الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى رواية عن كعب الأحبار أنّه قال: أوّل حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حرّان ودمشق وبابل.
فصل
فى فضل دمشق وما جاء من الأخبار وتبعها من الآثار
(1)
(100) قلت: وقد أخرج مسلم (2) عن النوّاس بن سمعان قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقى دمشق بين مهرودتين واضعا كفّيه على أجنحة ملكين، وهو حديث طويل، والمهرودة: المصبوغة. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: (3) حدّثنا ابن اليمان بإسناده إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ستفتح عليكم الشام فإذا تخيّرتم المنازل منها فعليكم بمدينة يقال لها دمشق فإنّها معقل المسلمين من الملاحم وفسطاطهم بأرض يقال لها الغوطة. قال ابن الجوزى:
إلاّ أنّ جدّى ضعّف هذا الحديث وذكره فى الأحاديث الواهية.
وروى عن وهب بن منبّه أنّه قال: بلغنى عن ابن عبّاس أنّه قال: أقدم حائط على وجه الأرض حائط قبلة دمشق وفيه قبر هود عليه السلام، وذكر مجاهد عن ابن عبّاس فى تأويل قوله تعالى:{إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ»} : أنّها دمشق، وروى عن ابن عبّاس موقوفا عليه ومرفوعا أنّه قال: قد وكّل الله بكلّ بلد ملكا يحرسه إلاّ دمشق فإنّه يتولاّها بنفسه، والموقوف أصحّ.
وأمّا الآثار فروى وهب بن منبّه، قال: كان الخضر عليه السلام يطرقها فأتاها مرّة فوجدها بخيرة فغاب خمس مائة سنة ثم أتاها فإذا هى عامرة فغاب عنها خمس مائة سنة أخرى وأتاها فإذا هى بقصبة تأويها السباع ثم غاب عنها خمس مائة
(1) مأخوذ من مرآة الزمان 14 ب، -4
(2)
صحيح مسلم 8/ 198، الفتن
(3)
مسند أحمد بن حنبل 4/ 160||ابن: أبى مسند ابن حنبل
سنة ثم عاد إليها فإذا هى عامرة فعل كذلك مرار، وهذا يدلّ على أنّها قديمة.
وحكى الحافظ ابن عساكر رحمه الله فى تأريخه (1) أنّه كان فى دمشق رجل صالح وكان يقصده الخضر عليه السلام وذلك فى زمان معاوية بن أبى سفيان، فبلغ ذلك معاوية فجاء إلى الرجل وقال له: اجمع بينى وبين الخضر عندك، قال: نعم، فجاء الخضر على عادته فأخبره بما قال معاوية، فقال: ليس لى إلى ذلك سبيل، فقال له معاوية: قل له: قد قعدنا مع من هو خير منك وحدّثناه وخاطبناه وهو محمّد صلى الله عليه وسلم! ولكن اسأله عن ابتداء بناء دمشق (101) كيف كان، قال: نعم، وذكر لحديث المقدّم ذكره.
وذكر الحافظ ابن عساكر أيضا (2) عن أبى حسين الرازى والد تمام أنّه ذكر فى تأريخه: أنّ عبد الله بن على بن عبد الله بن عبّاس لمّا حاصر دمشق وهدم سورها وقع منه حجرا عليه منقوش باليونانى فترجم بالعربيّة، فكان: ويك أمّ الجبابرة من رامك بسوء قصمه الله وتلك من خمسة أعين ينقض سورك على يديه بعد أربعة آلاف سنة فنظر فإذا هو عبد الله بن على بن عبد الله بن عبّاس ابن عبد المطلّب، ففعل بها ما فعل.
وقد ورد أيضا فى فضائل دمشق أخبار فيها للمحدّثين نظر، فلذلك عديناها، وقد ذكرها أبو القسم فى تأريخه، وليس فيها ما ينبت إلاّ النادر، وذكر أيضا أبو القسم فى تأريخه فى أخبار دمشق: أن أبا الفتح المسلم بن هبة الله صنّف ألف رسالة فى تفضيل دمشق على الدنيا، وكان فاضلا رحمه الله، وهو القائل (من الطويل):
وما ذقت طعم الماء إلاّ وجدته
…
كأن ليس بالماء الذى كنت أعرف
ولا سرّ صدرى مذ تناءت بى النوا
…
أنيس ولا مال ولا متصرّف
(1) تأريخ دمشق 1/ 12
(2)
تأريخ دمشق 1/ 15
وما أحضر اللذات إلاّ تكلّفا
…
وأى سرور يقتضيه التكلّف
وروى عن كعب الأحبار أنّه رأى رجلا من أهل الشام فقال: من أين أنت؟ فقال: من دمشق، فقال: أنت من الذين يعرفون فى الجنّة بالثياب الخضر، وحكى جماعة من مشايخ دمشق أنّ بالغوطة مائة ألف ونيفا وثلاثين ألف بستان، وسنذكر أنهارها عند ذكرنا لأنهار الدنيا إن شاء الله تعالى.
