الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِهُدُوءٍ وثبَاتٍ. وَلَقَدْ كَتَبَ هَذَا الكِتَابَ الصَّغِيرِ لِيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ التَّطَوُّرَاتِ التِي حَدَثَتْ وَلِيُبَيِّنَ لِلْكَنَائِسِ تِلْكَ الحَاجَةِ المُلِحَّةِ لِلْتَّقَدُّمِ بِمَشْرُوعِهَا فِي يَوْمِ الفُرْصَةِ السَّانِحَةِ».
إننا نعلم علم اليقين أن حربًا كالحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) لا يمكن أن تثور في سبيل التبشير وحده، بل يجب أن يرجع نشوبها إلى عوامل اقتصادية وسياسية بحت. ولكن ثمت شيئين يثيران اهتمامنا نحن في كتابنا هذا، أولهما أن الدول المتحاربة لا تتورع في سبيل ظفرها عن أن تستفيد من كل حزب وجماعة، ولذلك استغل المبشرون أحوال الحرب فاستفادوا من الحرب بطريقة غير مباشرة. وثاني ذينك الشيئين أن الدول التي تبغي الاستعمار إنما تبغيه في الشرق، لما في الشرق من الثروات الاقتصادية والمراكز الحربية. ولقد اتفق أن يكون العنصر الإسلامي من أقوى العناصر التي تدافع في الشرق كل مستعمر بكل سبيل. ولذلك اتفقت غايات الحروب الاستعمارية وغايات التبشير وتوحدت في حروب تثار ظاهرًا باسم الاقتصاد والسياسة وباطنًا للاستعمار وللقضاء على العناصر التي تجعل استغلال الشرق مستحيلاً.
ولا تزال أوروبا إلى اليوم تنظر إلى جميع حروبها نظرة دينية. إن إنجلترا المسيحية لا تحارب اليونان المسيحية لأن اليونان ألقت بقيادها إلى إنجلترا، ولا يمكن لملك اليونان الإنجليزي النسب أن يعارض السياسة الإنجليزية في البلقان كله وفي اليونان خاصة (1). وإذا اتفق أن حاربت إنجلترا المسيحية إيطاليا أو ألمانيا فلأن ميدان النزاع يكون حينئذٍ اقتصاديًا استعماريًا.
من أجل ذلك لم يكن «إثارة الحرب» بين الدول الكبرى دائمًا وسيلة عملية للمبشرين لأنها قد تقود إلى إضعاف دولة مسيحية. وهكذا انصرف المبشرون إلى البحث عن أمر آخر يكون أقرب تحقيقًا لأهدافهم فوقعوا على «إثارة الفتن والاضطرابات» . وإذا نحن أدركنا أن الصلة كانت بين السياسيين وبين المبشرين وثيقة دائمًا لم نستغرب أن تنتهز الدول المستعمرة مثل هذه الفرصة للتدخل في الشرق.
الحِصَارُ العَسْكَرِيُّ عَلَى المُسْلِمِينَ وَإِبْعَادُهُمْ عَنْ الشَّوَاطِئِ:
ورأى الأوروبيون أن الحرب مع العالم الإسلامي - مفرقًا أو مجتمعًا، تؤدي إلى خسائر
(1) بدأ تأليف هذا الكتاب في أواسط عام 1944 وكانت الحالة في البلقان على ما أراد هذا المثل، ولا تزال حال اليونان خاصة قريبة من ذلك.
