المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحكمة والموعظة الحسنة - كلمات مضيئة في الدعوة إلي الله

[محمد علي محمد إمام]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌مقدمة

- ‌البشارة بالرسول الخاتم صلى الله عليه وسلموأمته فى الكتب المتقدمة

- ‌الإعدادلبعثة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم

- ‌إمام الدعاة صلى الله عليه وسلميتحدث عن نفسه

- ‌الحبيب صلى الله عليه وسلميصفه أصحابه

- ‌الجاهلية الأولىوالحاجة إلى بعثة نبى

- ‌موازنةبين الجاهلية الأولى وجاهلية اليوم

- ‌إفتقار العباد إلى الهداية

- ‌ميادين الهداية

- ‌منعلامات الهداية

- ‌وجوب الدعوة إلى الله عز وجلعلى الأمة المحمدية فى ضوءالكتاب والسنة

- ‌عظم المسئولية

- ‌الإحساس بمسئولية الدعوة

- ‌بعثة المسلم

- ‌عالمية الرسالة والدعوة

- ‌شرفالأمة المسلمة وعزها

- ‌رحماء بينهم

- ‌الدين النصيحة

- ‌وتعاونوا

- ‌ أنصر أخاك

- ‌حقائق فى الدعوة إلى الله

- ‌منمرتبة الحسن إلي الأحسن

- ‌الموعظة فى آيات

- ‌أحوال الناس أمام الدعاة

- ‌من أنوار القرآن

- ‌القدوة

- ‌الحكمة والموعظة الحسنة

- ‌من الصفاتالتى يجب أن يتحلى بها الداعىإلى الله

- ‌بركات الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى

- ‌عاقبةترك الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى

- ‌الله جل جلالهيحذر هذه الأمة من ترك الدعوة إلى الله

- ‌لماذا يتكررقصص الأنبياء فى القرآن

- ‌هل تجب الدعوة إلى الله عز وجلعلى المقصر

- ‌مع آية الخيرية

- ‌شروط إنكار المنكر

- ‌الباعث علىالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

- ‌نصاب جهد الدين

- ‌هل تقدم الدعوة على القتال

- ‌هل هناك فرقبين لفظ الجهاد ولفظ الدعوة

- ‌ما هى مراتب الجهاد

- ‌الرباط

- ‌أقوالالسلف فى آية المجاهدة

- ‌مزاجالنبوة فى الدعوة إلى الله

- ‌مقصد الأمة

- ‌النبوة والخلافة والنيابة

- ‌العقيدة أولاً أم الحاكمية

- ‌هل ننصر بدون الدعوة

- ‌الدعوة طريق العودة

- ‌الداعى إلى الله مؤيد من الله

- ‌إيمان الجند سبيل النصر

- ‌الأفراح

- ‌الابتلاءطريق الدعاة إلى الله

- ‌صيحة إلى كل داعى

- ‌ما هو الترقى

- ‌قطوفمن بستان الدعوة إلى الله

- ‌الدين

- ‌وصية الصديق رضي الله عنه

- ‌وصية جندب رضي الله عنه

- ‌أذهله أمر آخرته

- ‌عبرة

- ‌صلاح الأحوال

- ‌المنافع مع الدين الكامل

- ‌الحقائق الغيبية

- ‌التكاليف والأوامر

- ‌مصحة إيمانية

- ‌هل أنت مؤمن

- ‌من أجود جوداً

- ‌سنة الحركة والترك

- ‌من جميل ما يروى فى الحلم

- ‌حديث قدسى

- ‌رسالة عبد الله بن المباركإلى فضيل ابن عياض

- ‌جهد الأعلى وجهد الأدنى

- ‌الأسباب للاختبار والامتحان

- ‌هل نترك الأسباب

- ‌الجهد سبباً للورع والتقوى

- ‌عاطفة نشر الدين

- ‌الصفات

- ‌صفة الإتباعمحمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌صفة الصلاةذات الخشوع والخضوع

