الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّانِي عَشَرَ: نَتَائِجُ التَّبْشِيرِ - الحِوَارُ - التَّبْشِيرُ وَإِسْرَائِيلُ:
لا ريب في أن وسائل التبشير والاستعمار قد تطورت بتطور العلم تطورًا كبيرًا وتعددت الأبواب التي يدخل منها التبشير والاستعمار إلى حياة الشعوب. وكذلك تعددت أوجه التبشير والاستعمار فأصبح من العسير أن نحيط وصفًا بما جَدَّ منها منذ الطبعة الثالثة (1964 م). من أجل ذلك سنقصر الكلام على ثلاثة موضوعات: نتائج التبشير ثم الحوار ثم التبشير وإسرائيل.
1 - نَتَائِجُ التَّبْشِيرِ:
لا شك في أن المبشرين قد أخفقوا في البلاد الإسلامية في هدفهم الذي كانوا قد أعلنوه منذ مطلع العصور الحديثة: نقل الناس إلى النصرانية اعتقادًا وعملاً. لقد انتقل أفراد قليلون وجماعات قلائل إلى النصرانية في عدد من البيئات التي يسودها الجهل والفقر وتسيطر فيها الدول الأجنبية المستعمرة، وخصوصًا في الشرق الأقصى وفي أواسط أفريقيا وغربيها. غير أن هؤلاء المرتدين كانت الكثرة الغالبة منهم من غير المسلمين.
هؤلاء الذين دخلوا النصرانية حُبًّا بالدنيا، لأن الدول المستعمرة لم تحمل هؤلاء على النصرانية حتى تمتعهم بما يتمتع به النصراني الأوروبي والنصراني الأمريكي الأبيضان. من أجل ذلك جعلت لهم كنائس بدائية خاصة بهم ومدارس فطرية خاصة بهم وحرمت عليهم كل نشاط يريده البيض لأنفسهم ثم انتظرت منهم أن يكونوا دائمًا في خدمتها ضد قومهم وأبناء جلدتهم.
ومن حسن الحظ أن هؤلاء المرتدين قد عملوا بما أراده المستعمر منهم وكانوا عيونًا له وأيديًا في وطنهم. ومن الأمثلة على ذلك دويلة بيافرا التي أنشأها الاستعمار في الإقليم الشرقي من نيجيريا، فإنها بدأت تكيد لنيجيريا وتفتح عليها أبوابًا من الشر. وقد كان
أهل بيافرا في الأصل من قبائل الإيبو الوثنية ثم أدخل جماعات منهم في النصرانية. ولما زال الاستعمار عن نيجيريا - ظاهريًا على الأقل - أقام الاستعمار لهؤلاء المرتدين دويلة.
ومع أن الحاكمين في نيجيريا الأم كانوا أكثرهم من النصارى، فإنهم لم يَرْضَوْا عن بيافرا ولا عن أعمال أهل بيافرا فبدأوا بالقضاء عليها. ولكن الاستعمار في جميع صوره الظاهرة والمتسترة ساعد أهل بيافرا بالمال والسلاح والنفوذ. وأخيرًا قُضِيَ على دويلة بيافرا فزالت. وهذه المحاولة التي قام بها الاستعمار في بيافرا من نيجيريا قام بها أيضًا في جنوب السودان، وفي أماكن أخرى.
غير أن الدول المستعمرة لم تتوقف عن بذل الجهود الهدامة في نيجيريا بوساطة المبشرين. إن الحكومة النيجيرية الاتحادية قد أنكرت التهمة القائلة بأن سياسة إبادة جماعية تجري مجراها في الإقليم الذي كانت فيه دويلة بيافرا. ولكن حكومة نيجيريا الاتحادية قد أصدرت بيانًا أعلنت فيه أنه سيتم في أقرب فرصة ترحيل القساوسة والراهبات الكاثوليك الأجانب الذين أدينوا أخيرًا بتهمة دخول البلاد بطريق غير قانوني ثم اشتركوا في التآمر الاستعماري ضد وحدة نيجيريا. وقد تم بالفعل نقل عدد كبير من هؤلاء القساوسة والراهبات الأجانب إلى لاغوس تمهيدًا لترحيلهم إلى بلادهم الأصلية (1).
