الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا تمكن اليسوعيون بمساعدة الفرنسيين، أو الجيش الفرنسي على الأصح، أن ينقلوا اثنتين وعشرين أسرة (أو نحو ثمانين شخصًا) إلى المذهب اللاتيني المسيحي بعد أن جمعوهم في جنينة رسلان في الخامس عشر من آب (أغسطس) عام 1930.
ويعلق اليسوعيون على ذلك بقولهم وبلغتهم: Le premier pas était fait ، il était décisif
- «لَقَدْ خَطَوْنَا الخُطْوَةَ الأُولَى، وَلَقَدْ كَانَتْ خُطْوَةً حَاسِمَةً!» (1).
بمثل هذه الروح يعمل اليسوعيون في بلادنا. ولا غرو فلقد كانوا مسلحين دائمًا بالرضى الفرنسي لأن معاهدة فرساي قد نصت في مادتها الثامنة والثلاثين بعد الأربعمائة على جواز التبشير في سورية.
وبعد شهرين من هذا الحادث، في السادس من تشرين الأول عام 1930، أسفر اليسوعيون عن وجههم تمامًا وذهب الأب (شانتور)، رئيس الجامعة اليسوعية يومذاك، مع خمسة من المبشرين ليؤسسوا مركزين للتبشير في بلاد العلويين وفي قرق خان (2).
تَنَافُسُ المُبَشِّرِينَ:
لو كان التبشير دعوة خير لما تنازعت فيه طوائف المبشرين ولما تنافست فرقهم ومذاهبهم. والدليل القائم على ذلك أن أهل كل مذهب ديني ينشرون مع مذهبهم، وهم يبشرون به، هوى سياسيًا معينًا. ولقد كانت الدول تهتم بمبشريها لاعتقادها أن مبشريها طلائع نفوذها ومقدمات لتبسطها في الأرض.
لما اتسع نفوذ المبشرين الأمريكيين في الإمبراطورية العثمانية، بين عام 1840 - 1850، وكثر تدخلهم في شؤون البلاد تنفيذًا لسياسة استعمارية، عزمت تركيا على إخراجهم من الإمبراطورية كلها. ولكن وزير الخارجية الأمريكية رفض أن يتخذ مثل هذه الخطوة. ثم استطاعت الولايات المتحدة أن تحول انتباه الباب العالي إلى أمور أخرى (3)، أي أن الولايات المتحدة أثارت لتركيا مشاكل كبيرة صرفتها عن أمر المبشرين. وهكذا ظل المبشرون الأمريكيون يتمتعون في الإمبراطورية العثمانية بحقوق الرعايا الأمريكيين كما تنص معاهدة «الامتيازات الأجنبية» التي تمنح الأجانب
(1) Les Jésuites en Syrie 10 : 23 - 9
(2)
ibid 10 : 7
(3)
Islam and Missions 159
المرغوب في وجودهم في الإمبراطورية العثمانية حقوقًا واسعة. ولكن المبشرين كانوا يتسلحون بهذه المعاهدة ويأتون بأعمالهم التبشيرية والسياسية، حتى أنقذت تركيا نفسها من هذه المعاهدة الجائرة عام 1914، إذ ألغتها بعد نشوب الحرب العالمية الأولى.
وأدرك المبشرون أن اختلافهم يضعف قواهم من ناحيتين: أن المنافسة بين الجمعيات التبشيرية يضطرها إلى بذل جهود كبيرة ثم يجعل بعضها ينافس بعضًا، وهكذا تضعف حركة التبشير نفسها. كذلك يحط اختلاف المبشرين فيما بينهم من مقامهم في عيون الشعوب فيقل تأثيرهم بقلة احترام الناس لهم. لذلك فرح المبشر (جون موط) لما اجتمع في مؤتمر إدنبره (اسكوتلندة) عام 1910 مندوبون عن مائة وتسع وخمسين جمعية تبشيرية من جميع أقطار العالم ثم أَلَّفُو لِجَانًا مُشْتَرَكَةٍ لمتابعة أعمال التبشير المختلفة. ولكن هذه اللجان المشتركة لم يكتب لها نجاح كبير، فقد حالت الحرب العالمية الأولى دون قيامها بالعمل الموحد. ثم انتهت الحرب العالمية الأولى، ولكن القيادات الدينية في العالم المسيحي لم تشأ أن تتنازل عن زعاماتها الخاصة، مما جعل (جُونْ مُوطْ) نفسه يقر بأن الجمعيات المسيحية غير موحدة توحيدًا ظاهرًا ولا فعليًا، لا في البلاد غير المسيحية ولا في أمريكا نفسها (1). إن توحيد جهود المبشرين لم يتحقق لأن لكل دولة من وراء التبشير غايات سياسية تخالف غايات سائر الدول.
ولما حاول (جُونْ مُوطْ) أن يرسم صورة للشخصية التي يجب أن تتحد تحت قيادتها جهود الأمم النصرانية في ميدان التبشير أصر على نقطتين أساسيتين: أما أولاهما فهي أن تكون القيادة جامعة، لأن العصر الذي نعيش فيه جعل العبقريات تتخطى الحدود القومية. ثم أكد، في المقام الثاني، العنصر الاقتصادي في القيام بأعباء التبشير (2). فإذا نحن علمنا أن (جُونْ مُوطْ) كان قد عرض في كتابه للناحية الاقتصادية في فصل كامل سماه «إطلاق قوة المال» (3)، وذكر فيه - بالاستناد إلى " دائرة المعارف البريطانية " - أن الولايات المتحدة هي أغنى الدول، بل أغنى من عدد كبير من الدول الغنية مجتمعة، لم نعد الصواب إذا قلنا إنه كان يريد هذه الزعامة لأمته الأمريكية البروتستانتية. وهذا أمر لا تقره بطبيعة الحال فرنسا الكاثوليكية ولا إنجلترا البروتستانتية نفسها. أضف إلى ذلك كله الأنانية والنظرة الإقليمية الضيقة والكره المتأصل بين المذاهب مما يحول دون
(1) Five Decades 48 - 49، 60 - 61
(2)
Ibid 119 - 133
(3)
Ibid 62 - 82