- ‌العلم الحقيقي

- ‌الفقه

- ‌مقصود العلم إحياء الإسلام

- ‌الدعاة هم أولياء الله عز وجل

- ‌الذكر

- ‌الإيثار والإكرام

- ‌تصحيح النيةوإخلاصها لله عز وجل

- ‌الدعوة إلى الله عز وجلوالتضحية لدين الله عز وجل

- ‌ملخص الصفات الطيبة

- ‌المحبة

- ‌أيها الدعاة إلى اللهأخلصوا

- ‌من أفواه الدعاة

- ‌الدعوة مصنع الرجال

- ‌رجال أدهشوا التاريخ

- ‌الدعوة إلى اللهمن البداية إلى النهاية

- ‌حال العالم قبل ظهور الأمة المحمدية:

- ‌ظهور الأمة المحمدية:

- ‌وهل بعثت الأمة للتجارة

- ‌وهل بعثت الأمة للصناعة

- ‌وهل بعثت الأمة لتنضم إلى الحكومات

- ‌وهل بعثت الأمة للتوسع في الشهوات والملذات

- ‌ وهل تريد ملكا

- ‌لقد بعثت الأمة لغرض سام جداً

- ‌في أي مكان ظهرت هذه الأمة

- ‌مجابهه قريش لها:

- ‌ غزوة بدر وبيان مهمة الأمة:

- ‌شرط بقاء الأمة:

- ‌ربعي بن عامر رضي الله عنه يبين لرستم قائد الفرس مقصد بعثة الأمة:

- ‌عتاب الله لمن تلكأ عن المهمة:

- ‌حال الأمة اليوم:

- ‌حجة ظاهرة علي المسلمين:

- ‌لماذا كتب الله لنا الخلود والظهور

- ‌ تخلف الأمة عن الأمم المعاصرة:

- ‌ما الذي يقهر المادة

- ‌العالم بأسرة ينتظر رسل المسلمين:

- ‌انحراف المسلمين عن المثل الكامل:

- ‌ماذا كان يفعل الصحابة إذا أسفر النهار

- ‌ماذا إذا أذن المؤذن

- ‌مجالس الذكر والعلم:

- ‌حال القراء

- ‌المعرفة بالحلال والحرام:

- ‌التبليغ:

- ‌الحب .. التضحية .. الإيثار:

- ‌وضع كل شيء في محله:

- ‌ماذا لو نادي منادي الجهاد:

- ‌يسيحون في الأرض:

- ‌كيف السبيل إلى عودة هذه الحياة:

- ‌الكلمة وتغيير منهاج الحياة:

- ‌وما الذي يساعد علي التغيير

- ‌الصلاة:

- ‌العلم:

- ‌الذكر:

- ‌الدعوة والتبليغ:

- ‌الخروج في سبيل الله:

- ‌الشيخ إلياس وفكرة في الإصلاح:

- ‌تأسيس المدارس والكتاتيب:

- ‌الفرق بين المعلمين والمرسلين:

- ‌فراسة إيمانية:

- ‌النتيجة والثمرة:

- ‌وقبل الختام

- ‌الختام

- ‌المراجع

الفصل: ‌الحكمة والموعظة الحسنة

‌الحكمة والموعظة الحسنة

قال الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (1).

وقال الله سبحانه وتعالى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (2).

قال الحافظ ابن حجر فى الفتح: أصح ما قيل فى الحكمة هى وضع الشىء فى محله. أ. هـ.

(1) يقول الإمام القرطبى: نزلت هذه الآية (ادع إلى سبيل ربك) بمكة المكرمة فى وقت الأمر بمهادنة قريش وأمره أن يدعو إلى الله بتطلف ولين دون مخاشنة وتعنيف وهكذا ينبغى أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. (الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة النحل).

والموعظة الحسنة: فى اللغة التذكير والنصح.

قال ابن سيده: هى تذكيرك الإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب

.

وقال صاحب المنار: الوعظ والنصح والتذكير بالخير والحق على الوجه الذى يرق له القلب وتنبعث فيه الرغبة للعمل الصالح. (تفسير المنار- 2/ 404).

وقال الشيخ عبد الواحد (أحد علماء الدعوة بباكستان): الموعظة الحسنة هى الكلام بين الحزن والشفقة. والموعظة الحسنة لون من ألوان الحكمة ومظهر من مظاهرها.

(2)

سورة البقرة - الآية 269.

