الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يقول أمام الأميين " القرآن الكريم "، وأن يذكر الشفاعة والجنة وما إلى ذلك من الألفاظ الإسلامية استمالة للسامعين الأميين. فإذا وثق من آذانهم صب فيها تبشيره (1).
ولقد وسع (لويس ماسينيون) أستاذ جامعة فرنسا في باريس والداعية المبشر في قسم الشؤون الشرقية في وزارة المستعمرات الفرنسية على هذه الطريقة فمضى يقول بها في خطبه ومقالاته وأحاديثه. إلا أن لغته في هذا الباب لغة مثقلة بالاستعارات والرمز لا تعذب أحيانًا في السمع. ومع أن هذه الخطب والمقالات والأحاديث تدل على اطلاع واسع، فإنها لا تدل على صفا في التفكير أو على صفاء في الضمير على الأصلح. يتمنى (ماسينيون) في إحدى مقالاته أن يعود الاعتقاد الإسلامي في رجوع عيسى ابن مريم فيتفق مع الحادث الثاني للمسيح النصراني الذي يعمل المهدي العربي على انتصاره (2). ويقصد (ماسينيون) بكلمة ثانية أوضح أن يعود المسلمون عن قولهم: عيسى ابن مريم إلى القول: «عيسى ابن الله» ، تعالى اللهُ عن ذلك علوًا كبيرًا. وفحوى مقال (ماسينيون) كله أنه ما دام لدى المسلمين أخبار برجوع المسيح عيسى ابن مريم، فلماذا لا يكون هذا المسيح الراجع هو المسيح الذي يعتقد به النصارى اليوم؟.
ولقد ردد (ماسينيون) هذه الفكرة المأخوذة عن غيره والمدخولة في نفسها وجعلها عمدة عبقريته في الدعوة إِلَى أَنْ يُحْمَلَ المسلمون على ترك دينهم حتى يسهل استعمارهم على أهل الغرب. أقول (3) هذا وأنا أتألم إذ قوله عن رجل عرفته أستاذًا لي أستمع منه (4). ولكن الحق أكبر من (ماسينيون)، وَمَنْ عَلَّمَنِي حَرْفًا كُنْتُ لَهُ عَبْدًا فِي الحَقِّ لَا فِي البَاطِلِ.
التَّعْلِيمُ الرَّسْمِيُّ وَالتَّبْشِيرُ:
رأى المبشرون أن المدارس الرسمية في البلاد التي تكثر فيها المذاهب الدينية لا تتشدد في تعليم الدين، بل تتساهل حتى لا تنفر أحدًا من مواطنيها، وحتى لا يحمل بعض المواطنين كرهًا لبعض. ولقد رأى المبشرون في ذلك ثغرة أحبوا أن ينفذوا منها إلى عقائد الطلاب في مثل هذه المدارس. قال (وليم هول)(5)، مدير الدائرة الاستعدادية في الجامعة الأمريكية في
(1) Methods of Missions 36 f
(2)
L'Islam et L'occident 164 . Les cahiers du sud 1947 p. 164
(3)
الكلام هنا للدكتور عمر فروخ.
(4)
في كلية فرنسا في باريس 1936.
(5)
Mott، The Moslem World of To - Day 180
بيروت (1896 - 1927) في شأن هذه المدارس:
«وَالتَّعْلِيمُ فِي نَفْسِهِ قُوَّةٌ تَبْشِيرِيَّةٌ أَسَاسِيَّةٌ» . إن مؤتمر شمالي أفريقيا قد ذكر أن مدارس الحكومة (المدارس الرسمية) تمهد الطريق أمامنا بنفي التحزب ثم بفتح آفاق جديدة. تلك هي نتائج جميع التعليم الحديثة. إن مدارس الإرساليات المسيحية الغربية يجب أن تتقدم (على كل ما سواها) في الاحتفاظ بهذه الزعامة: ويجب على المبشرين أن يحتفظوا في كل زمن بوجهة نظر المسيح فيما يتعلق بالحياة الفياضة.
