الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّامِنُ:
التَّبْشِيرُ وَالحَرَكَاتُ القَوْمِيَّةُ:
التَّبْشِيرُ وَالحَرَكَاتُ القَوْمِيَّةُ:
جميع الحركات القومية التي قامت في البلاد العربية اتسمت في أول أمرها بميل بارز إلى التسامح الديني. ثم إن هذا التسامح بدأ يتطور حتى انتهى في أيامنا هذه ميلاً ظاهرًا عن الدين، ثم ظهر بوضوح أن هذه الحركات القومية ترمي إلى إضعاف الشعور الإسلامي خاصة بين البلاد الإسلامية، وإلى قصر الصلات بين بلادنا على العنصر القومي وحده. فالصلة بين سورية ولبنان ومصر والجزائر ومراكش تقوم، في رأي الأحزاب العربية القومية، على «العُرُوبَةِ» أو على اللغة العربية وعلى شيء من التاريخ العربي مُجَرَّدًا من كل صلة له بالإسلام. أما تركيا وإيران وباكستان وأندونيسيا فهي عندهم كالأرجنتين والمكسيك وهنغاريا والدنمارك وفرنسا سواءً بسواءٍ. وبعض الأحزاب القومية أو الوطنية كالحزب القومي السوري وحزب الكتائب اللبنانية تنظر إلى اليمن ومصر وتونس كما تنظر إلى أسوج والنرويج وفنلندا. أما البرازيل والولايات المتحدة وفرنسا نفسها فهي أقرب إلى هذين الحزبين من اليمن وطرابلس الغرب لكثرة المهاجرين واتساع المصالح التي تستعمرها فرنسا، بينما هذه الصلات مع اليمن وطرابلس الغرب قليلة وضعيفة جِدًّا.
لقد كان نفر من أركان الأحزاب القومية، ومن أتباع تلك الأحزاب، يعلنون أنهم لا يقفون من الإسلام موقفًا غير ودي حتى كان مهرجان الجزائر في بيروت في مساء السابع من أيار عام 1956، في باحة كلية المقاصد الإسلامية في الحرج، فإذا سلوك النظارة من أتباع الأحزاب القومية لم يكن وديًا تجاه الإسلام قط. بدأ المهرجان بكلمة للدكتور (جورج طعمة)، من أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت، فكانت كلمة طيبة في جهاد «الجَزَائِرِ
العَرَبِيَّةِ» وفي فظائع الفرنسيين في الجزائر. ولقد كان من المعقول، ومن المنتظر أيضًا، أن يؤكد الدكتور (جورج طعمة) جانب العروبة من الجزائر لأن الجزائر قطر عربي ولأنه هو مستشار للنادي العربي في بيروت. ومع ذلك فإن جماعة من المنتمين إلى حزب البعث العربي الاشتراكي قد أفسدوا عليه كلامه بهتافهم المتوصل «الجَزَائِرُ عَرَبِيَّةٌ» ، «جِهَادُ الجَزَائِرِ جِهَادُ العَرَبِ» ، مما لفت انتباه السامعين إلى هؤلاء الهاتفين - وقد جاءوا إلى المهرجان وهم عارفون بالتيارات المختلفة في هذا البلد ومعدون للأمر عدته - يريدون أن يوجهوا الأنظار إلى الجانب العربي في قضية الجزائر وأن يلفتوا الأفكار عن الجانب الديني الإسلامي. ولقد ظن هؤلاء أن هتافهم هذا يتفق مع الخطاب الذي كان يُلْقَى. وازاداد هتافهم حتى كاد يحدث بلبلة، أو هو أحدث البلبلة فعلاً، حتى أن عددًا من القوميين العرب - وهم غير البعثيين ومن الذين يخالفون البعثيين في بعض آرائهم - قد طلبوا من هؤلاء الهاتفين أن يهدأوا، فقد كان القوميون العرب هم المشرفين على المهرجان عمليًا. وبلغت الحدة في أحد القوميين العرب مبلغًا حمله على أن يصعد إلى المنبر وأن يخاطب الهاتفين بلهجة جافية ويخيرهم بين أن يسكتوا وبين أن يغادروا المكان. وكذلك توقف الدكتور (جورج طعمة) مرات ليرجو الهاتفين، تلميحًا وتصريحًا، ويطلب إليهم أن يسكتوا قليلاً حتى يتمكن من متابعة كلامه فلم يوفق.
وتكلم بعد الدكتور (جورج طعمة) الأستاذ (عمر الحكيم)، أحد أساتذة الجغرافية في كلية الآداب من الجامعة السورية بدمشق. والأستاذ (عمر الحكيم) يعرف الجزائر، وقد كان فيها في الثامن من أيار عام 1945 وشاهد بأم عينه جانبًا من المذابح البربرية التي قام بها الفرنسيون في ذلك اليوم. ومن أجل تلك المذابح في ذلك اليوم جُعِلَ «الثَّامِنُ مِنْ أَيَّارْ» من كل عام يومًا للجزائر تقام فيه الاجتماعات للكلام على فظائع الفرنسيين في تلك البقعة من وطننا وعلى تطور اليقظة فيها وعلى جهادها وبطولتها. ثم إن الأستاذ (عمر الحكيم) يدرس جغرافية المغرب (شمال أفريقيا) في الجامعة السورية.