ص: 129

والحكمة: هي نور يقذفه الله سبحانه وتعالى فى قلب العبد على قدر التضحية وهى عطاء من الله عز وجل قال الله سبحانه وتعالى {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُف} (1) أى علمناه الحكمة بوضع صواع الملك فى وعاء أخيه ويبدأ بالتفتيش بوعاء الآخرين، فمن أوتى الحكمة فقد أوتى خيراً كثيرا ومن حرمها فقد حرم خيراً كثيراً.

والحكمة: تحتاج إلى تمرين وتدريب وتعليم وصحبة ممن سبقوك فى الدعوة بالصبر والتحمل وغض الطرف عن أخطائهم كما فى قصة موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام، فلو صبر عليه لتعلم منه الكثير والكثير، قال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (2).

والحكمة: تحتاج إلى دراسة وتحليل لحياة الأنبياء عليهم السلام فى الدعوة إلى الله، وكذلك أتباع الأنبياء عليه السلام والأمثلة كثيرة منها:

(1) سورة يوسف – من الآية 76.

(2)

سورة السجدة – الآية 24.

ص: 130

انظر إلى حكمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لما مر سعد بن عبادة بأبى سفيان بن حرب فى كتيبة الأنصار قال له: اليوم يوم الملحمة .. اليوم تستحل الحرمة .. اليوم أذل الله قريشاً .. فلما حاذاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتيبته شكا إليه ذلك أبو سفيان قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تسمع ما قال سعد .. ؟ قال صلى الله عليه وسلم: وما قال؟ قال: كذا وكذا

فاستنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة سعد وقال: بل اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشاً ويعظم الكعبة، فأرسل إلى سعد فنزع منه اللواء ودفعه إلى قيس ابنه ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد إذ صار إلى ابنه (1).

يقول أبو الحسن الندوى: ولم يزد الرسول صلى الله عليه وسلم الملهم أن أبدل حرفاً بحرف وأباً بابن، فعالج نفس أبى سفيان المكلومة وكان فى حاجة إلى تأليف القلب من غير أن يسيئ إلى سعد صاحب سوابق فى الإسلام (2).

وتجلت حكمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم حنين فقسمها فى المهاجرين من الطلقاء ولم يعط الأنصار شيئاً. فقالت الأنصار: إذا كانت الشدائد فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنصار فجمعوا فى حظيرة فخطب خطبة عظيمة قال فيها .. ألم آتكم ضُلالاً فهداكم

(1) زاد المعاد – 2/ 260.

(2)

السيرة النبوية - لأبي الحسن الندوى.

ص: 131

الله بى، وعالة فأغناكم الله بى، وأعداء فألف الله بين قلوبكم .. ؟ قالوا: لله ولرسوله المنَّ.

ولما سكتوا قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار:

قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله. لله ولرسوله المن والفضل.

قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتكم. آتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك. ثم انعطف عليهم بكلمة فيها الثقة.

فقال: أوجدتم علىًّ يا معشر الأنصار فى أنفسكم فى لعاعة (1) من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم.

ثم قال كلمة لم يتمالكوا أمامها فانفجر الإيمان والحنان فى نفوسهم وتدفق قال: ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فو الذى نفس محمدٌ بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً ووادياً لسلكت شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار والناس دثار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار

(1) لعاعة: نبات ناعم أخضر قليل البقاء، يعنى أن الدنيا كالنبات الأخضر قليل البقاء.

ص: 132

، وبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً (1).

فانظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداوى الجراح ويداوى النفوس ويأتيه

الرجل يستأذنه فى الزنا ويستأذن ممن .. ؟ من رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأمام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فعن أبى أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شاباً أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لى بالزنا. فأقبل عليه القوم وزجروه. وقالوا مه مه. فقال: ادنه. فدنا منه قريباً قال: فجلس. قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك. قال والناس لا يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله يارسول الله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلنى الله فداك. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله يارسول الله جعلني الله فداءك. قال ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك اليوم الفتى

(1) حياة الصحابة، باب صبر الانصار عن اللذات الدنيوية والأمتعة الفانية والرضا بالله ورسوله - 1/ 379، تاريخ الإسلام للذهبي، 1/ 502.

ص: 133

يلتفت إلى شئ. رواه الإمام أحمد والطبرانى فى الكبير وقال الهيثمى رجاله رجال

الصحيح (1).