لما فُرِضَ الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان عام 1919 فرض معه منهاج التعليم الرسمي. وكان هذا التعليم الرسمي في مناطق الانتداب يساعد المبشرين في أعمالهم. لقد كان المبشرون في أول أمرهم (قبل الانتداب) ينشئون المدارس في جبل الدروز (على الأخص) بطلب من بعض زعماء الجبل. ولكنهم كانوا يغلقون تل المدارس إذا قصرت مواردهم عن إدارتها (أو إذا لم يستطيعوا التبشير فيها بنجاح على الأصح). أما بعد الانتداب فقد أصبح التعليم، وعلى الأخص في جبل الدروز، موضع تعاون وثيق بين المبشرين وبين السلطات العامة (1).
وبما أن الحكومة الفرنسية كانت تساعد الإرساليات الكاثوليكية في عملها، فإن مدارس تلك الإرساليات كانت تحبب فرنسا إلى التلاميذ النصارى (2).
ولم يكتف الفرنسيون طوال مدة انتدابهم، بأن يساعدوا اليسوعيين في أعمالهم المستقلة، بل فسحوا المجال ليكون لليسوعيين نفوذ كبير في توجيه المستشارين الإفرنسيين المشرفين على التعليم في منطقة الانتداب، وخصوصًا فيما يتعلق بالمناهج ومنح الشهادات الرسمية. وهذا ما جعل المناهج الرسمية كأنها خاضعة لليسوعيين مباشرة، ما لا صلة له ببحثنا. ولكننا نود أن نقول كلمة واحدة في سياسة الإفرنسيين في التعليم الرسمي في منطقة انتدابهم وسنستعير ما نقوله من " تقارير عن أحوال المعارف في سورية خلال سنة 1945" وضعها ساطع الحصري (3).
لما درس العالم الاجتماعي ساطع الحصري مناهج التعليم في الجمهورية السورية لفت نظره أشياء كثار تدعو إلى الغرابة فقال (4):
«هَذَا، وَيَجْدِرُ بِنَا أَنْ نَتَسَاءَلَ فِي هَذَا المَقَامِ: كَيْفَ تَأَسَّسَتْ هَذِهِ النُّظُمُ الغَرْبِيَّةُ فِي
(1) Les Jésuites en Syrie 10 : 65
(2)
ibid، 2 : 8
(3)
دمشق، مطبعة الجمهورية السورية:1946.
(4)
ص 24، 25.
سُورِيَّةَ؟ وَكَيْفَ دَخَلَتْ فِي عِدَادِ تَقَالِيدِ دَوَائِرِهَا الحُكُومِيَّةِ؟.
إِنَّنِي كُنْتُ عَثَرْتُ عَلَى جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ خِلَالِ التَّصْرِيحَاتِ التِي كَانَ أَدْلَى بِهَا إِلَيَّ أَحَدُ المُطَّلِعِينَ عَلَى هَذِهِ النُّظُمِ وَدَخَائِلَهَا. إِنَّ هَذِهِ النُّظُمَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِغَايَاتٍ تَحَكُّمِيَّةٍ، خِدْمَةً لِمَصَالِحِ الدَّوْلَةِ المُنْتَدَبَةَ وَحْدَهَا.
فَإِنَّ رِجَالَ الاِنْتِدَابِ عِنْدَمَا شَعَرُوا بِضَرُورَةِ إِعْطَاءِ بَعْضِ السُّلُطَاتِ إِلَى الحُكُومَاتِ المَحَلِّيَّةِ وَالمُوَظَّفِينَ الوَطَنِيِّينَ، أَرَادُوا أَنْ يُوجِدُوا نِظَامًا إِدَارِيًّا خَاصًّا يَضْمَنُ لَهُمْ تَحْقِيقَ الغَايَتَيْنِ التَّالِيَتَيْنِ:
آ - إِلْهَاءُ المُوَظَّفِينَ بِمُعَامَلَاتٍ قِرْطَاسِيَّةٍ مُطَوَّلَةٍ وَمُعَقَّدَةٍ لَا تَتْرُكُ لَهُمْ مَجَالاً لِلاِلْتِفَاتِ إِلَى الأُمُورِ الجَوْهَرِيَّةِ مِنْ جِهَةٍ، ثُمَّ تُخْفِي عَنْ الأَنْظَارِ زِمَامَ السُّلْطَةِ الحَقِيقِيَّةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.