وروى عن ابن أبى ديب (1) عن معن بن الوليد عن خالد بن معدان عن معاذ ابن جبل قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لنا فى صاعنا ومدّنا وفى شامنا ويمنّا وفى حجازنا، قال، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله! وفى (102) عراقنا! فأمسك النبىّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا كان فى اليوم الثانى قال مثل ذلك، فقام إليه الرجل فقال: يا رسول الله! وفى عراقنا! فأمسك، فقام إليه فى اليوم الثالث وقال مثل ذلك فأمسك عنه فولّى وهو يبكى فدعاه النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: أمن أهل العراق أنت؟ قال: نعم، قال: إنّ أبى إبراهيم همّ أن يدعو عليهم فأوحى الله إليه: لا تفعل فإنّى جعلت خزائن علمى فيهم وأسكنت الرحمة قلوبهم.
وقد أكثرت الشعراء فى وصف دمشق ومحاسنها فمنهم أحمد بن منير (2) فقال (من البسيط):
حيى الديار على علياء جيرون
…
مهوى الهواء ومغانى الخرّد العين
(3)
من أبيات وقد وازنها أبو عبد الله محمّد بن محمّد الملقّب بالعماد الكاتب الإصفهانى فقال (من البسيط):
(1) قارن المعجم المفهرس 1/ 173، اللآلئ المصنوعة 1/ 465||ديب: ذؤيب
(2)
أحمد بن منير: خريدة القصر، شعراء الشأم 1/ 76
(3)
خريدة القصر، شعراء الشأم 1/ 25||حيى: حى خريدة القصر||الهواء: الهوى خريدة القصر
أهدى النسيم لنا ربّا الرياحين
…
أم طيب أخلاق جيرانى بحيرون (1)
هبّت لنا نفخة فى جلّق سحرا
…
باحت بسرّ من الفردوس مكنون
ومنها:
دمشق عندى لا تحصى فضائلها
…
عدّا وحصرا ويحصى رمل يبرين (2)
وما أرى بلدة أخرا تماثلها
…
فالحسن (3) من مصر حتى منتهى الصين
وإنّ من باع كلّ العمر مقتنعا
…
بساعة فى ذراها غير مغبون
لمّا علت همّتى صيّرتها وطنى
…
وليس يقنع غير الدون بالدون
ترى جواسقها فى الجوّ شاهقة
…
كأنّهنّ قصور للسلاطين
دار النعيم ومن أدنى محاسنها
…
ثمار تمّوز فى أيّام كانون
نعيمها غير ممنوع لساكنها
…
كالخلد والمنّ فيها غير ممنون
أزهارها أبدا فى الروض مونقة
…
فحسن نيسان موصول بتشرين (4)
وللحمائم فى الأشجار أدعية
…
مرفوعة شفعت منّا بتأمين
خافت على الروض من عين مطوّفة
…
أضحت تعوّذه منها بياسين
(103)
من كلّ مطرب صوت غير مضطرب
…
وكلّ معرب لفظ غير ملحون
وللبساتين أنهار جداولها
…
تسير (5) فى الجرى أمثال الثعابين
وقال ابن الكلبى رحمه الله: دمشق كورة من كور الشام ومن أعمالها البلقا منسوبة إلى بالق، وعمّان بالتشديد سمّيت بذلك لأنّ عمّان بن لوط عمرها وأقام بها، وزغر ومآب باسم ابنتى لوط عليه السلام، وسمّيت صيدا بصيدون
(1) خريدة القصر، شعراء الشأم 1/ 30،5
(2)
خريدة القصر، شعراء الشأم 1/ 31،6
(3)
فالحسن: فى الحسن خريدة القصر
(4)
خريدة القصر، شعراء الشأم 1/ 32،6
(5)
تسير: تستن خريدة القصر
ابن كنعان بن نوح عليه السلام، وأريحا بأريحا بن مالك بن ازفحشد بن سام ابن نوح، وورد (1) أيضا أنّ مآب بن لوط والربه بنته، وسمّيت الكسوة لأنّ رسل ملك الروم باتوا بها فسرقت ثيابهم فأصبحوا عراة وقيل لأنّ غسّان قتلهم واقتسمت ثيابهم وكساها أصحابه فسمّيت بذلك.
قال: وصور وعكّا من أعمال دمشق، وقال الجوهرى:(2) عكّه بالهاء من أعمال دمشق وهى بلد بالثغور، وصور من صار إذا مال وهى مائلة فى البحر.
