الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَوْطِئَةٌ: وَجْهُ الحَاجَةِ إِلَى هَذَا الكِتَابِ:
لا سبيل إلى إحصاء ما كتبه المبشرون وأنصار المبشرين عن الشرق ولا عن العرب والإسلام، فإن «شترايت» و «دِنْدِنغر» (1) قد أصدرا بين عام 1916 وعام 1931 سبعة مجلدات ذَكَرَا فيها أسماء المصادر والمراجع التي تدور حول المبشرين وجهودهم وتسهيل أعمالهم. ثم إن أكثر هذه الكتب مفصلة تفصيلاً كبيرًا، فإن الرسائل التي كتبها المبشرون من سورية والشرق الأدنى فقط إلى زملائهم بين عام 1830 وعام 1842 طبعت في ثلاثة عشر مجلدًا من أصل ثمانية وثلاثين مجلدًا (2).
ولما اجتمع مؤتمر التبشير العالمي في أدنبره (في اسكوتلنده) عام 1910 أصدر تقريرًا، عن النواحي المختلفة التي يجب أن يهتم لها المبشرون، تم طبعه في عشرة مجلدات (3).
أما مؤتمر التبشير الدولي الذي اجتمع في القدس عام 1928 مدة أسبوعين فقط (من 23 آذار إلى 8 نيسان) فقد وضع تقريرًا في ثمانية مجلدات (4). وهناك عشرات من أمثال هذه الكتب والتقارير قد ظهرت كلها في مجلدات عديدة ضخمة.
وفي عام 1869 كانت أعمال مدارس التبشير الفرنسية في الشرق تقتضي أربعة مجلدات تقع في نحو ألف وخمسمائة وخمسين صفحة (5)، كما أن مدارس التبشير الإنجليزية في جبل لبنان كانت قد أصدرت تقريرًا عن أعمالها بين 1856 و 1868 - يعني في عهد فتنة سنة الستين فقط - يقع في مجلد كامل (6).
(1) Streit & j.Dindinger، Bibliotheca missionum،vol. 1 - 7 ، Mùnster &. Achen 1916 - 31.
(2)
.Missionary Herald،Letters of Missionaries in Syria & the near East 1830 - 42،Vols. 26 - 38، Boston.
(3)
World Missionary Conference of 1910، Edinburgh and New York 1910.
(4)
The International Missionary Council of Jerusalem، 8 vols." London 1928.
(5)
Oeuvres des Ecoles d'Orient، (1862 - 9)، 4 vols. st، Cloud; Belin; 1862 - 9.
(6)
Reports on the Lebanese Schools، Edinburgh 1856·68.88
أما المجلات التبشيرية التي صدرت في بلدان مختلفة وبلغات مختلفة فهي أكثر من أن يحصيها العد. أضف إلى ذلك أن ثمة في العالم كله جرائد ومجلات سياسية أو أدبية أو علمية لا تظهر عليها صبغة التبشير، ولكنها في الحقيقة وسائل قوية من وسائل المبشرين.
ومع هذا كله فليس في اللغة العربية إلى اليوم كتاب واحد يكشف النقاب عن غايات المبشرين الحقيقية وينبه على الأخطار التي يود المبشرون أن يعرضوا لها الشرف والعرب والإسلام، مع أن لهؤلاء المبشرين ألوف الكتب والكراريس يحاولون أن ينشروها بكل سبيل في طول البلاد العربية وعرضها. ثم إنهم قد ألقوا عن وجوههم القناع وأسفروا عن حقيقة غاياتهم في الكتابة عن الإسلام ورجاله وعن العرب وحياتهم، وكانوا النواة الأولى لطلائع الاستعمار السياسي والاقتصادي، يساعدهم في عملهم هذا مع الأسف نفر من أهل البلاد العربية.
