلام، لا
(1) Richter 13. 14، 271 - 2; cf. Addison 3
(2)
Richter 14
(3)
Cf. Brown، 37; cf، Islam and Missions 44 - 48
(4)
Rev. G. Simon
(5)
Islam and Missions 93، 68. 69
(6)
Pottier 993
لأنهم مسلمون بل لأنهم قد أصبحوا قوة تستطيع أن تقف في وجه الأطماع الأوروبية (1). حتى السنوسية، وهي فرقة من المرابطين - المجاهدين - نشأت في طرابلس الغرب، قد أصبحت على قلة أشياعها وقلة انتشارها قوة ترهب الاستعمار (2)، لا لشيء إلا لأن الاتحاد قوة تفسد على المستعمرين أعمالهم. ولقد بالغ (صموئيل زويمر)(3) حينما هاله أن يرى نفرًا من النصارى يدعون إلى مصادقة المسلمين في الصين. إن هذه «الصداقة» في رأي (زويمر) تخلق في نفس النصارى جُبْنًا عَنْ التَّبْشِيرِ (4).
على أن اليسوعيين لا يريدون أن يتنازلوا عن روحهم الصليبية، إنهم لا يزالون يذكرون المبشر بلغة فخمة ملونة مملوؤة بالحقد والضغينة والاستفزاز، إنهم يقولون (5): «وَيَأْتِي المُبَشِّرُ تَحْتَ عَلَمِ الصَّلِيبِ
…
يَحْلُمُ بِالمَاضِي وَيَنْظُرُ إِلَى المُسْتَقْبِلِ وَهُوَ يُصْغِي إِلَى الرِّيحِ التِي تُصَفِّرُ مِنْ بَعيدٍ، مِنْ شَواطِئَ رُومِيَّةَ وَمِنْ شَواطِئِ فِرَنْسَا. وَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ تِلْكَ الرِّيحَ مِنْ أَنْ تُعِيدَ عَلَى آذَانِنَا قوْلَهَا بِالأَمْسِ وَصَرْخَةَ أَسْلَافِنَا (الصَّلِيبِيِّينَ) مِنْ قَبْلُ:" إِنَّ اللهَ يُرِيدُهَا "» (6).
هذا قول قاله الأب (شانتور) الذي رأس الكلية اليسوعية في بيروت زمنًا طويلاً في أيام الانتداب وظل في منصبه سنين طوالاً بعد ذلك. لقد كان (الأب شانتور) ذَا نُفُوذٍ ضَخَّمَهُ لَهُ المُسْتَعْمِرُونَ فاستخذى أمامه الحكام. وقلما صعد أحد منهم كرسيًا إلا إذا كان الأب (شانتور) يراه أهلاً لتنفيذ سياسة الانتداب. ويمكننا أن نعرف سياسة اليسوعيين من كلمة واحدة قالوها. إنهم قالوا: يجب أن تكون الإدارة الفرنسية في العلويين (وفي غير بلاد العلويين أيضًا) تتمة للاحتلال الصليبي (7).
لقد رأى القارئ بلا ريب أن المبشرين يمزجون الدين بالسياسة. ولكنه رأى أيضًا وراء كل ريب أن الدين كان الوسيلة، أما السياسة فكانت الهدف الحقيقي. والسياسة هنا معناها استعباد الغرب للشرق.
(1) Addison 59
(2)
Islam and Missions 48.
(3)
Samuel M. Zwemer.
(4)
MW Apr 28، pp-109 ff
(5)
Les Jésuites en Syrie 10 : 8.
(6)
حينما جاء الصليبيون إلى الشرق كانوا يرددون صرخة واحدة: «إِنَّ اللهَ يُرِيدُهَا» ، أي إن الله هو الذي أراد الحرب الصليبية.
(7)
Les Jésuites en Syrie 10 : 13.