ومنها الربوة كان عيسى عليه السلام وأمّه يأويان إليها ومنه قوله تعالى:
{وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ»} (3)، الآية، ومنها قاسيون وسنذكره فى الجبال إن شاء الله تعالى.
وبظاهر دمشق أماكن مباركة منها مقبرة باب الفراديس كان كعب الأحبار يقول: يبعث الله منها سبعين ألف شهيد يشفعون فى سبعين ألف إنسان، وقال كعب الأحبار: بطرسوس عشرة قبور من قبور الأنبياء وبالمصيصة خمسة وبأنطاكية قبر حبيب النجار، وسنذكره، وبمحص ثلاثون نبيّا وبدمشق خمس مائة وبالسواحل ألف نبىّ وببيت المقدس ألف نبىّ وبالعريش عشرة، وروى مكحول عن ابن عبّاس قال: من أراد ينظر إلى قبور الأنبياء فعليه بالشام.
قلت: وقد ذكر أبو القاسم ابن عساكر رحمه الله فى تأريخه (4) جملة جيّدة فى أماكن بظاهر دمشق (104) منها قرية برزة فروى بإسناده إلى ابن عبّاس قال:
ولد إبراهيم الخليل فى غوطة دمشق بقرية يقال لها برزة فى جبل يقال له قاسيون،
(1) وورد-مآب: وقيل أيضا مآب مرآة الزمان
(2)
الصحاح 4/ 1601 آ
(3)
القرآن الكريم 24/ 50
(4)
تأريخ دمشق 2/ 99
ثم ذكر بعده أنّ إبراهيم قدم الشام وجاهد ملك النبط وجاء فصلّى فى المقام، قلت:
لا خلاف بين علماء السير أنّ إبراهيم عليه السلام ولد بالعراق ما اختلف فى ذلك اثنان، ثم روى بعد هذا أنّ جبل برزة هو الذى رأى منه إبراهيم الكواكب، وقال هذا ربّى، وهذا أيضا تناقض، ثم قال: الشقّ الذى فى المسجد هو الذى اختبأ فيه إبراهيم عليه السلام من نمرود، ثم روى بعد هذا حديثا عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: وبالغوطة جبل يقال له قاسيون فيه قتل ابن آدم أخاه.
قال ابن الجوزى رحمه الله: هذا الحديث لا يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قتل قابيل أخاه بالشام بل فى الهند، قلت: الصحيح ما ذكره الشيخ جمال الدين بن الجوزى متّفق عليه. وذكر أنّ الدم الذى على قاسيون م هابيل وأنّ الملائكة نزلت عزت آدم فى الكهف بقاسيون. وحكاه عن كعب الأحبار وغيره، قال ابن الجوزى: ما ورد عن كعب الأحبار فى هذا الباب فقد توقّف الناس فيه: وكان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه يضربه بالدرّة ويقول: دعنا من يهوديّتك. ومع هذا فقد أجاز روايته بعضهم إذا لم يروى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم لأنّه أسلم على يد عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذا الباب فيها وهن عظيم إذا لم يوافق السنن والأصول.
فروى أبو القسم فى فضل دمشق والغوطة قال: (1) حدّثنا عن عائشة قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلق الله جمجمة جبرائيل على قدر الغوطة، قال ابن الجوزى أيضا: وهذا ممّا لا نوافقه عليه قضاء بالعقول لأنّه قد ثبت فى الصحيحين أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم (105) قال: خلق الله الملائكة من نور، والنور روحانى فكيف يكون جسما، وفى رواية: من نور العرش، ولمّا سأله النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يظهر له فى
(1) تأريخ دمشق 2/ 116
صورته ظهر فسدّ أحد جناحيه ما بين المشرق والمغرب، وقد تقدّم ذكر ذلك.
وأمّا الشام الرابعة: (1) الأردنّ ومدينة طبريّة على ساحل البحيرة ويقال إنّها من بناء سليمان بن داود عليه السلام وإنّ قبره على شاطئ البحيرة.
وأمّا الشام الخامسة: (2) الرملة ومدينتها فلسطين وبيت المقدس وعسقلان وغزّة والبلاد الساحليّة، وهذا أشار الجوهرى (3) إلى ما ذكر ابن المنادى فإنّه قال: الشام خمسة أجناد: دمشق، وحمص، وقنّسرين، وأردنّ، (4) وفلسطين بكسر الفاء، يقال لكلّ مدينة منها جند.
وقال ابن الجواليقى: (5) وشيزر اسم موضع لا أحسبه عربيّا صحيحا، وفى الصحاح:(6) شيزر بلدا، وقال امرئ القيس (من الطويل):
نقطع أسباب اللبانة والهوى
…
عشيّة جاوزنا حماة وشيزرا
وقد ذكر امرئ القيس (7) حماة فى شعره فدلّ على أنّها قديمة أيضا، وقال أبو عبيدة:
ومن الناس من يبتدئ بالرملة فيجعلها الشام الأعلى وبعدها فلسطين ثم دمشق ثم حمص ثم حلب.
