الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المذهبية. فإيمان الشعوب بالحقيقة القومية إذن يصرفها عن إلقاء السمع إلى المبشرين.
التَّبْشِيرُ وَالوَطَنِيَّةُ:
ولقد خشي المبشرون النهضة الوطنية في مصر لأن القومية المصرية إسلامية في حقيقتها. ويغمط هؤلاء المبشرون مصر والمصريين حقوقهم ويخالفون الواقع بقولهم: إن الوطنية المصرية قد نشأت لأن الإنجليز كانوا يحابون المسلمين في معاملتهم فأشعل ذلك حب الاستقلال في صدورهم (1).
وإن أيسر نظرة في التاريخ تدل على أن الإنجليز لم يعاملوا المسلمين في مصر معاملة تتفق مع كرامة الشعوب، حتى قال حافظ إبراهيم عن ذلك في مصر:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَلْقَى السَّعَادَةَ بَيْنَهُمْ •
…
•
…
• فَلَا تَكُ مِصْرِيًّا وَلَا تَكُ مُسْلِمَا
فاليوناني والأرمني واليهودي الغرباء كانوا يتمتعون في مصر بأعظم مما يتمتع به المصري المسلم. وأما أن الوطنية المصرية نتاج محاسنة الإنجليز للمصريين فخلاف أيضًا للواقع.
ولقد أجفل المبشرون لما سمعوا النداء الوطني «مِصْرُ لِلْمِصْرِيِّينَ» ، فقالوا: إن هذا يعني: «مِصْرُ لِلْمُسْلِمِينَ» . ولذلك رجا المبشر (صموئيل زويمر) في ذلك الحين من بريطانيا «أَنْ تُبَدِّلَ سِيَاسَتَهَا تَبْدِيلاً أَسَاسِيًّا فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ وَأَنْ تُعْلِنَ حِيَادًا تَامًّا يُشْعِرُ مِصْرَ بِقُوَّةِ بَرِيطَانْيَا وَبِنِعَمِهَا» (2). ومعنى ذلك عند (زويمر) بلا ريب «فَتْحُ مِصْرَ لِلْتَّبْشِيرِ بِالقُوَّةِ» .
ولما خاب المبشرون في وقف تيار القومية الصحيحة عمدوا في كل بلد إلى أقلية غير مسلمة في الأكثر وحاولوا أن يضموا إليها أحيانًا نفرًا بارزًا من المسلمين، كما اتفق لهم في مصر فقط، ليلفقوا لأهل كل قطر مسلم قومية وهمية جديدة. لقد أرادوا أن يبعثوا «الفِرْعَوْنِيَّةَ» من خلال حجارة الأهرام في مصر، و «الفِينِيقِيَّةَ» من خرائب الساحل الممتد من يافا إلى اللاذقية على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. ثم إنهم لفقوا في العراق دعوة أشورية لم يكتب لها أن تولد حية (3).
إن كل ما أراده المبشر (جسب) هو أن تولد «فِينِيقِيَّةٌ» جديدة تكون فيها النصرانية أوسع انتشارًا. ولقد أكد (جسب) «أَنَّ المَدَارِسَ التَّبْشِيرِيَّةَ وَالصَّحَافَةَ شِبْهِ التَّبْشِيرِيَّةَ وَالكَنِيسَةَ سَتَتَضَافَرُ
(1) Islam and Missions 25
(2)
ibid 25 f
(3)
راجع ص 193 وما بعدها.
كُلُّهَا عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا الهَدَفِ» (1). ولكن الفينيقية لم تستطع أن ترى النور في سورية. وإذا كانت قد غذيت في لبنان طول عهد الانتداب، فإنها ماتت على عتبة الاستقلال اللبناني. هذا مع العلم بأن جماعة من اللبنانيين ما يزالون يتغنون بها.
ولا أحب أن أتوسع في تاريخ «الحَرَكَةِ الفِرْعَوْنِيَّةَ» في مصر لأنها تختلف في أساسها عن الحركة الفينيقية في لبنان في عهد الانتداب. أما «الحَرَكَةُ الأَشُورِيَّةُ» في العراق فقد كانت أقل المحاولات القومية المفرقة حَظًّا من النجاح. ولقد قضي عليها وعلى أتباعها في معركة واحدة كما مر معنا من قبل في هذا الفصل من هذا الكتاب. وأما الحركة البربرية في المغرب فلم يستجب لها أحد من أهل البلاد، بل بقيت غُصَّةً فِي حُلُوقِ المُبَشِّرِينَ وَالمُسْتَعْمِرِينَ إذ قاومها أهل تونس وأهل الجزائر وأهل مراكش بلا استثناء.
ولما لم تنتصر هذه الدعوات الإقليمية الضيقة وقع الاستعمار على فكرة العروبة وألبسها ثوبًا جديدًا. لقد أريد من «العُرُوبَةِ» أن تكون رابطة قومية مناقضة لِـ «الإِسْلَامِ» : سياسة العروبة لا صلة لها بالإسلام، والمسلمون من غير العرب لا صلة لهم بالعروبة. ومما يؤسف له أن نفرًا من الشبان العرب قد اعتنقوا فكرة العروبة المجردة من الإسلام، ثم أخذوا وهم يدعون للعروبة يقاومون الحركات الإسلامية.
(1) Jessup 597