الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحببت أن أراه كاملاً. من أجل ذلك اكتفيت مكرهًا بالإشارة إلى ما نشرته جريدة " أل تمبو ".
المُلْحَقُ الثَّالِثُ: مِنَ الحَمَلَاتِ عَلَى الثَّقَافَةِ العَرَبِيَّةِ:
(1)
في مطلع عام 1962 نشرت المطبعة التابعة لجامعة كاليفورنيا (الولايات المتحدة) كتابًا عنوانه: " الإسلام الحديث "(المعاصر) يبحث عن شخصية ثقافية (2) للدكتور (غوستاف فون غرونيباوم).
إن عنوان الكتاب يدل على المقصد من وضعه: معنى العنوان أن الإسلام في العصر الحاضر حائر يبحث عن ثقافة يرى فيها صورة نفسه. والكتاب في معظمه تشكيك في قيمة الأدب العربي وفي قيمة الإسلام. على أن وضع هذا الملحق الثالث راجع إلى أمور منها أن الدكتور (غرونيباوم) يحمل على أحدنا (3) حملة ظاهرها غير باطنها. هذه الحملة يمكن تفنيدها وإظهار التحامل واضحًا فيها إذا اعتبرنا الأمور التالية:
أ - الدكتور (غرونيباوم) يهودي تخرج، فيما أذكر، في فْيِينَّا قبل أن أتخرج أنا في ألمانيا بعام أو عامين. ولما نشرتُ أطروحتي:" صورة الإسلام كما تبدو في الشعر العربي من الهجرة إلى وفاة عمر بن الخطاب "(4) أذكر أنه نشر عنها كلمة طيبة. ونحن لم نلتق إلى الآن قط، وإن كنت أنا أعرف كتبه، وهو فيما يبدو يعرف عددًا من كتبي. وليس من الغريب أن يكون اتجاهي في عدد من كتبي مخالف لاتجاهه في عدد من كتبه.
ب - ينتقد الدكتور (غرونيباوم) عددًا من الأقوال التي وردت في كتابي " عبقرية العرب " انتقادًا يظهر فيه التحامل وصرف الجمل عن معانيها وتشويه تلك الجمل. ولا ريب في أن الدكتور (غرونيباوم) لا يرمي إلى انتقادي شخصيًا بقدر ما يريد أن يحط من شأن النتاج العربي الإسلامي في الثقافة، كما هو ظاهر في موقفه من الجمل التي ينتزعها من كتابي ومن الجمل التي ينتزعها من أقوال غيري. ثم إن اتجاهه في كتابه دَالٌّ على ذلك.
(1) راجع الفصل العاشر.
(2)
راجع اسم الكتاب كاملاً واسم المؤلف على الصفحة 243.
(3)
الدكتور عمر فروخ.
(4)
Das Bild des Fruehislam .... Leipzig 1937
ج - يورد الدكتور (غرونيباوم)(ص 150) جملة يجمع محتواها من كتاب لمالك بنبي (بن نبي) وكتاب لطه حسين وكتاب لي، فِيمَا يَدَّعِي. الجملة غامضة جِدًّا. على أن المكان الذي يشير إليه (غرونيباوم) من كتابي " عبقرية العرب " فيه أن العرب كانوا متسامحين ومتواضعين في بذل العلم لجميع الناس على السواء؛ أما (غرونيباوم) فيذكر أن المؤلف قال ذلك بنفخة من الغرور والاستكبار، ولا أعلم أي المؤلفين الثلاثة عَنِيَ. أما أنا فإن كتابي " عبقرية العرب " قد بنيته على فكرة أثبتها في المقدمة من الطبعة العربية الثانية (ص 6 - 7)، وهي أن العرب يجب أن ينظروا من غير أن يلهيهم التحدث بمجد أسلافهم عن الانتاج المنتظر منهم. ثم إنني استشهدت في هذه المناسبة نفسها ببيت الشاعر:
أَلْهَى بَنِي تَغْلِبٍ عَنْ كُلِّ مَكْرُمَةٍ •
…
•
…
• قَصِيدَةٌ قَالَهَا عَمْرُو بْنُ كُلْثُومِ!
كأني أقرع الذين يفعلون ذلك من العرب.
