الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقطع المؤلفان السائحان الحدود بين لبنان وسورية فسجلا التعليق التالي (1):
ولم يشأ هذان السائحان أن يغادرا لبنان قبل أن يخصا أرزه والبطريرك الماروني بملاحظة نابية. قالا (3): «يَجِبُ أَلَاّ يُقَالُ: إِنَّنَا تَرْكَنَا لُبْنَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَرَى أَرُزَّهُ. إِنَّ الأَرُزَّةَ شِعَارُ البِلَادِ، عَلَى قُبَّعَاتِ الشُّرْطَةِ وَعَلَى العَلَمَ. إِنَّهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ إِلَاّ فِي الإِحْرَاجِ. يا خَيْبَةَ الأَمَلِ، إِنَّ الأَرُزَّاتِ التِي يَفْتَخِرُونَ بِهَا كَثِيرًا تَبْلُغُ أَرَبْعِينَ وَتَتَجَمَّعُ فِي أَعَالِيِ جَبَلٍ مَرْشُوشٍ بِالثَّلْجِ. إِنَّ أَرُزَّنَا المَرَّاكُشِيَّ فِي " أَزُورْ " أَقَلُّ قَدَاسَةً وَلَكِنَّهُ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي الرَّائِينَ» .
في أثناء الانتداب أرادت فرنسا أن تمنع القرويين من أن يسيموا عنزهم في تينك الغيضتين الأخيرتين من شجرات الأرز الباقية على قيد الحياة. ولقد لجأت فرنسا إلى رؤساء الدين المحليين لمساعدتها على ذلك. وبعد ستة أشهر جاء موظف فرنسي إلى البطريرك الماروني يسأله عن مدى التقيد بالقوانين (التي فرضت لحماية الأرز). فأجابه البطريرك قائلاً: «إِنَّهُ تَقَيُّدٌ تَامٌّ، يَا كَابِتِينْ، سِوَى أَنَّ المُعَزَّى الأُرْثُوذُكْسْ لَا تُرِيدُ أَنْ تَسْمَعَ وَلِذَلِكَ هِي تُصِرُّ عَلَى قَضْمِ الأَغْصَانِ» {انتهى قول (بيار) و (رينيه غوسيه)} .
اِسْتِفْزَازٌ وَقِلَّةُ ذَوْقٍ:
ولقد قام الفرنسيون خاصة في مناطق نفوذهم بأعمال تبشيرية استعمارية كلها استفزاز وقلة ذوق. وكان التعاون بين فرنسا وبين اليسوعيين وَالبَابَا تَعَاوُنًا وَثِيقًا جِدًّا.
(1) ص 74، 75.
(2)
في البيئة الشعبية، غير الغنية وغير المثقفة تثقيفًا رفيعًا.
(3)
p. 97
من هذه الأعمال حادث جنينة رسلان وقد مرت الإشارة إليه (1) وكيف أن اليسوعيين اِحْتَمَوْا بحراب الفرنسيين وذهبوا إلى بلاد العلويين - وهي بقعة من الجمهورية السورية - وحملوا نفرًا من أهل البلاد على إعلان انتسابهم إلى المذهب الكاثوليكي بالقوة (2).
على أن الضغط الفرنسي زال عن العلويين بعد زوال انتدابهم على سورية ولبنان عام 1943، وتنفسنا نحن الصعداء.
ولما فقدت فرنسا نفوذها في الجمهورية السورية، بعد أن عادت بلاد العلويين إلى الوطن الأم، ثم جلت جنود الاحتلال عن البلاد كلها، لم تنس فرنسا سياسة خلق المشاكل في البلاد فأثارت سليمان المرشد.
سليمان المرشد رجل إقطاعي شجعه الفرنسيون على أن يدعي الألوهية، ولذلك تسمى بـ " الرب " وأخذ يعامل قومه العلويين على هذا الأساس. ثم تطوح فجعل ينهب ويسلب ويقتل حتى ألقت الحكومة السورية القبض عليه وأدانته (بما ارتكبه من حوادث سلب وقتل) وشنقته: لقد أراد اليسوعيون أن يصنعوا إلهًا يوهن قوى الدولة السورية الناشئة ولكنهم جَنَوْا على رجل ثم قادوه إلى المشنقة. وهكذا ماتت بموت سليمان المرشد آمال اليسوعيين والفرنسيين في بلاد العلويين إلى الأبد.
