الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا نرى إلى أي حد كان التبشير والسياسة يتعاونان، كانت السياسة تعمل مقنعة من وراء المبشرين [الذين] كانوا بدورهم يعملون مقنعين بقناع التعليم والتطبيب وبذل الإحسان. ثم إن رجال السياسة كانوا إذا دافعوا عن المبشرين لم يدافعوا عنهم كمبشرين بل كأمريكيين أو إنجليز أو فرنسيين أو، على الأقل، كأجانب ليس لهم من دولهم ممثل يحميهم ويسهر على مصالحهم.
حتى رجال السياسة العلمانيون كالجنرال (ساراي)، المفوض السامي الفرنسي في سورية ولبنان يوم نشبت الثورة السورية عام 1925، واليهود كـ (أوسكار ستراوس)، كانوا يتفانون في خدمة رجال الدين الأجانب ثقة منهم بأن مساعي البروتستانت والكاثوليك على السواء إنما تعني، في النهاية، تصدير البضائع إلى شعوب الشرق أو الحصول على مراكز حربية في البلاد الشرقية.
سِيَاسَةُ الجِزْوِيتْ:
واليسوعيون يتدخلون في السياسة الداخلية ويحاولون أن يؤثروا على مجاري الساسة الخارجية. ثم هم يرتكبون في سبيل ذلك الفظائع والمجازر ويسلبون وينهبون ويقتلون. وهم يحاولون في كل بلد نزلوا فيه وبلغوا شيئًا من القوة أن يستولوا على الحكم أو أن يملأوا مناصب البلاد بطلابهم ثم يحاولوا القضاء على خصومهم وعلى الجماعات التي لا تخضع لهم.
ثم هم يقاومون كل الحركات التي تنبه الشعوب أو تجعل لها سبيلاً إلى الحياة المستقلة. يجب أن يظل الناس عبيدًا لهم أو كالعبيد، ولذلك نجد كل شعب «وعى نفسه» وأراد أن يحيا حُرًّا في أرضه سيدًا في أعماله بدأ بطرد اليسوعيين من بلاده. وإنك واجد مصداق ذلك كله في كتاب غايته تبيان ذلك، هو كتاب " سياسة اليسوعيين " تأليف (بيير دومينك)(1).
ولقد أتاح الانتداب الفرنسي حرية واسعة المدى للتبشير في سورية ولبنان. وكانت الكنيسة الكاثوليكية تضع لنفسها حدود هذه الحرية بالتعاون من الموظفين الفرنسيين الذين كانوا كاثوليكًا. أما الدولة المنتدبة فلم تكن تناصر حرية التبشير علنًا، ولا هي ذهبت في ذلك إلى حد يقر الكنيسة الكاثوليكية على تنصير المسلمين إلا إذا حدث ذلك التنصير من غير أن يثير ضجة عامة. ومع ذلك فإن المدارس والمستشفيات والهيئات الاجتماعية وأعمال التنصير المباشر التي كانت الكنائس والإرساليات تقوم بها، كانت كلها تمضي في عملها (التبشيري) من غير أن تلقى من الحكومة عرقلة تذكر. أما المدارس فقد ازدهرت أكثر من جميع المؤسسات الأخرى بما تدفق إليها من الموظفين الأجانب والمساعدات المالية الأجنبية (2).
ولما استحال على المبشرين الفرنسيين أن ينصروا أحدًا من أهل الجزائر بالقوة أو بالدعوة أرادوا أن يصلوا إلى نفوسهم بسلوك الحيلة: أرادوا إنشاء مركز للتبشير يشبه في مظهره مظاهر الحياة الإسلامية. لقد اقترح (لافيجري) أن يجعل من مدينة بسكرة في الجزائر - في منتصف الطريق بين جبال الأوراس و (بحيرات) شط الغرسة المتصلة بشط الجريد في تونس - زاوية مسيحية. والزوايا الإسلامية، في الحقيقة، كانت ولا يزال أكثرها إلى اليوم مراكز لرجال الطرق الصوفية المختلفة. ورجال الطرق هؤلاء كانوا، ولا يزال بعضهم حتى اليوم، مرابطين: عبادًا في النهار فرسانًا في الليل. ورئيس الزاوية يدعى المرابط، ويكون مع المرابط مقدم واحد أو عدد من المقدمين يساعدونه في قيادة الإخوان، أي الأتباع الذين يعيشون معه في الزاوية. واقترح (لافيجري) أن تسمى الزاوية المسيحية بيت الله. ثم اقترح أيضًا أن يكون لباس «رواد الصحراء» المسلحين، أو الإخوة المسيحيين الذين يعيشون في الزاوية المسيحية مشابهًا للباس «الإخوان» المسلمين ما عدا لباس الرأس، فإن المسلمين يعتمون فوق الشاشية (الكوفية، غطاء الرأس) بينما
(1) Pierre Dominique، La Politique des Jésuites
(2)
Grubb 171
أراد (لافيجري) أن يلبس الإخوة المسيحيين القبعه فوق الشاشية.