ليست كتب المبشرين هي التي تقتضي وضع هذا الكتاب لكشف النقاب عن آثار تلك الأصابع الحاذقة التي تمتد إلى كل صوب في العالم الإسلامي، بل هناك المؤسسات التبشيرية، تلك المؤسسات التي تبدو في مظاهر مختلفة، بعضها واضح المعالم وبعضها الآخر بعيد عن التهمة كل البعد، كالمدارس والجامعات والمستشفيات والمياتم والأندية والجمعيات ومؤسسات البر والإحسان.
وقد أراد القائمون على التبشير أن يكون «للإحسان والتعليم» مقام كبير في الخطط التي توضع لأعمال التبشير، ولكن على أن تكون وسائل فقط لا غاية في نفسها (1). إن المبشرين يريديون إفساد الخصائص القومية في الشعوب الشرقية الإسلامية والعربية، كما يريدون إفساد خصائص البوذيين وغيرهم ممن يأبون أن يخضعوا سلطة الغربيين السياسية والاقتصادية.
ولقد ساير التبشير الظاهر بالمسيحية حركة أشد خطرًا على الأمة الإسلامية وعلى الشعب العربي، فقد نشأ في أوروبا وأمريكا نفر سَخَّرُوا أَقْلَامَهُمْ لِلْمُبَشِّرِينَ وجعلوا يطعنون العرب والإسلام ويشوهون صورتهما. إن السكوت عن هذه الافتراءات تخاذل وتقصير معيب، فيجدر بنا إذن أن نرد هذه الافتراءات وأن يفندها دفاعًا عن كياننا القومي والديني، وحفظًا لخصائصنا التي هي أهم دعائم الحياة فينا.
ويجب أن نذكر دائمًا أن المبشرين هم أصابع أممهم وعيون بلادهم، يحاولون دائمًا أن
(1) Enc. of Missions (2 ed. ed. 1904) p. 9c.
يثيروا الفتن والقلاقل في البلاد العربية والإسلامية حتى تتمكن أممهم من السيطرة علينا سياسيًا واقتصاديًا - أما من الناحية الاجتماعية والثقافية فقلما تهمهم إلا بمقدار ما تسهل لهم مهمتهم السياسية والاقتصادية.
وهذا اعتقاد لنا لسنا فيه وحدنا، بل يشركنا فيه أولئك الذي أرسلوا المبشرين إلى بلادنا. لقد عمل هؤلاء المبشرون عمدًا أو عفوًا، على إثارة سوء التفاهم والشغب. وبما أننا سنرى كثيرًا من آثار ذلك في فصل السياسة من هذا الكتاب، فسنكتفي هنا بإيراد رأي رجل أمريكي هو أستاذ التاريخ في جامعة من جامعات الولايات المتحدة نفسها، وإليك ترجمته: نشرت مجلة " العالم الإسلامي "(1) خلاصة مقال كتبه الأستاذ (إدوارد ميد أيرل)(2)، أحد أساتذة التاريخ في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، لمجلة " الشؤون الخارجية " عنوانه (3):(الإرساليات الأمريكية في الشرق الأدني)، جاء فيه:
«ماذا يمكن أن يقال الآن عن أعمال التبشير الأمريكي في الشرق الأدنى بعد قرن كامل من الدهر؟ يمكننا أن نحشد احصاءات هائلة تتعلق بملايين الدولارات وبألوف النفوس التي ضحيت في هذا السبيل. ولكن هذه أيضًا ليست هبة كافية توازي النتائج التي حققت على أيدي الإرساليات الأمريكية والمبشرين الأمريكيين في هذا المركز المهم من الشرق. إن نفرًا من هؤلاء الرجال والنساء أمثال (سيرس هملن) و (دانيال بلس)(أول رئيس للجامعة الأمريكية في بيروت) و (ماري ميلر باتريك)(4) كانوا علماء وضباط ارتباط بين الشرق والغرب. وكذلك كان نفر آخرون منهم معلمين كبارًا وأطباء محبوبين يشترط فيهم طول الأناة والصبر. إن جميع هؤلاء قد حملوا معهم من أمريكا جرأة نادرة .. لولاها لما أمكن كتابة الجزء الأول الأوفر من تاريخ الجهود الأمريكية في الشرق الأدنى. ولكن الجرأة وحدها ليست كافية، كما أن الوقت لم يحن بعد للحكم على قيمة ما حققه المبشرون عمومًا. هناك وجه واحد من هذا الموضع يجب ألا يهمل بحال من الأحوال هو أن الرأي العام الأمريكي فيما يتعلق بالشرق، قد خلقه المبشرون منذ قرن كامل. فإذا كان الرأي العام الأمريكي قد طويت عنه بعض المعلومات أو غذي بمعلومات خاطئة أو دفع إلى موقف عدائي، فإن المبشرين هو الملومون في أكثر ذلك، لأن النظر إلى التاريخ على أساس انتشار النصرانية
(1) Moslem World ; jan. 1940. 71 - 72.