انظر كيف يأتى له بالأقرب فالأقرب ثم يدعو له بطهارة القلب وحصانة الفرج وما عنفه وما زجره.

ومن الحكمة: اختيار الوقت المناسب لزيارة من تدعوه إلى الله عز وجل: فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار (2): هلم لنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، فقال الرجل: واعجباً لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفى الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم، فتركت ذلك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان يبلغنى الحديث عن الرجل فآتى بابه تسفى الريح علىَّ من التراب، فيرانى فيقول يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم هلا أرسلت إلىَّ فآتيك فأقول أنا أحق أن آتيك. قال: فأسأله عن الحديث فعاش هذا الرجل الأنصارى حتى رآنى وقد اجتمع الناس حولى يسألونني فيقول هذا الفتى كان أعقل منى. رواه الحاكم فى المستدرك.

(1) حياة الصحابة – باب آداب العلماء والطالبين – 3/ 213.

(2)

لم يسمَّ ابن عباس هذا الأنصارى احتراماً له، وهكذا أدب الصحابة فى الرواية.

ص: 134

انظر إلى هذا الأدب الذى تأدبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يختار الوقت الذى يجد فيه الصحابى ولا يوقظه حتى لا يزعجه ويربى نفسه على مشقة الدعوة والتواضع فى طلب العلم (1).

وعن أبى وائل شقيق بن سلمة قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا فى كل خميس مرة فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم .. فقال: أما أنه يمنعنى من ذلك أنى أكره أن أملكم وأن أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا (2).

وذكر البيهقى وغيره .. من علامات السآمة، عن بن مسعود رضي الله عنه قال: حدث الناس ما أقبلت عليك قلوبهم فإذا حدقوك بأبصارهم وإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم، وذلك إذا اتكأ بعضهم على بعض.

وأخرج أبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن للقلوب شهوة وإقبالا، وإن للقلوب فترة وإدبارا، فاغتنموها عند شهواتها وإقبالها، ودعوها عند فترتها وإدبارها (3).

فالقلوب متقلبة .. لها إقبال ولها إدبار .. ومن حكمة الداعي اغتنام فرصة إقبال القلوب واشتياقها إلى الموعظة.

(1) قد أورد الأئمة حديث " بلغوا عنى " فى باب العلم، إذن فمقتضى العلم التبليغ.

(2)

رياض الصالحين - باب الوعظ والاقتصاد فيه.

(3)

حياة الصحابة – باب مواعظ عبد الله بن مسعود – 3/ 512.

ص: 135

ومن الحكمة فى الدعوة إلى الله عز وجل: اللين والرفق وذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال بال أعرابى فى المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين. رواه البخارى (1).

وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يحرم الرفق يُحرم الخير كله ". رواه مسلم (2).

ووعظ أحد العلماء الخليفة المأمون رحمه الله: فعنفه وشدد عليه فى الموعظة فتركه حتى أفرغ ما كان عنده وقال له: يا هذا .. اجلس وانتظر واسمع منى .. أأنت خير أم موسى نبى الله عليه السلام فقال العالم: بل موسى نبى الله عليه السلام لأنه كليم الله واصطفاه الله برسالته ثم قال له: أأنا خير أم فرعون الطاغية المتكبر عليه اللعنة .. ؟ قال له: بل أنت. قال: فلماذا هذا التعنيف وقد قال الله لمن هو خير منك أن يقول لمن هو شر منى {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (3).

(1) رياض الصالحين - باب الحلم والأناه والرفق.

(2)

المرجع السابق.

(3)

سورة طه - الآية 44.

ص: 136

ومن الحكمة: تحمل الأذى والإعراض عن الجاهلين .. فكان النبى صلى الله عليه وسلم يتحمل أذى الجاهل ويعرض عنه وليس ذلك فحسب بل يكرمهم ويحلم عليهم وهذا ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانى غليظ الحاشية فأدركه أعرابى فجبذه بردائه جبذة شديدة فنظرت إلى صفحة عاتق النبى صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال: يا محمد مر لى من مال الله الذى عندك. فالتفت إليه فضحك فى وجهه ثم أمر له بعطاء. متفق عليه (1).

انظر إلى حلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تحمل له ذلك مع إيذائه له ثم يضحك فى وجهه ويأمر له بعطاء.