ب - تَنْظِيمُ مَجَارِي المُعَامَلَاتِ الإِدَارِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ " مَرْكَزِيَّةٍ مُفْرِطَةٍ " لَا تَتْرُكُ مَجَالاً لإِفْلَاتِ مُعَامَلَةٍ مِنَ المُعَامَلَاتِ عَنْ نِطَاقِ اطِّلَاعِ رِجَالِ الاِنْتِدَابِ، وَشَبَكَةِ سَيْطَرَتِهِمْ السَّافِرَةَ أَوْ المُقَنَّعَةَ.
هَذَا هُوَ السِّرُّ الحَقِيقِيُّ فِي نَشْأَةِ البِيرُوقْرَاطِيَّةِ المُضْحِكَةَ وَالمَرْكَزِيَّةَ الغَرْبِيَّةَ التِي تُشَاهَدُ فِي جَمِيعِ نُظُمِ الإِدَارَةِ السَّائِدَةِ فِي سُورِيَّةَ. إِنَّ هَذِهِ النُّظُمُ التِي تُخَالِفُ أَبْسَطَ قَوَاعِدِ الإِدَارَةِ السَّلِيمَةِ وَأَوْضَحِ مَبَادِئِ العَقْلِ وَالمَنْطِقِ - إِنَّمَا وُضِعَتْ لِهَذَا السَّبَبِ وَلِهَذِهِ الغَايَةِ.
إِنَّ انْسِحَابَ الأَيْدِي الأَجْنَبِيَّةِ التِي كَانَتْ تُحَرِّكُ أَهَمَّ عَتَلَاتِ هَذِهِ المَاكِينَةِ، وَانْتِقَالِ هَذِهِ المُعَامَلَاتِ إِلَى الأَيْدِي الوَطَنِيَّةِ لَا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ حَقِيقَةِ الحَالِ. إِنَّ هَذِهِ المَاكِينَةَ - لَا تَزَالُ كَمَا كَانَتْ - مَاكِينَةً مُرَتَّبَةً لِخِدْمَةِ المَصَالِحِ الأَجْنَبِيَّةِ - بَعِيدَةً عَنْ خِدْمَةِ مَصَالِحِ البِلَادِ الحَقِيقِيَّةِ.
أَعْتَقِدُ أَنَّ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذِهِ المَاكِينَةِ - البَاقِيَةِ مِنْ عَهْدِ الاِنْتِدَابِ - وَالاِسْتِعَاضَةِ عَنْهَا بِمَاكِينَةٍ إِدَارِيَّةٍ جَدِيدَةٍ مُرَتَّبَةً تَرْتِيبًا تَخْدِمُ مَصَالِحَ البِلَادِ الحَقِيقِيَّةِ - وِفْقًا لِلْقَوَاعِدِ المَأْلُوفَةِ فِي البِلَادِ المُسْتَقِلَّةِ - يَجِبُ أَنْ يُعْتَبِرَ مِنْ أَوْجَبِ الوَاجِبَاتِ التِي تَتَرَتَّبَ عَلَى رِجَالِ سُورِيَّةَ فِي عَهْدِهَا الاِسْتِقْلَالِيِّ هَذَا».
هذه كلمة عامة قالها ساطع الحصري في تنظيم الإدارة لخدمة مصلحة الانتداب يوم كان الانتداب السافر موجودًا. ثم هو يعتقد أن زوال الانتداب لَمْ يُزَلْ آثَارُهُ. وأما فيما يتعلق بالثقافة خاصة فقد بسط ساطع الحصري رأيه في نحو ثلاثين صفحة من " تقاريره ". ولقد بين في أثناء ذلك أن الانتداب لم يسخر التعليم الرسمي لأغراض فرنسا المنتدبة فقط،