(2)
Edward Meadle Earle; Associate Proessor of History at Colombia University.
(3)
إن مجلة الشؤون الخارجية Foreign Affairs من المجلات الرصينة في الولايات المتحدة، وهي تبحث في الشؤون الاجتماعية الدولية من ناحيتيها العلمية والقانونية.
(4)
Cyrus Hamlin; Daniel Bliss. Mary Mills Patrick.
وقد حمل هؤلاء المبشرين على أن يقدموا لنا في الولايات المتحدة صورة ناقصة مشوهة أو ساخرة في بعض الأحيان للمسلمين وللإسلام. وبينما كان المبشرون يرمون في تبشيرهم إلى التسامح كانوا أحيانًا ومن غير أن يشعروا يزرعون بذور سوء التفاهم. وكذلك حينما جاء المبشرون إلى تصوير أحوال الإمبراطورية العثمانية، يوم كانت الإمبراطورية العثمانية، عجزوا عن أن يشيروا إلى أن الآلام التي تَحْتَمِلُهَا الأقليات المسيحية قد تَحَمَّلَهَا أَيْضًا المواطنون الأتراك كلهم (1). فإذا كان الفلاح الأرمني قد تعرض لغارة كردية، فكذلك كان شأن الفلاح التركي. وإذا أرهق الفلاح البلغاري بالضرائب، فكذلك كانت حال الفلاح التركي. وعدا ذلك فإن التركي وحده (يقصد: المسلم)، ظل إلى عام 1909 مجبرًا على الخدمة العسكرية بينما كان المسيحي مُعْفَى منها لقاء ضريبة ضئيلة يدفعها. ولكن بما أن المبشر قد حذف كثيرًا من الخصائص والحقائق من الصورة التي رسمها للإمبراطورية العثمانية يومذاك، فإن الشعب الأمريكي لا يستطيع أن يميز، من النظر إلى هذه الصورة التي وصلت إليه، وبين الظالم والمظلوم. إن الشعب الأمريكي لم يكن عالمًا أن المسلمين والنصارى قد تألموا - على السواء - في الحياة تحت حكم إمبراطوري فاسد».
«ولقد لجأ المبشرون - كما يستطيعون أن يجمعوا الأموال - إلى استغلال حقائق ناقصة، وكذلك أخذت تفعل بعض جمعيات الإغاثة منذ زمن قريب. فنتج من ذلك أن العقل الأمريكي قد حيل بينه وبين الحقيقة الواضحة، وهي أن سكان الشرق الأدنى قد كانو ضحايا كوارث واحدة بقطع النظر عن جنسياتهم وأديانهم
…
».
ولا حاجة إلى التعليق على رأي صريح هذه الصراحة، واضح هذا الوضوح (2).