وهذا معاوية بن الحكم السُلمى رضي الله عنه قال بينما أنا أصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرمانى القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ماشأنكم تنظرون إلىَّ .. ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونى لكنى سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبى وأمى ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه فو الله ما كهرنى ولا ضربنى ولا شتمنى قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هى التسبيح والتكبير وقراءة القرآن. رواه مسلم (2).

(1) رياض الصالحين - باب العفو والإعراض عن الجاهلين.

(2)

المرجع السابق - باب الوعظ والاقتصاد فيه.

ص: 137

فحسن التوجيه بالحكمة والموعظة الحسنة جعلهم يحبون دين الله ويحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من آبائهم وأبنائهم وأنفسهم.

ومن الحكمة أن يخاطب الناس على قدر عقولهم:

فعن على رضي الله عنه قال: " حدثوا الناس على قدر عقولهم أتريدون أن يكذب الله ورسوله ". رواه البخارى.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ". رواه مسلم.

فنزول الداعى إلى مستوى من يدعوه .. واجب يحث عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم .. فقد كان يأتيه البدوى فيخاطبه بأسلوبه والمثقف يدعوه بأسلوبه وكذلك صاحب المنطق والحيلة فيرتفع إلى مستواه ويدعوه.

ومن الحكمة: البشاشة فى وجه من تدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، فالابتسامة طبيب يعالج بلا دواء .. والابتسامة تكون من القلب ولا تكون ابتسامة محزونة.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم " تبسمك فى وجه أخيك صدقة ". رواه ابن حبان والترمذي وحسنه (1).

(1) المتجر الرابح فى ثواب العمل الصالح – باب ثواب طلاقة الوجه – للدمياطى

ص: 138

وقال صلى الله عليه وسلم " إنكم لا تسعون الناس بأموالكم وليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ". رواه الحاكم (1).

ومن الحكمة .. أن تقدر الناس وتحترمهم وتصغى إليهم إذا تكلموا. فالرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه عتبة بن ربيعة ليعرض عليه أموراً أرسله بها قومه لعله يقبل أحدها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع، قال يا ابن أخى: إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئياً تراه لا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: فاستمع منى. قال: أفعل. فقرأ عليه أول سورة فصلت

الخ (2).

تأمل أدب النبوة .. يكنيه .. ويسمع منه حتى يفرغ من كلامه ثم يبدأ فى الكلام .. ولقد صدق الصادق الأمين حين قال أدبنى ربى فأحسن تأديبى .. وكان ذلك تأكيداً لقول الحق {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (3).

(1) فى المستدرك – كتاب العلم – 1/ 124.

(2)

مختصر تفسير بن كثير - سورة فصلت - 3/ 355

(3)

سورة القلم - الآية 4.

ص: 139

ومن الحكمة: أن تثير فى نفس أخيك الذى تدعوه خصال الخير فكل إنسان فيه من خصال الخير وتشعره بأن قضية الدين والدعوة قضيته لأنه إذا أحس بها تبناها وتظهر له المنافع التى تعود عليه فى الدنيا والآخرة.

ومن الحكمة: المشاركة الوجدانية فى الأفراح والأحزان، فإنها تؤلف القلوب .. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خالطوا الناس بما يشتهون وزايلهم بما يشتهون ودينك فلا تكلمه (1) " رواه الطبرانى (2).

وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خالطوا الناس بأخلاقكم وخالفوهم فى أعمالكم ". رواه العسكرى فى الأمثال (3). وفى مجمع الزوائد - باب كيف يفعل من بقى فى حثالة.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خالطوا الناس وصافوهم بما يشتهون ودينكم فلا تَكْلَمَنَّه. رواه الطبرانى (4).

واذا اتهمك أحد بالعيب أو التقصير فاعترف بذلك فمهما قدمت فأنت مقصر .. فعن الزهري أخبرني ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنه قدم وافداً على معاوية فى خلافته قال: فدخلت المقصورة .. فسلمت على مجلس

(1) أى: لا تجرح دينك.

(2)

جمع الجوامع للسيوطى - برقم 13495.

(3)

المرجع السابق برقم 12496.

(4)

المرجع السابق. نقلاً من الهامش.