ولقد كان من المنتظر أن يتراجع المد التبشيري بعد زوال الاستعمار عن الأقطار التي قام فيها المبشرون بنشاطهم، وإن كان زوال هذا الاستعمار رمزيًا فقط. وقد رأى أحد المبشرين هذه الحقيقة وكتب فيها كُتَيِّبًا يبسطها فيه.
في عام 1964 أصدر المحترم (القس بيرس بيفر) كتابًا صغير الحجم اسمه " من الإرساليات (المتعددة) إلى الإرساليات (الموحدة) "(2) أي: وجوب قيام اتجاه واحد في التبشير بدلاً من الاتجاهات الكثيرة المختلفة المتعادية والموجودة حاليًا. في هذا الكتاب الصغير الحجم أشياء كثيرة هي التي قلنا بها نحن قبل عشرين عامًا. هذه الأشياء يشعر بها الآن الذين دخلوا في النصرانية على يد المبشرين ويشعر بها المبشرون أنفسهم.
(1) راجع جريدة " الشعب "(بيروت) في 5/ 2 / 70 والجرائد الأخرى.
(2)
From Missions to Mission، by R. Pierce Bearver (Reflection Collection) ، copyright 1964 by National Board of Young Men's Christian Association، New York
ثم يشعر المبشرون أيضًا أن التبشير كله في أزمة.
قال مؤلف هذا الكتاب:
- «إِنَّ البِلادَ التِي نَشَأَتْ فِيهَا الكَنَائِسُ الجَديدَةُ (اِنْتَشَرَتْ فِيهَا النَّصْرَانِيَّةُ عَلَى يَدِ المُبَشِّرِينَ)
…
هِي اليَوْمَ بِلَادُ ثَوْرَةٍ. هَذِهِ البِلادُ تَسُدُّ اليَوْمَ الطَّرِيقَ عَلَى التَّبْشِيرِ سَدًّا مُحْكَمًا. وَنَصَارَى هَذِهِ البِلَادِ عَلَى وَشَكِ أَنْ يَخْلَعُوا العَقِيدَةَ النَّصْرَانِيَّةَ لأَنَّهَا فِي نَظَرِهِمْ جُزْءٌ أَصِيلٌ فِي السَّيْطَرَةِ الغَرْبِيَّةِ وَفِي الاِسْتِعْمَارِ» (ص 40).
هذه المختارات تمثل الكتاب الذي أخذت منه، ثم هي تنكشف عن حقيقة واقعة وَمُرَّةٍ أَيْضًا - لنا ولأصحابها - حقيقة لا سبيل إلى إنكارها ولا إلى إنكار نتائجها، وهي أن التبشير قد جاء إلى البلاد التي تنجح فيها كثيرًا أو قليلاً بالاستعمار وبالسيطرة الغربية وبالتحريش بين أبناء الوطن الواحد من غير أن يأتي بشيء من القيم الروحية. ولا شك في أن التمييز العنصري الذي تمارسه الحكومات البيضاء في أفريقيا خاصة دليل واضح جدًا على أن التبشير قد سلب طوائف الناس اسمي ما تأتي به الأديان كلها: قد سلبها المساواة والتسامح.
والمبشرون لم يقوموا بهذه الجهود في البلاد ذوات الاستقلال القاصر، كدويلة بيافرا المنقرضة، بل في البلاد ذات الاستقلال الصحيح مثل الجزائر، إن عمل المبشرين في الحقيقة ليس متصلاً بالإحسان والدعوة الصالحة، بل متصل بالاستعمار والتجسس. نشرت الصحف الخبر التالي (2):
«أُعْلِنُ فِي الجَزَائِرِ أَمْسِ أَنَّ خَمْسَ عَشَرَةَ أَجْنَبِيًّا طُرِدُوا مِنَ البِلَادِ لِنَشْرِهِمْ دِعَايَةً
(1) يقصد المؤلف أبناء المناطق الوسطى الغربية من قارة أفريقيا ممن استمالهم المبشرون إلى عدد من فرق النصرانية.
(2)
راجع جريدة " الأنوار "(بيروت) 28/ 12 / 1969، وجريدة " النهار "(بيروت) في التاريخ نفسه، ص 9.