الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العقيدة أولاً أم الحاكمية
؟
نقرأ فى كتاب الله عز وجل بياناً لواجب أناطه الله بأعناق عباده وألزمهم النهوض به. ونقرأ فيه إلى جانب ذلك وعداً بحق تكفل لهم الله به، إن هم أتقنوا القيام بالواجب الذى كلفهم به {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (1)، وفى قوله عز وجل {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (2) وفى قوله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) وفى قوله عز وجل {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) وفى قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
(1) سورة الذاريات - الآية 56.
(2)
سورة العنكبوت - الآية 56.
(3)
سورة النحل - الآية 125.
(4)
سورة آل عمران - الآية 104.
زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (1).
وأما الحق الذى وعدهم وتكفل لهم به فقد عرفناه وقرأناه فى قوله عز وجل {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2)، وفى قوله تعالى {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْض} (3)، وفى قوله عز وجل {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ
(1) سورة النساء - الآية 1.
(2)
سورة النور - الآية 55.
(3)
سورة القصص – الآيتان 5، 6.
مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (1) وفى قوله عز وجل {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2).
وقد شاء الله سبحانه وتعالى بواسع رحمته ودقيق حكمته، أن يختار من عباده قلة يجعل منهم المثل الذى يحتذى والنموذج الذى يقتدى به فى الانصياع لأوامر الله عز وجل وتطبيق تعاليمه وأحكامه، وكأنه سبحانه وتعالى قضى بباهر حكمته أن يجعل من حياتهم وواقع سلوكهم فى الجملة، وسيلة إيضاح لمن بعدهم، يهتدون بهديهم كلما غم عليهم الأمر والتبست عليهم الحقائق بأشباهها. وقد تمثلت هذه القلة المختارة فى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم.
وليس فى اختيار الله لهم ما يثير دهشة أو يبعث على تساؤل، فهم الرعيل الأول الذين بلغوا عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد فترة من الرسل، وهم الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا منه وتعلموا على يديه، وهم الذين سرى نور النبوة إلى أبصارهم التى اكتحلت بمرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سرى منها إلى قلوبهم التى فاضت بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحق أن يكونوا ظلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أن يكونوا من بعده الهداة الذين يقتدى بهم والنموذج الأسمى لكيفية السير على صراط الله عز وجل.
(1) سورة إبراهيم – الآيتان 13، 14.
(2)
سورة الروم - الآية 47.
وقد نظرنا، ثم تأملنا طويلاً فى موقف هؤلاء الصحابة الذين جعلهم الله، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لنا، من كل من الواجبات التى كلفهم الله بها وأنهضهم إليها، والحقوق التى بشرهم بها وتكفل لهم بإنجازها، فرأينا أنهم توجهوا بكل مشاعرهم وقدراتهم إلى الواجبات التى حملهم الله إياها، وسعوا فى ثبات واستمرار إلى النهوض بها، دون أن تطوف بأذهانهم أحلام تلك الحقوق التى وعدهم بها، ودون أن يدخروا شيئاً من جهودهم للبحث عن تلك الحقوق، بل دون أن يربطوا بين تلك الواجبات وهذه الحقوق بشئ من رابطة العلة والمعلول، أو الثمن والسلعة .. بل تأملنا فلم نجد إلا دافعاً خفياً واحداً ينهضهم إلى القيام بالوظائف التى ألزمهم الله بها، ألا وهو دافع العبودية والمملوكية لإلههم المالك.
ما إن يبايع الواحد منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً بالله رباً وبمحمدٍ رسولاً، حتى يعود إلى نفسه فيلزمها باتباع أوامر الله والانتهاء عن نواهيه، مجاهداً نفسه ضد أهوائها مطهراً ذاته من بقايا الجاهلية، ثم يقبل إلى من يعيل، ثم إلى سائر من حوله من عباد الله سبحانه وتعالى يعرفهم على الله ويبلغهم أوامره وأحكامه، مخترقاً إلى ذلك المخاطر كلها، مضحياً بحقوق نفسه إن أهينت، متجملاً بمشاعر الحب لعباد الله عز وجل والشفقة عليهم جميعاً، وقدوتهم فى ذلك كله سيدهم وحبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن من شأن أى منهم أن يعود فى المساء إلى داره ليسأل نفسه: ومتى ننال الحق الذى وعدنا الله به؟ ومتى وكيف تكون الحاكمية فى الأرض
عن الله لنا؟ .. كما لم يكن من شأن أى منهم أن ينقلب ذات ليلة فى أحلام هذا النعيم الذى وعدهم الله به، كيف يكون مذاقه، أو إلى أى مدى يمتد ظله.