ص: 140

من أهل الشام وجلست بين أظهرهم فقال لى رجل منهم .. من أنت يافتى؟ قلت: أنا إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. قال: يرحم الله أباك .. أخبرنى فلان لرجلٍ قد سماه أنه قال: والله لألحقن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأحدثن بهم عهداً ولأكلمنهم، فقدمت المدينة فى خلافة عثمان، فلقيتهم إلا عبد الرحمن بن عوف أخبرت أنه بأرضٍ له بالجرف (1) فركبت إليه حتى جئته فإذا هو واضع ردائه يحول الماء بمسحاة فى يده فلما رآنى استحى منى، فألقى المسحاة وأخذ ردائه فسلمت عليه وقلت له قد جئت لأمرٍ وقد رأيت أعجب منه، هل جاءكم إلا ما جاءنا .. ؟ وهل علمتم إلا ما قد علمنا .. ؟ قال عبد الرحمن: لم يأتنا إلا ما جاءكم ولم نعلم إلا ما قد علمتم. قال: قلت فما لنا نزهد فى الدنيا وترغبون ونخف فى الجهاد وتتثاقلون، وأنتم سلفنا وخيارنا وأصحاب نبينا. فقال عبد الرحمن: لم يأتنا إلا ما قد جاءكم ولم نعلم إلا ما قد علمتم، ولكنا بلينا بالضراء فصبرنا وبُلِينا بالسراء فلم نصبر (2). انظر كيف يتهمه بالتقصير .. ويتهم من .. ؟! وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد حواريه وأهل مشورته وأحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد أحباء رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ترك غزوة إلا وهو ينافح فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد الذين مات عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وأحد الذين جعلهم عمر رضي الله عنه من

(1) الجرف: اسم موضع قريب من المدينة وأصله ما تجرفه السيول من الأودية.

(2)

صحيح، أخرجه ابن المبارك فى الزهد والترمذى وقال حديث حسن (انظر كتاب ذم الدنيا للحافظ ابن أبى الدنيا).

ص: 141

أهل الشورى فى أمر الخلافة من بعده ومع ذلك يعترف بالتقصير ولا يغضب عليه.

ومن الحكمة: أن يبدأ الداعى فى دعوته بالأهم ثم المهم .. قال تعالى

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (1). فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا يبدأون بالدعوة إلى التوحيد ثم يشرعون فى الأهم ثم المهم.

ومن الحكمة فى الدعوة إلى الله: التدرج مع المدعو كما فعل إبراهيم عليه السلام مع قومه. قال تعالى {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ

(1) سورة هود – الآيتان 84، 85.

ص: 142

قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1). هذا ربى .. أى فى زعمكم واعتقادكم.

لا أحب الآفلين: رداً عليهم وتنبيهاً لهم على فساد قولهم، وقد أجرى إبراهيم عليه السلام هذا الحوار مناظرة لقومه ليبطل لهم ما كانوا عليه من عبادة النجوم والكواكب (2).

ومن الحكمة أن يكون الوعظ بالقول البليغ قال تعالى {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} (3) أن يكون كلاماً حسن الألفاظ، حسن المعانى، مشتمل على الترغيب والترهيب والتحذير والإنذار، والثواب والعقاب، فإن الكلام إذا كان هكذا عظم وقعه فى القلب، وإذا كان مختصراً ركيك اللفظ قليل المعنى لم يؤثر البته فى القلب (4).

ومن الحكمة تنويع الأسلوب كما فعل نوح عليه السلام مع قومه قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلا

(1) سورة الأنعام – الآيات 76: 79.

(2)

مفاتيح الغيب – 6/ 391.

(3)

سورة النساء - من الآية63.

(4)

مفاتيح الغيب للرازى – 5/ 285.

ص: 143

فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} (1).

قال القرطبى: وأسررت لهم أى أتيتهم فى منازلهم.

وقال ابن كثير: نوَّع عليهم الدعوة لتكون أنجح (2).

والكلام فى حكمة الدعوة إلى الله عز وجل كثير .. وكثير .. نكتفى بهذا الشئ القليل والذى يريد المزيد فعليه بكتب السيرة النبوية المطهرة والسنة الشريفة.

(1) سورة نوح – الآيات 5: 9.

(2)

مختصر تفسير ابن كثير – 3/ 553

ص: 144