الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاِمْتِيَازَاتُ الأَجْنَبِيَّةُ:
على أن الدول الأجنبية لم تكن ميالة إلى أن تعلن بين كل حين وآخر حربًا نظامية على الإمبراطورية العثمانية حتى تستفيد من الشرق امتيازًا اقتصاديًا أو مركزًا حربيًا، إن ذلك كان يكلفها خسائر جسمية في الأموال والأرواح. ثم إنه يخرج بالدول الأوروبية إلى ما لم يكن في حسبانها من اختلاف فيما بينها هي أحيانًا. من أجل ذلك تسلحت الدول الأوروبية بـ «الامتيازات الأجنبية» ، كما يدل الاسم، كانت تقوم على منح رعايا الدول الأجنبية النازلين في الإمبراطورية العثمانية أو السائحين فيها أو المارين بها مرورًا «امتيازات» لَمْ تَكُنْ تُمْنَحُ للعثمانيين أنفسهم. من أشهر هذه الامتيازات إعفاء هؤلاء الأجانب من الضرائب المباشرة ومن جزء كبير من رسوم الجمارك. ثم إن السلطات العثمانية لم تكن تستطيع ولوج بيت رجل أجنبي مهما كان السبب. حتى لو أن جريمة ارتكبت في ذلك البيت لما كان للسلطة العثمانية أن تدخل للتحقيق، بل كان الذي يقوم بالتحقيق والمحاكمة والفصل قنصل الرجل الذي يسكن ذلك البيت. إن البيت الذي كان يسكنه رجل إنجليزي أو فرنسي أو يوناني أو أسوجي أو برازيلي، كان يعتبر جُزْءًا من إنجلترا أو فرنسا أو اليونان أو أسوج أو البرازيل.
وكذلك كان لكل أجنبي أن يتجول في البلاد العثمانية كما يشاء. فإذا اتفق أن ناله سوء - وَلَوْ قَضَاءً وَقَدَرًا - فإن حكومته تطالب بديته أضعافًا مضاعفة، وقد تشدد أحيانًا حتى تنال امتيازات سياسية وتجارية جديدة لم تكن لها من قبل. وكانت القوانين العثمانية لا تطبق على الأجانب النازلين في الإمبراطورية العثمانية.
أما أصل هذه الامتيازات فغامض جِدًّا. زعموا أن هارون الرشيد قد منح للفرنجة من أتباع (شارلمان) تسهيلات تجارية (1)، وليس ذلك بصحيح. وكذلك يزعمون أن هذه الامتيازات قد نقلت، بعد سقوط إمبراطورية (شارلمان)، إلى بعض المدن الإيطالية.
ولكن يظهر أن أمير أنطاكية الصليبي قد منح مدينة جنوة الإيطالية، امتيازات تجارية في إمارته، وذلك عام 1098 م، أي في العام الذي سقطت فيه أنطاكية في أيدي الصليبيين. ثم إن ملك القدس قد منح مثل هذه الامتيازات للبندقية في إيطاليا عام 1123،
(1) cf. Enc. Br، under Capitulations
ولمرسيلية في فرنسا عام 1136 م.
وبما أن الإمبراطورية (الرومية أو الرومانية الشرقية) كانت يومذاك مستضعفة فقد اضطرت إلى أن تمنح مثل هذه الامتيازات لدول أوروبا القوية.
ثم لما استولت الدولة العثمانية على الإمبراطورية البيزنطية طمعت الدول الغربية في أن تظل لها امتيازاتها في البلاد التي انتقلت من أيدي الروم إلى أيدي العثمانيين. ولم تصل الدول الغربية إلى تحقيق بغيتها إلا في القرن السادس عشر حينما قبل السلطان [سليمان] القانوني عام 1536 م أن يمنح (فْرُنْسْوَا الأَوَّلْ) ملك فرنسا شيئًا من الامتيازات التجارية ومن الاعتراف لرعاياه، إذا سكنوا في الإمبراطورية العثمانية أو مروا فيها، ببعض الامتيازات القانونية والتجارية أيضًا. والذي يلفت نظرنا هنا مما يتعلق ببحثنا ثلاثة أمور:
1 -
أن الرجل الذي عهد إليه بالحصول على هذه الامتيازات لفرنسا من الباب العالي كان يدعى (ده لا فورست)(1)، وهو راهب من فرسان (القديس يوحنا) الصليبيين.
2 -
إن هذه الامتيازات كانت للنصارى من الأجانب، جاء في " دائرة المعارف البريطانية " نفسها ما يلي:
3 -
من أجل ذلك عين الراهب الصليبي (ده لا فورست) سفيرًا في الآستانة، فكان أول سفير لفرنسا في الإمبراطورية العثمانية.