بل كانوا يقطعون الليل، بعد أخذ حظهم من الراحة والرقاد، بنجوى الخائف من تقصيره الطامع فى تجاوز الله وعفوه، وربما اتهم أحدهم نفسه، لتقصير تخيل أنه قد ألم به، بلون من النفاق قد ابتلى به، فيتقلب من ذلك فى هم يكاد يذيبه، ثم لا يسكن روعه حتى يشكو أمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذكره بعظيم رحمة الله سبحانه وتعالى وكرمه، ويبشره بأن إحسان الله لعباده يأتى على قدر ضعفهم وعجزهم، إن هم عظموا حرمات الله، واستشعرت قلوبهم مهابته.
تحت سلطان هذه الدوافع والمشاعر، أدوا واجباتهم هذه، وصمدوا لكل ألوان الأذية فى مكة .. وتحت سلطان هذه الدوافع والمشاعر ذاتها، هاجروا فى سبيل الله إلى المدينة، وقد نفضوا أيديهم عن كل زاد إلا زاد التقوى والعمل الصالح .. وهم خلال ذلك يعرفون الناس على الله ويبلغونهم كلمات الله، ويقدمون نفوسهم وحظوظها قرابين رخيصة على طريق تطبيق أوامر الله.
هل كان أى منهم يخلط بين قيامه بواجباته هذه، والتخطيط لكيفية القضاء على الإمبراطورية الساسانية أو الرومانية؟ .. هل كان فيهم من
يفكر بكيفية الانتقام من قريش التى أخرجتهم من ديارهم، أو يفكر بالغد القريب الذى يصبحون فيه الحكام المهيمنين عليهم والمتنفذين فيهم؟
معاذ الله .. لم يكن هذا شأن أحدٍ منهم. بل كانوا قد وضعوا همهم كله فى أن يوفقوا إلى أداء حقوق العبودية التى فى أعناقهم لله عز وجل، وأن يرحلوا إليه وهو راضٍ عنهم غفار لهم.
فلما صدقوا فيما ألزموا أنفسهم به من حق الله عز وجل، وفاهم الله حقهم الذى تكفل لهم به، فأعادهم إلى الأرض التى أخرجوا منها، وأورثهم أرضاً ودياراً أخرى لم يعرفوها ولم يحلموا بها، وجعل منهم قادة العالم، ووراث الحضارة، فكانوا بحق سدى ولحمة المجتمع الإسلامى.
هل كان سعيهم وجهادهم قبل ذلك تخطيطاً لبلوغ حكم، أو إمعاناً فى قهر حاكم، أو مناورة لإنشاء حلف؟ لم يكن هذا شأنهم قط، بل لم يخطر لهم شئ من هذا على بال، بل مما لا شك فيه أنهم لو ولوا وجوههم شطر شئ من هذه المشاغل أو صرفوا أفكارهم إليها، لما حقق الله لهم شيئاً مما قد أكرمهم به، ولما جعل منهم أئمة الأرض ووراث الحكم وقادة العالم. بل لو وكلهم عندئذٍ إلى أفكارهم المخططة، وأحلامهم المهتاجة، ولما جاءت قدراتهم من ذلك كله بشئ.
فذلك ما نقرؤه واضحاً فى كتاب الله عز وجل: واجبات كلفنا بها وأناطها بأعناقنا وحقوق تكفل لنا بها، إن نحن أخلصنا القيام بتلك الواجبات.
وهذا ما فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله الله لهم: عاهدوا أن ينفذوا أوامره وأن يمارسوا عبوديتهم له بإخلاص وصدق، وقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه .. وعندئذٍ وفى الله وعده لهم فورثهم الأرض والديار، وألقى أزمة الحكم فى أيديهم، وبث الهيبة منهم فى قلوب الناس.
وقد علمنا أن الله عز وجل جعل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج الذى يُتبع فى صحة التوجه والسلوك، فهم الذين يصدق عليهم قول الله سبحانه وتعالى
…
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1).
وإذا كان الأمر كذلك، فليس لنا عن الإقتداء بهم أى محيص، إلا أن أردنا أن نسلك سبل الغواية بدل الرشاد، أو أن نغامر فى إتباع مالا يجدى أو غرس مالا يثمر. ونسأل الله أن يسلمنا ويقينا من الوقوع فى هذا التيه.
ونحن اليوم نعلن عن صدق إيماننا بالله واستسلامنا لألوهيته وحكمه، تماماً كما أعلن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويظهر اليوم فى الساحة الإسلامية بعض المسلمين يضعون أنفسهم من عامة الناس موضع الصحابة ممن بعدهم، فهم النموذج الذى ينبغى أن يقتدى به اليوم بعدهم، إذ هم طليعة رجال الدعوة إلى الله، والقائمون بأمر الله، والمجاهدون فى سبيله، والمنافحون عن حرماته.
والحق أن على عامة المسلمين، فى هذا الحال، أن يقتدوا بهم
(1) سورة الأنعام - الآية 90.