ولقد استغل الفرنسيون الدين في جميع أشكاله، وساعدهم اليسوعيون خاصة على ذلك. في عام 1930 أراد البابا أن يقيم عيدًا لمناسبة مرور ألف وستمائة سنة على موت (القديس أغسطينوس). ولكنه أراد أن يكون لهذا العيد طابع خاص، فاختار أن يدعو إلى مؤتمر أفخارستي (3) في مدينة قرطاجنة (قرب تونس)، لأن (القديس أغسطينوس) كان من البربر، ومن تلك الناحية.
ومع أن إقامة هذا العيد من حق الكنيسة تقيمه متى شاءت، فإن اقترانه بانعقاد مؤتمر أفخارستي (مسيحي) في بلد كل أهله مسلمون يدل على كثير من قلة اللياقة. على أن تونس المستعبدة يومذاك قد أجبرت على قبول ذلك وعلى أن تدفع أيضًا من خزينتها الحالية مليونين من الفرنكات، يوم كان الفرنك لا يزال يساوي قرشًا من الذهب، وعلى أن تقبل بوضع الأَسِرَّةِ فِي المَسَاجِدِ ليرقد عليها الرهبان الذين جاءوا من أطراف الأرض ليعلنوا حربًا
(1) راجع صفحة 53 وما بعدها.
(2)
cf. Les Jésuites en Syrie 10 : 35، 11 : 27
(3)
المقصود بالمؤتمر الأفخارستي: اجتماع كاثوليكي عام يجتمع فيه الكهان والعوام وينصبون مذبحًا بالعراء (خارج الكنائس) للقيام بالعبادة.
صليبية جديدة في بلد مسلم. ولما أراد بعض الشباب التونسيون أن يحتجوا على هذه الأعمال المنافية لكل ذوق، فوق ما فيها مِنْ تَحَدًّ للشعور الديني والقومي والإنساني، لم تتورع فرنسا عن أن تقبض على هؤلاء وتزجهم في السجون لتتيح للمؤتمر الأفخارستي أن ينعقد بكل صخب استعماري في جو من الهدوء (1).
هذا المقطع الناري ليس لنا نَحْنُ المُؤَلِّفِينَ المُسْلِمِينَ [العُرُوبِيِّينَ] بل هو لرجل فرنس مسيحي كما ترى في الحاشية.
وما دمنا نتكلم على تونس في شمال أفريقيا فلنقل كلمة على الظهير البربري (2).
في الوقت الذي كان المؤتمر الأفخارستي ينعقد في تونس، كانت فرنسا تقوم في مراكش بعمل مماثل من حيث النتائج الدينية الاستعمارية:
في 15 أيار عام 1930 أجبرت فرنسا سلطان مراكش الشاب على أن يصدر ظهيرًا (مَرْسُومًا) ينص على أن يكون للقبائل المراكشية التي هي من أصل بربري نظام قضائي خاص، أو على الأصح نظام شرعي خاص، فلا تسري عليهم قوانين الشرع الإسلامي بل قواعد العرف العشائري البربري.
وكان من الطبيعي أن يثور المراكشيون كلهم على ذلك، فمشى العرب والبربر وسكان المدن وسكان القرى والبوادي على السواء مشية الرجل الواحد احتجاجًا على هذا الافتراء وعلى هذا التفريق في الشرع بين المسلمين أنفسهم.
إن المظالم التي ترتكبها فرنسا في المغرب باسم الحرية (3) لهي أكثر من أن تذكر. ثم هي تستوحي الفاتيكان (مَقَرُّ بَابَا رُومِيَّةَ) سياستها الدينية لتثبت بها أقدامها في مستعمراتها. وهذا يقضي عليها بأن تعاضد الرهبان والمبشرين في حملتهم على كل بلد مستقل وعلى المسلمين خصوصًا.
