الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترغب في عرقلة أعمالها السياسية في المناطق التي كانت قد بسطت عليها نفوذها أو لم تستطع بعد أن تثبت هذا النفوذ.
عند ذلك التفت المبشرون إلى التعليم وأعانهم على ذلك (اللورد كرومر) الذي خلف (كتشنر). فقد أسس المبشرون الإنجليز مدرسة للبنات في الخرطوم، عام 1903، وأسس المبشرون الأمريكيون في الخرطوم نفسها مدرسة للصبيان بعد عامين. ثم وسع كل فريق منهم جهوده التبشيرية من خلال التعليم. على أن هذه المدارس كانت قاصرة في أول الأمر، وفي فترة غير قصيرة بعد ذلك، على أولاد الجاليات المصرية والسورية وعلى المولدين (الذين كان آباؤهم من الأجانب)، وكان معظم هؤلاء غير مسلمين (1).
ثم إن الحكومة الإنجليزية قسمت السودان قسمين: قسمًا شمال خط العرض 12 عَدَّتْهُ قِسْمًا إِسْلَامِيًّا لا يجوز السماح فيه للمبشرين بالقيام بأعمالهم عَلَنًا. وكذلك أوجبت الحكومة الإنجليزية على المدارس التبشيرية ألا تعلم الدين المسيحي لتلميذ اختار ولي أمره أن يدخله فيها إلا إذا حصلت من الولي على إذن خطي بذلك. على أن هذا كله لم يمنع شيئًا من التبشير بوسائل مختلفة من طريق التعليم والتطبيب والسياسة ووظائف الحكومة مما عرفنا أشباهه في هذا الكتاب.
أما جنوب خط العرض 12 فَعَدَّتْهُ الحُكُومَةُ الإِنْجْلِيزِيَّةُ قِسْمًا وَثَنِيًّا خَالِصًا ومنعت المسلمين من السفر إليه حتى تتيح للمبشرين المسيحيين أن يعملوا فيه بِحُرِّيَّةٍ، ثم كانت هي تقدم لهم جميع المساعدات في سبيل ذلك. غير أن جنوب السودان ظل ميدان صراع بين الحركة الإسلامية وبين الإرساليات التبشيرية المسيحية مما لا يدخل بحثه في نطاق هذا الكتاب. ولا ريب في أن استقلال السودان قد خفف كثيرًا من أثر المبشرين الكاثوليك والبروتستانت حتى في جنوبي السودان.
الاِضْطِرَابُ فِي السُّودَانِ:
كان محمد علي باشا قد فتح السودان، في سنة 1237 هـ (1821 م)، باسم العثمانيين. وكان للسودان، من قبل ومن بعد، مشاكل كثيرة منها جلب العبيد منه للبيع في مصر وفي غيرها.
(1) ibid 15
وجاء إسماعيل باشا إلى عرش مصر في رجب من سنة 1280 هـ (1863 م). واحتاج إسماعيل باشا إلى أن يسد نفقات كثيرة منها ما كان في سبيل الإصلاح كبناء السكك الحديدية وإنشاء الطرق والمرافئ وشق قناة السويس، ومنها ما ذهب في الإسراف على بناء القصور أو في السرقات. ثم كانت القلاقل في السودان واحتاج إلى تمويل الحملات بمبالغ ضخمة. ففي سنة 1292 هـ (1875 م) باع إسماعيل باشا أسهمه في قناة السويس للحكومة البريطانية. وهكذا أصبحت معظم أسهم قناة السويس في يد الفرنسيين ويد الحكومة البريطانية. ثم غرق إسماعيل في الديون الأجنبية، فتأسس في مصر صندوق الديون العمومية. عندئذٍ فرضت فرنسا وإنجلترا على إسماعيل لجنة منهما للإشراف على جمع الضرائب وعلى نفقات الدولة محافظة على حقها في الديون وفي نصيبهما من دخل القناة. بذلك دخلت مصر في نطاق النفوذ البريطاني الفرنسي فعليًا. غير أن النفوذ البريطاني كان أغلب.