وينهجوا نهجهم إذ هم الوراث للخصائص التى تميز بها الصحابة عمن
سواهم، وليت .. هؤلاء المسلمين يسلكون مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم مسلك أصحاب رسول الله؟ فيحصرون أنفسهم، فعلاً، فى نطاق الواجبات التى كلفهم الله بها، فى حق أنفسهم والناس الذين من حولهم، ويفوضون ما التزم لهم به الله إلى الله؟
إننا ننظر، فنجد، ويا للأسف، عكس ذلك تماماً.
لقد نامت فى نفوسهم مشاعر الواجبات الذاتية، التى أذاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفسهم فى ضرام السعى إليها والنهوض بها، واستيقظت بدلاً من ذلك لديهم مشاعر التطلع إلى الوعود التى تكفل الله لهم بها.
أمرهم الله عز وجل أن يصطبغوا بذل العبودية لله سبحانه وتعالى شعوراً وتبتلاً وأخلاقاً وسلوكاً، فشردوا عن واجبهم هذا بأحلام السعى إلى إقامة الحكم الإسلامى .. !
وأمرهم الله عز وجل أن يعرفوا الناس على الله وأن يبلغوهم كلماته وأحكامه، وناشدهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً:" بلغوا عنى ولو آية " فتشاغلوا عن واجبهم هذا بهموم الوصول إلى الحكم، ومناوأة من يصدهم عن ذلك.
والخلاصة .. أنهم قصروا كل التقصير فيما طلبه الله منهم، واجتهدوا كل الاجتهاد فيما ضمنه الله لهم .. ! فصدق عليهم قول ابن عطاء الله السكندرى .. اجتهادك فيما ضُمن لك، وتقصيرك فيما طُلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك .. هما كلمتان، خاطب الله بهما عباده المسلمين من
خلال قرآنه: حققوا فى أنفسكم أهلية الحكم فى الأرض عبودية وإخلاصاً لله، وتزكية نفسية ومن ثم أخلاقاً زكيه مع عباد الله، أصعد بكم إلى سدة القيادة فى الأرض، وأضع بين يديكم مقاليد الحكم من حيث لا تحتسبون.
وقد رأينا كيف وعى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتين الكلمتين، فعكفوا على الواجب الذى ألزمهم به الله عبودية وإخلاصاً وتزكية وأخلاقاً .. وما هو إلا أن ورثهم الله مقاليد الحكم، من حيث لا يحتسبون .. أجل من حيث لا يحتسبون .. !
ثم خلف من بعدهم خلف، تجملوا من حيث الألفاظ والشعارات، بما يرقى بهم إلى مصاف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنكبوا من حيث العمل والسلوك عن هذا النهج الذى كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جعلوا كل همهم بدلاً عن ذلك فى طرق أبواب الحكم، بكل ما تطول إليه أيديهم من الوسائل التكتيكية والأسباب المتنوعة.
أين هى ليالى التبتل بين يدى الله عز وجل .. ؟ وأين هى مجالس " تعالوا بنا نؤمن ساعة .. "؟ وأين هى معارج التزكية بالنفس إلى حيث الإيثار بدلاً من الأثرة، والحب بدلاً من الحقد، والتضحية بالحظوظ بدلاً من التضحية بالخصوم؟ وأين هى حِلق الذكر التى كانت تزدان بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتورثهم الأفئدة الرقيقة والعيون الدامعة .. ؟
أين هى مجالس التبليغ عن الله عز وجل .. والتعريف بألوهية الله وعظيم سلطانه .. ؟ أين هو البحث عن التائهين والشاردين والضالين، وما أكثرهم
فى كل فجٍ وصوب، للحوار معهم والإجابة عن مشكلاتهم وتذويب شبهاتهم والصبر فى سبيل ذلك على آذاهم .. ؟
أين هو السلاح الأول فى حياة المسلم الربانى القائم على حدود الله وأوامره؟ وهل إلا صدق التوكل على الله والثقة بالله والرضا عن الله، ثم الاصطباغ فى التعامل مع الناس بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى قال فيما صح عنه " إنكم لن تسعون الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق "(1).
إننى أنظر .. وينظر الناس جميعاً معي، فلا نرى إلا انصرافاً عن هذا كله .. آلاف التائهين والشاردين، تتصيدهم كل يوم شباك الشهوات والأهواء، أو تتربص بهم جهود الدعاة إلى النار، وقد تسلحوا بما كان أولى بالمسلمين أن يتسلحوا به، من حسن المعشر وخفض الجناح ولين الجانب، والصبر على مشاق الرحلة، ومخلوف الصد والرد .. ولسان حال هؤلاء التائهين والجاهلين يصرخ قائلاً ألا من منقذ يخلصنا من رق أهوائنا التى تحكمت بنا، أو من هؤلاء الماكرين المبشرين الذين يحيطون بنا .. ؟ أين هم وراًّث شريعة الله ورجال الدعوة إلى الله، ينتشلوننا من عذاب نفوسنا ومن كيد المتربصين بنا .. ؟
غير أن لسان حال بعض المسلمين يرد قائلاً: نحن فى شغل شاغل عن هذا الذى تدعوننا إليه وتستنجدون بنا من أجله، إننا مشغولون عنكم باتخاذ
(1) رواه الحاكم فى المستدرك – كتاب العلم - 1/ 124.