ومع الأيام أخذت الإمبراطورية العثمانية تضعف، فكان ضعفها المتوالي المتزايد سببًا في ازدياد شَرَهِ الدُّوَلِ الأَجْنَبِيَّةِ، لما في الشرق من خيرات وكنوز، فبعد أن كانت الامتيازات الأجنبية قاصرة - فيما يتعلق بما فعله سليمان القانوني - على الفرنسيين، امتدت نعمتها إلى الإنجليز ثم إلى الهولنديين والإيطاليين والإسبان، ثم إلى الأمريكان ورعايا النمسا وروسيا واليونان. ولقد كان رعايا كل دولة يتوسعون في هذه الامتيازات ليتمتعوا بحقوق وإعفاء لم تكن من قبل لهم. وأخيرًا أصبحت الشعوب والجماعات غير المسلمة تتمتع في الإمبراطورية العثمانية باستقلال طائفي فيما يتعلق بالأحوال الشخصية (من زواج وإرث وغيرهما)،
(1) De la Forest
(2)
Pavia
بإعفاء من الخدمة العسكرية ومن كثير من الضرائب والملاحقات القانونية. حتى إن المجرم كان يرتكب جريمته فإذا لجأ إلى قنصله أو اختبأ في بيت رجل أجنبي لم يجسر القضاء العثماني على أن يصل إليه. ولكن هذه الامتيازات ألغيت عام 1914 بعد أن نشبت الحرب العالمية الأولى.
زادت هذه الامتيازات في نفوذ الدول الأجنبية فأخذت إنجلترا وفرنسا تتنازعان على «حماية» الأجانب في الإمبراطورية العثمانية من الذين ليس لدولهم تمثيل في استانبول (1). فالأرمن والبلغار وأهل الجبل الأسود وبعض أهالي أمريكا الجنوبية كأهل الأرجنتين والتشيلي والمكسيك لم يكن لدولهم وزراء مفوضون أو قناصل في الإمبراطورية العثمانية، فلم يكونوا يتمتعون بالامتيازات الأجنبية. وكان هؤلاء إذا استطاعوا أن ينالوا حماية فرنسا أو إنجلترا - وكان من السهل جدًا أن ينالوها - استطاعوا أن يتمتعوا بجميع الامتيازات التي كان يتمتع بها الفرنسي أو الإنجليزي في الإمبراطورية العثمانية سواءً بسواءٍ.
وأساء بعض الوزراء والقناصل الإنجليز والفرنسيين هذه السلطة في منح الحماية لرعايا الدول الذين لا تمثيل سياسيًا لهم في الآستانة، وجمعوا من وراء ذلك أموالاً طائلة (2).
ثم زاد ضعف الدولة العثمانية فزادت جرأة الإنجليز والفرنسيين على منح مثل هذه الحماية، فمنحوها لعدد من «الرعايا العثمانيين» أنفسهم ممن استطاع أن يشتري هذه الحماية بمبلغ كبير ليستغلها في وجوه مختلفة، أو ممن كان يستطيع أن ينفع إنجلترا أو فرنسا في سبيل من السبل. وكان أحد هؤلاء الأجانب أو المحميين يتخطى القوانين ويخالف مبادئ الإنسانية، فإذا تعرض له متعرض شمخ بأنفه وقال:«أَنَا أَجْنَبِيٌّ» ، أو «أَنَا فِي حِمَايَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ» . روى عبد الله المشنوق شيئًا من هذا، قال (3):«مِنْ ذَلِكَ حَادِثَةٌ شَهِدْتُهَا بِأُمِّ عَيْنِي - دَهَسَتْ سَيَّارَةٌ يَقُودُهَا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ طِفْلاً فِي بَيْرُوتْ. فَأَمَرَ الشُّرْطِيُّ السَّائِقَ بِالوُقُوفِ فَرَفْضَ قَائِلاً بِلُغَتِهِ الأَجْنَبِيَّةِ: القُنْصُلِيَّةُ. لَا شأْنَ لِي مَعَكِ. وَتَابَعَ (السَّائِقُ) طَرِيقَهُ تَارِكًا الطِّفْلَ المِسْكِينَ يُعَانِي سَكَرَاتِ المَوْتِ» .
وأدرك المبشرون ما يمكن أن يستفيدوا من الاحتماء بالامتيازات الأجنبية فاستغلوها إلى أبعد الحدود: لقد كانوا - بقطع النظر عن أشكال أثوابهم - يدورون في البلاد كأجانب ويعملون فيها كمبشرين.
(1) cf. Enc. Br، under Capitulations
(2)
cf. Enc. Americana 5 : 567
(3)
" الامتيازات الأجنبية "(بيروت) 1922: ص 25.