ومع دخول النفوذ الأجنبي إلى الميدان الاقتصادي المصري دخل هذا النفوذ في الوقت نفسه إلى الميدانين السياسي والعسكري. لقد استعان إسماعيل باشا في التغلب على تجارة الرقيق بنفر من الأجانب منهم السير (صموئيل بايكر) والكولونيل (تشارلس غوردن) و (رودولف سلاتين) = (سلاطين باشا). لقد عهد إلى هؤلاء بالولاية على عدد من المناطق السودانية وفوض إليهم العمل بجميع الوسائل التي يرونها ضرورية للقضاء على نشاط الجلابين. وهكذا دخل النفوذ البريطاني إلى السودان أيضًا. ويحسن أن نذكر هنا أن الكولونيل (تشارلس غوردن) - أو (غوردن باشا) كما أصبح يُدْعَى فِيمَا بَعْدُ - كان من المتصلين بحركة التبشير ومن الذين كانوا يشجعون على القيام بالتبشير في السودان خاصة. وكانت قضية التبشير في السودان خاصة تشغله إلى درجة أنه كتب بها رسالة أو رسائل إلى أخته (1).
وفي ذلك الحين كان (غوردن باشا) قد أصبح الحاكم العام في السودان فتقلصت تجارة الرقيق قليلاً واتسعت حركة التبشير كثيرًا. ولكن في عام 1879 اُسْتُدْعِيَ (غوردن) إلى إنجلترا فنشطت تجارة الرقيق من غير أن تركد حركة التبشير التي كان (غوردن) قد دفعها في القسم الجنوبي من السودان خاصة.
يبدو أن التدخل البريطاني في حياة السودان الدينية على الأخص وفي حياته السياسية أيضًا (مضافًا إلى هذا التدخل الأجنبي شيء من الفوضى التي آل إليها الحكم المصري في السودان والتي كانت امتدادًا للفوضى في مصر نفسها يومذاك) قد كان السبب الأول في
(1) Trimingham، Approach 10 - 11
الثورة الدينية التي أثارها محمد بن أحمد المعروف بـ " المهدي "، في رمضان من سنة 1298 هـ (صيف 1881 م).
في ذلك الحين كان خديوي مصر إسماعيل باشا قد خُلِعَ (1296 هـ - 1879 م) وخلفه ابنه توفيق الذي كان أضعف من أبيه من الناحية الاقتصادية والناحية الإدراية مَعًا، وكان الإنجليز خاصة يسندون حكمه الضعيف لأن ضعفه كان يمكنهم من تنفيذ رغباتهم في مصر والسودان. وعمت مصر النقمة التي كانت قد عمت السودان من قبل، فقد كثر نفوذ الإنجليز وزاد عدد الأجانب في مصر زيادة كبيرة جِدًّا، فنشبت ثورة أَحْمَدْ عُرَابِي بعد ثورة " المهدي " في السودان بأسابيع.
وتمادت الثورتان، ورأت بريطانيا فيهما تهديدًا لنفوذها ومصالحها في القارة الأفريقية كلها فاحتلت مصر في شهر شعبان من سنة 1299 هـ (تموز - يوليو 1882 م).
وحرصت بريطانيا على قمع حركة " المهدي " في السودان من وارء الجيش المصري فأبيدت النجدات المصرية التي أرسلت إلى السودان. وفي ربيع الثاني من سنة 1301 هـ (شباط - فبراير 1884 م) أرسلت بريطانيا حملة على السودان بقيادة (غوردن)، ولكن حملة (غوردن) أيضًا خابت وقتل (غوردن) نفسه، لما سقطت الخرطوم في يد أتباع " المهدي " في ربيع الثاني من سنة 1302 هـ (كانون الثاني - يناير 1885 م).
وبعد ستة أشهر من مقتل (غوردن) توفي المهدي، في 8 رمضان 1302 هـ (حزيران - يونيو 1885 م) فتولى الجهاد بعده عبد الله بن محمد الفقيه المعروف بـ " خليفة المهدي " أو بـ " الخليفة ".
وفي 1314 هـ (1896 م) أعد الإنجليز حملة مشتركة (بريطانية - مصرية) بقيادة (كتشنر) استطاعت أن تقضي على حركة المهدي في معركة أم درمان، في جمادى الثانية من سنة 1316 هـ (1898 م).
وقسم السودان من الناحية الاجتماعية قسيمن: قسمًا شماليًا وقسمًا جنوبيًا. أما القسم الشمالي فكان مسلمًا، وقد اقتصر إنشاء المدارس الرسمية في السودان على هذا القسم. أما القسم الجنوبي (وقد كان معظم أهله من الوثنيين البدائيين) فقد ترك للمبشرين الكاثوليك والبروتستانت يقومون فيه بالتعليم (1)، أو بالتبشير تحت ستار التعليم. ومنذ عام 1926 جعلت الحكومة الإنجليزية المنتدبة على السودان تعطي المبشرين إعانة من ميزانة السودان مساعدة لهم على التعليم (2).
(1) Dempsy 45
(2)
ibid . 48 f