أسباب الوصول إلى الحكم ولسوف نتعطف عليكم من فوق كراسى الحكم، لنقودكم إلى الحق عندئذٍ كرهاً، بدلاً من أن نحاوركم وندعوكم إليه عن طواعية ورضا .. !
أجل .. هذا ما يقوله اليوم لسان حال هؤلاء المسلمين .. بل هذا ما يقوله كثير منهم بألسنتهم عندما يأتى من يذكرهم بتنكبهم عن الطريق، وهذا ما قاله لى كثير منهم فى كثير من المناسبات.
ولكن .. ألا ترى يا قارئى الكريم .. أن هذا الاعتذار الذى يأتى بلسان الحال أو بلسان المقال، إنما هو فى الحقيقة تطاول إلى تصحيح النهج الذى قد قضى وأمر به الله .. ؟
إن المضمون الذى يختفى وراء هذا الاعتذار، ليس إلا قراراً تصحيحياً لما أمر الله به عباده ولما تعهد لهم به، ثم للسلوك التطبيقى الذى لبى من خلاله الصحابة أمر الله وللعهد الذى أنجزه الله لهم لقاء ذلك، وإن هذا القرار التصحيحى لينطق قائلاً:
خير من سلوك هذا الطريق الطويل إلى نشر دين الله فى الأرض وبسط سلطانه على النفوس والبلاد، عن طريق دعوة الناس ومحاورتهم فرداً فرداً .. ، أن نقفز إلى كراسى الحكم فنتبوءها، فنفرض سلطان الإسلام على الناس من هناك شرعة ومنهاجاً، والحكم الذى سيحققه الله لنا، بإتباع هذا المنهج الطويل، من حيث لا يحتسب بوسعنا أن نناله الآن بسلوك الأسباب والوسائل التى يسلكها غيرنا من حيث ندري ونحتسب .. !
هذه هى مأساة العمل الإسلامى الذى تحول إلى جهد خائب وسعى ضائع، وأخفى عن كثير من الأذهان الحقيقة العلوية المشرقة للإسلام، ثم أبرز له صورة زائفة أخرى ما هو منها فى شئ تبعث على الإستيحاش والنفور منه، بل وربما بعثت على الارتياب فى مصدره وحقيقته.
غير أنا لابد أن نستثنى قلة من المسلمين يسلكون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى سكينة وهدوء، يبلغون عن الله كما كانوا يبلغون ويلقون بالدعوة إليه فلول التائهين والشاردين والفاسقين فى حوار لين مشفق كما كانوا يفعلون، وقد تركوا النتائج التى تكفل لهم بها الله لمشيئته وحكمته .. وإنى لأعُدُّ جماعة التبليغ أول السالكين فى هذا الطريق وخير القائمين بهذا الواجب، ولكنهم من القلة بحيث لا يسدُّون مسداً، وربما كانوا بحاجة إلى دعامة من العلم والعلماء يكونون رفداً لهم فى سلوكهم، وسلاحاً إضافياً أمام الشبهات وعكر الفلسفات الجانحة (1).
البعض يقول إن الإسلام سيعود من قبل الحاكمية .. والبعض الآخر يقول سيعود الإسلام عن طريق تصحيح العقيدة والتربية الجماعية .. أيهما أصح .. ؟!
من أين تأتى حاكمية هذا الدين فى الأرض إن لم يوجد دعاة يصححون العقيدة ويؤمنون إيماناً صحيحاً ويُبتلون فى دينهم فيصبرون ويجاهدون فى سبيل الله سبحانه وتعالى فيحكم دين الله فى الأرض .. قضية واضحة جداً ما يأتى الحكم من السماء، نعم كل شئ يأتى من السماء .. لكن بجهد من البشر فرضه الله عز وجل على البشر.
(1) انظر كتاب الجهاد - د. محمد سعيد البوطى.
قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} (1).
لابد من أن نبدأ بتصحيح العقيدة وتربية جيل على العقيدة الصحيحة .. جيل يبتلى فيصبر على البلاء كما صبر الجيل الأول (2).
* * * * *
(1) سورة محمد - الآية 4.
(2)
من كتاب الفرقة الناجية والطائفة المنصورة - د. محمد جميل زينو.