د - على أن الذي كان يجب على الدكتور (غرونيباوم) أن يخجل منه ولا يغرر فيه بقرائه الشاهد التالي:
في كتابي " عبقرية العرب " مقطع عن الدور الذي قام به العرب بنقل الفلسفة من العالم اليوناني القديم إلى العالم الأوروبي في العصور الوسطى. في هذا الشاهد: «وَلَوْلَا ذَلِكَ
…
لَمَا أَمْكَنَ الغَرْبَ اللَاّتِينِيَّ الكَاثُولِيكِيَّ أَنْ يَتَّصِلَ بِالغَرْبِ اليُونَانِيِّ الأُرْثُوذُكْسِيِّ».
تناول (غرونيباوم) هذه الجملة على الصفحة 163 ثم على الصفحة 164 وفي حاشية طويلة على الصفحة 164 نفسها وَكَذَبَ عَلَيَّ كَذِبًا وَافْتَرَى عَلَيَّ اِفْتِرَاءً أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمَا. إن حملته عَلَيَّ شخصيًا في هذا الشأن، صح أو لم يصح، لا مبرر لها.
قال: «إِنَّ الإِعْجَابَ بِالنَّفْسِ لَا يَعْرِفُ حَدًّا. إِنَّ السُّنِّيَّ اللُّبْنَانِيَّ عُمَرُ فَرُّوخْ (المَوْلُودُ عَامَ 1906) يُؤَكِّدُ لِقُرَّائِهِ الذِينَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ أَفَكَارِهِ قَدْ وَصَلَتْ إِلَيهِمْ، وَبِمِثْلِ هَذَا الشَّكْلِ المُدَوِّي،
…
أَنَّ العَرَبَ بَعْدَ أَنْ رَفَعُوا عَنْ أَعَنَاقِ البَشَرِ نِيرَ المَذَاهِبِ القَدِيمَةِ
…
أَخْرَجُوا النَّاسَ مِنْ ظُلَمَاتِ الجَهْلَ. وَهُوَ لَا يَدَّعِي فَقَطْ أَنَّهُ لَوْلَا النُّقُولِ العَرَبِيَّةِ لِكُتُبِ المُفَكِّرِينَ اليُونَانِيِّينَ لَمَا اِسْتَطَاعَ الغَرْبُ أَنْ يَعْرِفَ النِّتَاجَ الهِلِينِيَّ (الثَّقَافَةَ اليُونَانِيَّةَ)، وَلَكِنْ (يَزِيدُ أَنَّهُ) لَوْلَا العَرَبُ لَكَانَ مِنَ المُسْتَحِيلِ تَمَامًا عَلَى الغَرْبِ اللَاّتِينِيَّ الكَاثُولِيكِيَّ أَنْ يَتَّصِلَ بِالشَّرْقِ اليُونَانِيِّ الأُرْثُوذُكْسِيِّ».
إن هذا الكلام، على الرغم من أنه صحيح ولا ادعاء فيه أو تبجح، ليس قولي أنا، وإنما أنا استشهدت به من كتاب للدكتور (جورج سارطون)، شيخ مؤرخي العلم في العصر الحديث. والإشارة إلى كتاب (سارطون) ظاهرة في حاشية كتابي مع أرقام الصفحات. وأنا أعتقد في الدرجة الأولى أن (جورج سارطون) الكاثوليكي أدرى بحقيقة الصلات بين العالم الكاثوليكي والعالم الأرثوذكسي من (غرونيباوم) اليهودي. ثم إن الدكتور (غرونيباوم) لو كان يريد العلم والحقيقة في انتقاده لما وجه كلماته النابية إِلَيَّ وإلى الثقافة العربية الإسلامية، بل لناقش الدكتور (سارطون) مناقشة علمية غايتها تبيان وجه الحق في هذه القضية. ولكن القضية ليست قضية علم أو حق، إنها تحامل واستعمار. إن الدكتور (غرونيباوم) قد سلك المسلك الذي أملاه عليه إيمانه وبيئته، وسأسلك أنا المسلك الذي يمليه عَلَيَّ إيماني وتمليه بيئتي. ثم إن في فضائل الإسلام والعرب ما يغنيني ويغني كل مسلم وكل عربي عن أن يكذب على التاريخ وعلى الحقيقة وعلى الحق. وكنت أود أن لو فعل الدكتور (غرونيباوم) مثل فعلي.
بيروت، الاثنين في 27 رمضان المبارك 1383 هـ - 10/ 2 / 1964 م.