الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأَوَّلُ: بَوَاعِثُ التَّبْشِيرِ الحَقِيقِيَّةِ:
يظن بعض الناس أن المبشرين يأتون إلى الشرق لنشر الدين على أنه هدفهم الأسمى. والحق أن نشر الدين أمر ثانوي جِدًّا في جميع الحركات التبشيرية. قد نجد أشخاصًا قليلين يمولون حملات تبشيرية على الشرق، ثم أفرادًا قليلين أيضًا يأتون في هذه الحملات لينشروا الدين حُبًّا بنشر الدين واعتقادًا منهم بأنهم يقومون بعمل سام. على أن الكثرة المطلقة من الذين يمولون تلك الحملات، ومن الذين يأتون فيها، لا صلة بين أهدافهم الحقيقية وبين الدين الذي يزعمون أنهم جاءوا لنشره.
إننا إذا تأملنا العالم الغربي وجدناه عالمًا ملحدًا لا يؤمن بدين، وعالمًا ماديًا لا يعرف للروح معنى: إن أمريكا التي تعبد الحديد والذهب والبترول - كما يقول (أمين الريحاني) - قد غطت نصف الأرض بمبشرين يزعمون أنهم يدعون إلى حياة روحية وسلام ديني. وبينما نرى فرنسا دولة علمانية في بلادها نجدها الدولة التي تحمي رجال الدين في الخارج.
إن اليسوعيين المطرودين من فرنسا هم خصوم فرنسا في الداخل وأصدقاؤها الحميمون في مستعمراتها. وكذلك إيطاليا، التي ناصبت الكنيسة العداء وحجرت البابا في الفاتيكان، كانت تبني جميع سياستها الاستعمارية على جهود الرهبان والمبشرين. حتى روسيا السوفياتية التي تدعو في بلادها إلى محاربة الأديان - كما يقال - رأيناها، بعد الحرب العالمية الثانية، حينما أرادت أن تحقق لنفوذها توسعًا إقليميًا وسياسيًا، قد تظاهرت بالعطف على رجال الدين ودعت إلى مجمع مسكوني في موسكو وحملت إليه المؤتمرين في طائراتها. ثم شرف ستالين نفسه أولئك المؤتمرين بمقابلته. وكثيرًا ما كان الرجال العسكريون من الإنجليز خاصة يخصون حكوماتهم على بث المبشرين في العالم، كما
نصح الجنرال (هايغ) الحكومة البريطانية أن ترسل مبشريها إلى شبه جزيرة العرب (1).
حتى الأفراد الذين ينتشرون في الأرض للتبشير بزعمهم لم يأتوا في واقع الأمر للتبشير. إن منهم من يحب المغامرات والأسفار، ومنهم من يطمح إلى السيطرة الشخصية على من حوله، ومنهم من يحب فرض رأيه على الآخرين (2). فإذا لم يستطع أحدهم أن يفعل ذلك في بلاده، ولم يملك أن يفعله باسمه هو في خارج بلاده، خرج إلى العالم تحت ستار التبشير ليشبع أطماعه الشخصية. وكثيرًا ما كشفت الجمعيات التبشيرية عن أطماع المبشرين الشخصية واكتشفت بينهم المكرة، أو الذين أحبوا أن يستغلوا الجمعيات التبشيرية ليسافروا في العالم على حسابها، وهم في الحقيقة تجار أو رجال دعوة (اجتماعية أو اقتصادية) لا صلة لها بالتبشير (3). بل إن ثمت شيئًا أكبر من ذلك: إن هؤلاء لا يتحلون بالأخلاق الحميدة. كتب الشاعر القروي المجيد (رشيد سليم الخوري) في مجلة " العصبة الأندلسية "(4) يتكلم باسم النصارى الذي يتألمون - كالمسلمين أيضًا - من أضرار المبشرين كلهم والبروتستانت خصوصًا فيقول: «أَمَّا مِنَ النَّاحِيَةِ الدِّينِيَّةِ فَإِنَّ إِقَامَتِي الدَّلِيلَ عَلَى عَدَمِ نَزَاهَتِهِمْ لَا تَقْتَضِي أَنْ أَكُونَ بَارِعًا فِي الجَدَلِ أَوْ عَالِمًا شَهِيرًا بِالتَّارِيخِ .. ! إِنَّ طَوَائِفَنَا العَدِيدَةَ .. قَدْ زِيدَتْ بِفَضْلِ تَعَرُّفِنَا عَلَى الرِّسَالَةِ الأَمَرِيكِيَّةِ طَائِفَةً جَدِيدَةً اسْمُهَا الطَّائِفَةُ الإِنْجِيلِيَّةُ .. وَكَمْ أَنَفَقَ الأَمَرِيكِيُّونَ .. لِكَيْ يُعَرِّفُونَا بِمُوَاطِنِنَا السَّيِّدَ المَسِيحِ وَبِدِينِهِ .. وَكَأَنَّنَا أَشَدَّ اِفْتِقَارًا إِلَى الفَضَائِلِ المَسِيحِيَّةِ مِنَ الأَمَرِيكِيِّينَ أَنَفْسُهُمْ!» .
والمؤلفون عادة لا ينكرون أن التبشير قد اتخذه الكثيرون آلة للتجارة والسياسة، وأن المبشرالأمريكي خاصة لم يستطع أن يتحرر من نفوذ حكومته وغاياتها.
وكثيرًا ما غادر المبشر جمعية إلى جمعية حسب أهوائه، فإن (وليم بلغرايف)(5) الإنجليزي قد دعته أطماعه الخاصة إلى أن ينقلب راهبًا يسوعيًا ويجادل البروتستانت قومه. ولما استغنى عن اليسوعيين عاد بروتستانتيًا، حتى إنه سمي «الحَرْبَاءَ» (6).
وليس هذا فقط، بل إن من المبشرين نفرًا يسعون وراء أطماع ومغامرات شخصية شوهت اسم النصرانية في الشرق (7). فلقد ذكر (جسب) في كتابه الذي طبع 1910
(1) Jessup 530.
(2)
Re -Thinking Missions p. 9.
(3)
ibid . 10
(4)
عام 1947، العدد الرابع.
(5)
William Gifford Palgrave.
(6)
Jessup 295.
(7)
Re -Thinking Missions p. 13