كثيرة جسيمة في بعض الأحيان. من أجل ذلك اقترح المبشرون على دولهم أن يشلوا حياة المسلمين بإبعادهم عن الشواطئ ذات الأمطار الوافية وطرق المواصلات الكافية والمراكز الحربية المهمة ثم حصرهم في الداخل وفي الصحاري على الأكثر. إن اقتراحات مثل هذه قد أبديت فيما يتعلق بإسكان اللاجئين بعد كارثة فلسطين عام 1948. إلا أن الفكرة نفسها قديمة، ويدعى رجل مبشر، أو متصل بالتبشير، إنه هو الذي اقترحها:
كتب كاتب اسمه (أشعيا بومان)(1) في مجلة " العالم الإسلامي " مقالاً عنوانه " الجغرافية السياسية للعالم الإسلامي "(2)، ذكر فيه «أَنَّ شَيْئًا مِنَ الخَوْفِ يَجِبُ أَنْ يُسَيْطِرَ عَلَى العَالَمِ الغَرْبِيِّ. لِهَذَا الخَوْفِ أَسْبَابٌ مِنْهَا أَنَّ الإِسْلَامَ مُنْذُ ظَهَرَ فِي مَكَّةَ لَمْ يَضْعَفْ عَدَدِيًّا، بَلْ هُوَ دَائِمًا فِي اِزْدِيَادٍ وَاِتِّساعٍ، ثَمَّ إِنَّ الإِسْلَامَ لَيْسَ دِينًا فَحَسْبَ، بَلْ إِنَّ مِنْ أَرْكَانِهِ الجِهَادُ. وَلَمْ يَتَّفِقْ قَطُّ أَنَّ شَعْبًا دَخَلَ فِي الإِسْلَامِ ثُمَّ عَادَ نَصْرَانِيًّا» .
وكذلك يرى هذ الكاتب «أَنَّ الصَّحْرَاءَ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ حِصْنًا مَنِيعًا، ذَلِكَ لأَنْ " البَدْوَ " نِسْبَةٌ مِئَوِيَّةٌ كَبِيرَةٌ فِي المُسْلِمِينَ، وَإِنَّه مَا مِنْ دَوْلَةٍ حَاوَلَتْ التَّغَلُّبَ عَلَى المُسْلِمِينَ وَاِتَّفَقَ أَنْ ظَفَرَتْ إلَاّ خَسِرَتْ أَضْعَافَ مَا خَسِرَهُ المُسْلِمُونَ فِي ذَلِكَ الكِفَاحِ
…
».
من أجل ذلك يقترح هذا الكاتب «أَنْ تَتَّفِقَ بَرِيطَانْيَا وَفِرَنْسَا، مَا دَامَتَا أَكْثَرُ الدُّوَلِ سَيْطَرَةً عَلَى العَالَمِ الإِسْلَامِيِّ (3)، عَلَى سِياسَةِ " السَّيْطَرَةِ عَلَى الشَّواطِئِ " حَيْثُ يُمْكِنُ وَصُولِ الدَّوَارِعِ وَآلَاتِ القِتَالِ الحَدِيثَةِ بِسُهُولَةٍ» .
فإذا نحن قرأنا هذا الكلام ثم ذكرنا ما فعلته إيطاليا في طرابلس الغرب من إعطاء الشواطئ إلى الإيطاليين وطرد العرب إلى الداخل، أدركنا أن التبشير والاستعمار متفقان على إبعاد المسلمين عن الشواطئ. وكذلك لما أعطت هيأة الأمم فلسطين لليهود نفذت جُزْءًا من هذه المؤامرة الخطيرة، فأخلت الشواطئ من العرب المسلمين ثم قذفت بهم إلى داخل البلاد وإلى ما وراء نهر الأردن. ولقد هال هيأة الأمم أن ترى عددًا كبيرًا من اللاجئين الفلسطينيين قد أموا لبنان - على الشاطئ - فهي لا تزال تحاول إقناعهم بالذهاب إلى سورية أو العراق أو شرق الأردن لتبعدهم عن الشواطئ. وكذلك تحاول فرنسا أن تفعل في المغرب، وخصوصًا في الجزائر، مثل هذا الفعل.
(1) Isahiah Bowman، New York
(2)
Moslem World : the Political Geograpy of the Mohammedan World، Jan. 1930. pp. 1 - 4
(3)
نشر هذا المقال عام 1930