ولقد اعتقد (لافيجري) أن أتباعه من المبشرين أو رواد الصحراء المسلحين كما كان يسميهم أيضًا، يستطيعون أن يتخللوا بين المسلمين تخللاً سلميًا. لقد أراد (لافيجري) أن يكتسب البدو في صحراء الجزائر ثم يقدمهم عطية إلى فرنسا
…
ويأسف (لافيجري) كثيرًا لأن أمانيه لم تتحقق
…
ثم كان (لافيجري) يعلن خجله من الأمة الفرنسية لأنه بقي (في منصب الأسقفية في الجزائر) نحو أربعين عامًا في العهود المختلفة، وبين ظهراني شعب مسلم، كان يخضع له، من غير أن يحاول تنصيره. ليس هذا فحسب، بل إنه منع كل محاولة كان بإمكان القسس الكاثوليك أن يقوموا بها في هذا السبيل تصلبًا منه وعنادًا (1).
وكان الفرنسيون - رجال الدولة الفرنسية - يعدون التبشير بالمذهب الكاثوليكي، أو الدين الكاثوليكي (2)، عملاً وطنيًا. يقول (رينه بوتيه) في كتابه " الكاردينال لافيجري" (3): «إِنَّ العَمَلَ الذِي قَامَ بِهِ (لَافِيجِرِي) بَدَأَ مَعَ عَمَلِهِ التَّبْشِيرِيِّ، بَدَأَ بِنَشْرِهِ عَلَى السُّورِيِّينَ تِلْكَ العَطَايَا التِي تَمْنَحُهَا الكَنِيسَةُ الكَاثُولِيكِيَّةُ، إِنَّهُ جَعَلَ فِرَنْسَا مَحْبُوبَةً (لَدَى السُّورِيِّينَ) وَأَضَافَ إِلَى الحُقُوقِ القَدِيمَةِ التِي كُنَّا نَمْلِكُهَا (نَحْنُ الفِرَنْسِيِّينَ) عَلَى تِلْكَ المِنْطَقَةِ حُقُوقًا جَدِيدَةً .. وَلَكِنْ فِي الجَزَائِرِ اِسْتَطَاعَ أَنْ يَهَبَ كُلَّ مَا فِي اِسْتِطاعَتِهِ لإِظْهَارِ حُبِّهِ لِفِرَنْسَا. وَهَذَا لَا يَبْدُو فِي المَنَاصِبِ السَّامِيَةِ التِي اِحْتَلَّهَا فَقَطْ، بَلْ فِي تَرْكِهِ وَطَنَهُ (لِلْسُكْنَى فِي الجَزَائِرِ) إِذْ لَيْسَ ثَمَّتَ وَسِيلَةُ أَحَسَنَ مِنَ الحِرْمَانِ مِنْ نِعْمَةِ الوَطَنِ حَتَّى يَسْتَطِيعَ الإِنْسَانُ أَنْ يُدْرِكَ مَا لِهَذِهِ الكَلِمَةِ " فِرَنْسَا " فِي نَفْسِهَا مِنَ الجَمَالِ وَالنُّبْلِ وَالعَظَمَةِ. وَعَلَى أَرْضِ الجَزَائِرِ، مَدِينَةَ الجَزَائِرِ، كَانَتْ القُلُوبُ تَخْفَقُ لِرُؤْيَةِ العَلَمَ المُثَلَّثِ الأَلْوَانِ خَفَقَانًا شَدِيدًا كَانَ يُثِيرُهُ ذَلِكَ العَلَمَ المُتَمَوِّجُ فَوْقَ أَحَدِ الأَبْرَاجِ وَالمُشْرِفِ عَلَى أَرَضٍ أَجَنَبِيَّةٍ. تِلْكَ هِيَ فِرَنْسَا، التِي لَمْ يُحِبَّ (لَافِيجِرِي) أَنْ يَرَاهَا عَظِيمَةً وَجَمِيلَةً فَقَطْ، بَلْ كَانَ يَوَدُّ أَنْ يَرَاهَا أَيْضًا أَشَدَّ قُوَّةً وَأَكْثَرَ سُكَّانًا