ومن المبشرين نفرٌ يشتغلون بالآداب العربية والعلوم الإسلامية أو يستخدمون غيرهم في سبيل ذلك، ثم يرمون كلهم، مما يكتبون، إلى أن يوازنوا بين الآداب العربية والآداب الأجنبية، أو بين العلوم الإسلامية والعلوم الغربية (التي يعدونها نصرانية، لأن أمم الغرب تدين بالنصرانية) ليخرجوا دائمًا بتفضيل الآداب الغربية على الآداب العربية الإسلامية، وبالتالي إلى إبراز نواحي النشاط الثقافي في الغرب وتفضيلها على أمثالها في تاريخ العرب والإسلام. وما غايتهم من ذلك إلا خلق تخاذل روحي وشعور بالنقص في نفوس الشرقيين
(1) يستعمل الكاتب كلمة «أتراك» ويعني بها «المسلمين» .
(2)
لما نقدت مجلة " العالم الإسلامي " هذا الكتاب حاولت أن تتأول ما فيه، ولكن لم يستقم لها التأويل The Muslim World، Oct. 1953. p. 304.
وحملهم من هذه الطريق على الرضا بالخضوع للمدنية المادية الغربية (1).
وإذا كان ثمة نفر قليلون جاءوا إلى الشرق للتبشير فحسب، وهم مقتنعون شخصيًا بالناحية الدينية، فإنهم في الدرجة الأولى مخطئون لأنهم لم يأتوا إلينا بقيمة روحية واجتماعية أسمى مما عندنا - ولا مثلها. ثم إنهم قد وضعوا أنفسهم في أيدي رجال الاستعمار السياسي والاقتصادي يستخدمونهم كيف شاءوا، وعلى غير علم منهم في بعض الأحيان.
• • •
ولقد صبر الشباب العربي المسلم على هؤلاء المبشرين وعلى أنصارهم المحليين، مع كل ما تعرض به هؤلاء المبشرون للكرامة الشرقية والعربية والإسلامية في جميع نواحي حياتنا الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والأدبية - وخصوصًا في الحقبة المتأخرة. لقد كان علينا أن نسكت عن هؤلاء لأننا في نزاع سياسي مع الغرب، ولأن هؤلاء عيون الغرب وآذانه وأصابعه أيضًا. إننا نسعى إلى هدف سام كبير لا نستطيع الحصول عليه إذا أغضبنا الغرب مباشرة. ومن أجل ذلك كان من المحتوم علينا أن نُغْضِيَ عن أولئك الأنصار الذين باعوا أنفسهم للمستعمر فجعلهم مطية إلى استعباد بلادهم وإلى إذلال إخوانهم في الدار وفي النسب أحيانًا.
أما الحجة الكبرى التي حملنا بها أنفسنا على السكوت وعلى الظهور بهذا الحلم الذي لا مثيل له في طباع غيرنا من البشر، فهو أن عددًا عديدًا من إخواننا في الدار قد نذروا أنفسهم أيضًا لما نذرنا نحن أنفسنا له، وكانوا على الأجنبي واستعماره أشد منا نحن أحيانًا، لأن المستعمر قد أتي في ذلك من حيث لا يحتسب. على أن حلمنا كان يجب أن ينتهي لسببين اثنين، أولهما أن هذا النفر الكريم قد بدأ يحمل اضطهادًا أكثر من الذي نحتمله نحن. وثاني السببين أن النفر الذين باعوا أنفسهم للمستعمر، وأنصارهم معهم، ما زالوا يظهرون بمظهر المتحدي في حقل الاجتماع والوطن، وفي كل حقل آخر. ولقد كان هؤلاء لا يهمهم دينهم لأنهم قليلو الاحتفال بمبادئه، بل كان يهمهم إرضاء النفوذ الأجنبي، لأنهم كانوا يرتزقون منه رزقًا حسنًا (2).
(1) راجع الفصل العاشر.
(2)
راجع مجلة " الأنباء "، لسان حال الحزب التقدمي الاشتراكي (بيروت)، لصاحبها كمال جنبلاط، وخصوصًا العدد 69، السنة الثانية (7 تشرين الثاني 1952).