ولقد كان من المنتظر، ومن المعقول أيضًا، أن يتكلم (عمر الحكيم) عن الجزائر العربية المسلمة، فالجزائر بلاد عربية وإسلامية في وقت واحد. ثم إنه هو شاب مسلم. وتكلم (عمر الحكيم) فملك الموقف بروحه الوثابة وبعلمه الغزير وبإحاطته بالموضوع الذي يعالجه. ولكن الحمية القومية عادت إلى الهاتفين فاستأنفوا هتافهم للجزائر العربية يتتبعون به كلامه عن الجزائر العربية المسلمة. وأدرك (عمر الحكيم)، كما أدركنا نحن، ما يقصد أولئك الهاتفون، فكان، كلما هتفوا هتافهم ذلك عاد هو في كلامه فأكد الجانب الإسلامي من
جهاد الجزائر حتى انتهى مما يريد قوله.
هذه الهتافات كشفت لنا في تلك الليلة عن ناحية خطيرة من الحياة الحزبية في بلادنا. إن الذين يذهبون مذهب القومية في الحياة السياسية من العرب يسقطون الدين من حسابهم كثيرًا أو قليلاً. إن بعض القوميين لا يرون في الدين مقومًا من مقومات الحياة السياسية، بينما بعضهم الآخر يخاصمون الدين مخاصمة شديدة. والمقصود بالدين هنا الإسلام. وحجة هؤلاء القوميين أن البلاد العربية تضم مذاهب وأديانًا مختلفة، ففيها مسلمون ونصارى ويهود.
من أجل ذلك يقتضي للتعايش السياسي في البلاد العربية ألا يكون العنصر الديني في الحياة العامة بارزًا. على أن هذا شيء ونصب العداء للإسلام شيء آخر. وكذلك الدعوة القومية شيء، بينما الإنكار على غير القوميين أن يكون لهم رأي في الأمور العامة شيء آخر أيضًا.
هذا من الناحية النظرية. أما من الناحية العملية فإن العنصر الديني في جهاد الجزائر الحالي بارز جِدًّا. ولقد أعلن (غي موليه)، رئيس الوزارة الفرنسية، بأن الحركة الإسلامية التي تتسع في أفريقيا هي التي تهدد الإمبراطورية الفرنسية في المغرب. وكذلك أعلن (جورج بيدو) - الذي سبق له أن تولى وزارة الخارجية الفرنسية:«أَنَّهُ لَنْ يَتْرُكَ الهِلَالَ يَتَغَلَّبَ عَلَى الصَّلِيبِ» (1). ويقول الكاتبان (كوليت) و (فرانسيس جانسون): «إِنَّ الحَرْبَ الحَاضِرَةَ فِي الجَزَائِرِ لَيْسَتْ حَرْبًا دِينِيَّةً أَوْ جِنْسِيَّةً أَوْ حَضَارِيَّةً، وَلَكِنَّهَا حَرْبُ مَجْمُوعِ مَظْلُومِ يُرِيدُ أَنْ يَتَحَرَّرَ مِنْ رِبْقَةِ مَجْمُوعٍ ظالِمٍ. إلَاّ أَنَّ الإِسْلَامَ عُنْصُرٌ فَعَّالٌ فِي دَفْعِ الجَزَائِرِيِّينَ إِلَى طِلَبِ هَذَا التَّحَرُّرِ
…
لَقَدْ أَيْقَنَ الجَزَائِرِيُّونَ مُنْذُ الأَيَّامِ الأُولَى لِلاِحْتِلَالِ أَنَّ هَدَفَ الفِرَنْسِيِّينَ كَانَ القَضَاءُ عَلَى الإِسْلَامِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَدْرَكُوا جَمِيعًا أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَصِمُوا بِالإِسْلَامِ حَتَّى يَقْدِرُوا عَلَى التَّحَرُّرِ. وَالوَاقِعُ أَنَّ الاِحْتِلَالَ (الفِرَنْسِيَّ لِلْجَزَائِرِ) كَانَ مُنْذُ البَدْءِ يَحْمِلُ هَذَا المَعْنَى مِنَ (الحَرْبِ الصَّلِيبِيَّةَ)» (2).
لا نرى بعد هذا أن نمضي في الاستشهاد او الاستنتاج للدلالة على أن الفرنسيين يحاربون الجزائريين كمسلمين في الدرجة الأولى. ولكن هذا لا يمنع أحدًا من قبول الجهود التي يبذلها القوميون في نصرة الجزائر ومن شكرهم عليها.
(1) L'Algérie hors de loi 267 - 268
(2)
ibid، 269