…
أَرَادَ (لَافِيجِرِي)" أَنْ يُحَبِّبَ فِرَنْسَا إِلَى النَّاسِ بِاسْمِ المَسِيحِ ". هَذِهِ الجُمْلَةُ يُمْكِنُ أَنْ تَوجِزَ جَمِيعَ سِياسَةَ (لَافِيجِرِي) الذِي كَانَ رَئِيسَ أَسَاقِفَةٍ، ثَمَّ أَصْبَحَ كَارْدِينَالاً ثَمَّ صَاحِبَ الوِلَايَةِ عَلَى جَمِيعِ أَسَاقِفَةِ أَفْرِيقْيَا. وَفِي الوَاقِعِ إِنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَجْعَلَ مِنَ الوَطَنِيِّينَ مِنْ أَهْلِ أَفْرِيقْيَا رَعَايَا لَهُ وَلَا مُوَاطِنِينَ. لَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ مِنْهُمْ أَوْلَادًا لَهُ. فَبِحُبِّهِ لِلْمَسِيحِ وَبِالحُبِّ الذِي يُكِنُّهُ لِفِرَنْسَا أَرَادَ أَنْ يَتَبَنَّاهُمْ».
(1) Pottier. Card. Lavigerie 194 - 198
(2)
cf. Larousse، Sous catholicisme
(3)
Pottier. 177 - 178
هذا التبشير الممزوج بالسياسة، بل هذه السياسة المغلقة بالتبشير، هو الاستعمار. على أن هذا الاستعمار لم يكن خاصًا بالفرنسيين، ولكنه ظهر عند الفرنسيين في أبشع صوره.
ولقد أجمع الأب اليسوعي (ملييز)(1) سياسة فرنسا الدينية في الشرق من جميع جوانبها قال: «إِنَّ الحَرْبَ الصَّلِيبِيَّةَ الهَادِئَةَ التِي بَدَأَهَا مُبَشِّرُونَا فِي القَرْنِ السَّابعِ عَشَرَ لَا تَزَالُ مُسْتَمِرَّةً إِلَى أَيَامِنَا. إِنَّ الرُّهْبَانَ الفِرَنْسِيِّينَ وَالرَّاهِبَاتِ الفَرَنْسِيَّاتِ لَا يَزَالُونَ كَثِيرِينِ فِي الشَّرْقِ» (ص 23).
«لَقَدْ اِحْتَفَظَتْ فِرَنْسَا طَوِيلاً بِرُوحِ الحُروبِ الصَّلِيبِيَّةِ وَبِالحَنِينِ إِلَى تِلْكَ الحُروبِ حَيَّةً فِي نَفْسِهَا، وَكَثِيرًا مَا فَكَّرَ مُلُوكُهَا بِحَمْلَةٍ صَلِيبِيَّةٍ جَدِيدَةٍ (عَلَى الشُّرْقِ)، وَلَكِنَّ أُورُوبَا المُنْشَقَّةُ (عَلَى نَفْسِهَا) كَانَتْ دَائِمًا تَجْعَلُ مِنَ المُسْتَحِيلِ (عَلَى فِرَنْسَا) أَنْ تَقُومَ بِحَمْلَةٍ بَعيدَةَ المَدًى
…
» (ص 14، 15).
«وَكَانَ مُمَثِّلُو فِرَنْسَا يُسَانِدُونَ أَعْمَالَ مُبَشِّرِينَا» (ص 22).
وكثيرًا ما اختارت فرنسا قناصلها وسفراءها من رجال الدين.
(1) Milliez، La Croisade du Levant