وهكذا نرى بكل وضوح أن الإرساليات الدينية كانت دائمًا ستارًا لتغلغل الاستعمار في الشرق. يخبرنا (هنري جسب)(4) «أَنَّ المُبَشِّرِينَ اِسْتَغَلُّوا جُهُودَهُمْ لِخِدْمَةِ دُوَلِهِمْ وَأَذْكَوْا [نَارَ] العَدَاوَةِ فِي الذِينَ كَانُوا يُبَشِّرُونَ بَيْنَهُمْ، فَقَدْ كَانَ القَائِمْقَامْ المَارُّونِيُّ فِي لُبْنَانَ (الأَمِيرُ حَيْدَرْ أَبِي اللُّمَعِ) يَضُمُّ جُهُودَهُ إِلَى جُهُودِ البَطْرِيَرْكِ المَارُّونِيِّ وَالقُنْصُلِ الفِرَنْسِيِّ العَامَّ لِوَضْعِ لُبْنَانَ تَحْتَ نُفُوذِ الإِكْلِيرُوسْ (رِجَالُ الدِّينِ المَسِيحِيِّ) لِلْوُصُولِ إِلَى جَعْلِ جَمِيعِ الكَاثُولِيكْ فِي سُورِيَّةَ تَحْتَ نُفُوذِ فِرَنْسَا. وَكَانَ عَمَلُ (الأَمِيرِ حَيْدَرَ) يَصْدُرُ عَلَى مَا يَظْهَرُ عَنْ
(1) Jung 39 ss
(2)
cf. Jung 46 ss
(3)
الكلام يتناول العهد الذي سبق استقلال تونس والمغرب والجزائر.
(4)
Jessup 160 - 164
اِقْتِنَاعٍ، حَتَّى أَنَّهُ أَعْلَنَ أَنَّ فِرَنْسَا سَتَحْتَلُّ يَوْمًا مَا لُبْنَانَ بِجَيْشِهَا» (1).
ولقد كتب المبشر (هنرى جسب) هذه الجملة في كتابه المطبوع عام 1910 قبل أن تحتل فرنسا لبنان بثماني سنوات.
والفتن التي أثارها الاستعمار باسم الدين في بلاد العرب خاصة كثيرة جِدًّا، منها فوق ما تقدم، ثورة التياريين في العراق، أو ثورة الأشوريين.
الأثوريون أو الأشوريون: طائفة مسيحية تعيش شمالي العراق. ولكن المؤرخ المدقق السيد عبد الرزاق الحسني يرى أن هؤلاء على الرغم من أنهم يعرفون باسم «الأَشُورِيِّينَ» . فإنهم لا صلة لهم بالأشوريين الذين سكنوا العراق قبل الميلاد، بل هم طائفة غريبة دخيلة حاك لها المستعمر هذه الأسطورة (2) وخلع عليها هذه التسمية.
ولقد تمرد الأشوريون على الدولة العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى بإثارة روسيا لهم فأدبتهم الدولة العثمانية وأخرجتهم من بلادها. ولكن ما كادت الحرب العالمية الأولى تنشب حتى تطوع عشرون ألفًا منهم في الجيش الإنجليزي.
«وَلَمَّا اِنْدَلَعَ لَهِيبُ الثَّوْرَةِ العِرَاقيَّةِ الكُبْرَى فِي صَيْفِ 1920 وَقَامَ العِرَاقِيُّونَ يُنَادُونَ بِاسْتِقْلَالِ بِلادِهِمْ، كَانَ التَّيَّارِيُّونَ (الأَشُورِيُّونَ) يُقَاتِلُونَ أَبْنَاءَ البِلَادِ فِي صُفُوفِ الإِنْجْلِيزْ قِتَالاً مُسْتَمِيتًا وَيَنْتَقِمُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ اِنْتِقامًا صَارِمًا لَا مُبَرِّرَ لَهُ وَلَا سَبَبَ» (3)، وكانوا يتجسسون للعدو على وطنهم (4). والسيد عبد الرزاق الحسني على حق حينما ذكر أن الإنجليز أرادوا من إسكان التياريين (الأشوريين) في العراق وضع أقلية مسيحية يستغلونها في مقاومة تركيا المسلمة ويهددون بها استقلال القطر العراقي الناشئ (5).
ولقد وافقه على ذلك (س. م. موريسون)، فجعل تبعة ثورة الأشوريين على عاتق عصبة الأمم أو على عاتق الحكومة البريطانية (6). ولقد استطاع العراق أن يقضي على كل أمل لهؤلاء التياريين بإنشاء دولة شمالي العراق أو «وطن قومي» . ولم تكن إنجلترا تريد من إسكان الأشوريين في العراق إلا ما أرادت من إسكان اليهود في فلسطين. ولما لم تستطع
(1) ibid
(2)
" تاريخ الوزارات العراقية ": 3/ 144.
(3)
" تاريخ الوزارات العراقية ": 3/ 145.
(4)
" تاريخ العراق السياسي الحديث ": 3/ 294.
(5)
راجع " تاريخ الوزارات العراقية ": 3/ 145 وما بعدها.
(6)
MW، Apr. 35، 128