الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن حوشب بن عقيل قال: سمعت يزيد الرقاشي يقول لما حضره الموت: قال تعالى: (كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنّمَا تُوَفّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185] ألا إن الأعمال محضرة، والأجور مكملة، ولكل ساع ما يسعى، وغاية الدنيا وأهلها إلى الموت. ثم بكى وقال: يا من القبر مسكنه، وبين يدي الله موقفه، والنار غدا مورده، ماذا قدمت لنفسك؟ ماذا أعددت لمصرعك؟ ماذا أعددت لوقوفك بين يدي ربك؟
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن درست القزاز قال: لما احتضر يزيد الرقاشي بكى، فقيل له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: «أبكي والله على ما يفوتني من قيام الليل، وصيام النهار. ثم بكى وقال: من يصلي لك يا يزيد؟ ومن يصوم؟ ومن يتقرب لك إلى الله بالأعمال بعدك؟ ومن يتوب لك إليه من الذنوب السالفة؟ ويحكم يا إخوتاه، لا تغترن بشبابكم، فكأن قد حل بكم ما حل بي من عظيم الأمر وشدة كرب الموت. النجاء النجاء، الحذر الحذر يا إخوتاه، المبادرة رحمكم الله»
(بكاء عبد الرحمن بن الأسود حين حضرته الوفاة:
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن الحكم قال: لما احتضر عبد الرحمن بن الأسود بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: «أسفا على الصوم والصلاة. قال: ولم يزل يقرأ القرآن حتى مات. قال: فرئي له أنه من أهل الجنة. قال: وكان الحكم يقول: ولا يبعد من ذاك، لقد كان يعمل نفسه مجتهدا لهذا، حذرا من مصرعه الذي صار إليه»
(بكاء إبراهيم النخعي حين حضرته الوفاة:
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن سفيان الثوري، عن رجل قال: لما احتضر إبراهيم النخعي بكى؛ فقيل له: ما يبكيك؟ قال: «أنتظر رسل ربي: إما لجنة وإما لنار»
(سكرات الموت:
إن للموت ألماً لا يعلمه إلا الذي يعالجه ويذوقه، فالميت ينقطع صوته، وتضعف قوته عن الصياح لشدة الألم والكرب على القلب، فإن الموت قد هد كل جزء من أجزاء البدن، وأضعف كل جوارحه، فلم يترك له قوة للاستغاثة أما العقل فقد غشيته وسوسة، وأما اللسان فقد أبكمه، وأما الأطراف فقد أضعفها، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح، ولكنه لا يقدر على ذلك، فإن بقيت له قوة سمع له عند نزع الروح وجذبها خوار وغرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه، وأزبد، ولكل عضو من أعضائه سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى تبلغ روحه إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، وتحيط به الحسرة والندامة إن كان من الخاسرين، أو الفرح والسرور إن كان من المتقين.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الأنبياء والمرسلين وخير البشر أجمعين يعاني من سكرات الموت وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة، أو: علبة فيها ماء - يشك عمر - فجعل يدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه، ويقول:(لا إله إلا الله، إن للموت سكرات). ثم نصب يده فجعل يقول: (في الرفيق الأعلى). حتى قبض ومالت يده.
السكرات: هي الشدائد والكربات.
(حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) قالت: مَا أَغْبِطُ أَحَدًا بِهَوْنِ مَوْتٍ بَعْدَ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ النبي صلى الله عليه وسلم.
وتشديد الله تعالى على أنبيائه عند الموت رفعة في أحوالهم، وكمال لدرجاتهم، ولا يفهم من هذا أن الله تعالى شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة والمخلطين، فإن تشديده على هؤلاء عقوبة لهم ومؤاخذة على إجرامهم، فلا نسبة بينه وبين هذا.
(ولقد وصف لنا القرآن الكريم الشدة التي يعاني منها الكفرة عند الموت فقال عز من قائل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
قال الله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أي: في سكراته وغمراته وكُرُباته.
{وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} أي: بالضرب كما قال: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي [مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ]} (3) الآية [المائدة: 28]، وقال:{وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} الآية [الممتحنة: 2].
وقال الضحاك، وأبو صالح:{بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} أي: بالعذاب. وكما قال [تعالى](4){وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50]؛ ولهذا قال: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} أي: بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم؛
ولهذا يقولون لهم: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنَّكال، والأغلال والسلاسل، والجحيم والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصى وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم:
{أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ [وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} أي: اليوم تهانون غاية الإهانة، كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرسله.
{وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ} أي: من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا
{وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس".
وقال الحسن البصري: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَج فيقول الله، عز وجل، [له](1) أين ما جمعت؟ فيقول يا رب، جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول: فأين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئا، وتلا هذه الآية:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في [الدار] الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان، ظانين أن تلك تنفعهم (3) في معاشهم ومعادهم إن كان ثَمَّ (4) معاد، فإذا كان يوم القيامة تقطعت الأسباب، وانزاح الضلال، وضل عنهم ما كانوا يفترون، ويناديهم الرب، عز وجل، على رءوس الخلائق:{أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] وقيل (5) لهم {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء: 92، 93]؛ ولهذا قال هاهنا: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} أي: في العبادة، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم.
ثم قال تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} قُرئ بالرفع، أي شملكم، وقُرئ بالنصب، أي: لقد انقطع ما بينكم من الوُصُلات والأسباب والوسائل
{وَضَلَّ عَنْكُمْ} أي: وذهب عنكم