وأمّا مدائن الروم (8) منها قيساريّة، وهى من المدن القديمة وقد مرّ بها امرؤ القيس لمّا وصل الروم ويقال إنّ قبره على جبل قريب منها يقال له عسيب وهو قوله (من الطويل):
أجارتنا إنّ الخطوب تنوب
…
وإنى مقيم ما أقام عسيب
(9)
(1) مأخوذ من مرآة الزمان 16 ب، -4
(2)
مأخوذ من مرآة الزمان 16 ب، -2
(3)
الصحاح 1/ 457 ب
(4)
أردن: الأردن الصحاح، تحريف
(5)
المعرب 206
(6)
الصحاح 2/ 698 آ||بلدا: بلد الصحاح، تحريف
(7)
ديوان امرؤ القيس 62، البيت 21
(8)
مأخوذ من مرآة الزمان 17 آ،6
(9)
ديوان امرؤ القيس 357،1
ومنها عموريّة، وكان ملكها يركب فى مائة ألف فارس وكان حولها ألف عمود ومائتى عمود على كلّ عمود راهب لا ينزل منه إلاّ بالموت، وكانت (106) مركز قيصر، ومنها كان يستعدّ للغارات على بلاد المسلمين الشام والجزيرة وغيرها، ففتحها المعتصم ابن الرشيد لما نذكر من ذلك.
ومنها القسطنطينيّة، وهى المدينة العظمى بناها قسطنطين الملك وهو أوّل من أظهر دين النصرانيّة، قالوا: ولها سبعة أسوار وسمك سورها الكبير أحد وعشرون ذراعا وفيها مائة باب وسمك فصيلها الصغير عشرة أذرع وهى على خليج يصبّ فى البحر الرومى وهى متّصلة ببلاد رومية والأندلس لما نذكر فى باب البحار وذكرها إن شاء الله تعالى.
قلت: (1) وقد جاء فى ذكرها حديث. قال مسلم بإسناده إلى أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من ولد إسحاق فإذا جاؤوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلاّ الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها، ثم يقولون: لا إله إلاّ الله والله أكبر فيسقط الجانب الآخر، فيقولون الثالثة كذلك فينفرج لهم فيدخلونها فيغنمون ما فيها، فبينا هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ أنّ الدجّال قد خرج فيتركون كلّ شئ ويرجعون، وهو حديث طويل وفيه أمارات الساعة، وانفرد بإخراجه مسلم، وقال ثور بن يزيد: هى القسطنطينيّة.
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله (2) حدّثنا يحيى بن إسحاق حدّثنا أيّوب حدّثنى أبو قبيل قال: كنّا عند عمرو بن العاص وسئل: أى المدينتين تفتح أوّلا
(1) المعجم المفهرس 2/ 477؛ صحيح مسلم 8/ 187، الفتن
(2)
المعجم المفهرس 5/ 44؛ مسند أحمد بن حنبل 2/ 176||أيوب: يحيى بن أيوب مسند ابن حنبل
القسطنطينيّة أو رومية؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل يعنى القسطنطينيّة.
ومنها مدينة رومية الكبرى، ذكر ابن خرداذبه فى كتاب المسالك والممالك (1) أنّ طولها من الباب الغربى إلى الباب الشرقى ثمانية وعشرون ميلا، ولها سوران من حجارة بينهما مقدار ستّين ذراعا فضاء وسمك السور الأوّل اثنان وسبعون ذراعا وسمك الثانى اثنان وأربعون ذراعا وبين السورين نهر مغطا ببلاط من نحاس طول كلّ بلاطة سبعة وأربعون ذراعا.
قال: والنهر الذى يدخل فيها من البحر تدخل فيه (107) المراكب بقلوعها فتقف على حوانيت التجار تبيع وتشترى، وفى داخلها كنيسة بنيت على اسم بطرس وبولس الحواريّين وهما فيها فى جرن من الرخام مدفونين.
قال: وطول هذه الكنيسة ثلاثة آلاف ذراع وعرضها ثلاثمائة ذراع وقيل ألف ذراع وهى مبنيّة على قناطر من صفر ونحاس وكذا سائر أركانها وسقوفها وحيطانها وهى من عجائب الدنيا، قالوا: وفيها كنيسة مثل بيت المقدّس على عرضه وطوله مرصّعة باليواقيت والجواهر والزمرّد وطول مذبحها عشرون ذراعا من الزمرّد الأخضر وعرضه ستّة أذرع يحملها اثنا عشر تمثالا من الذهب الإبريز طول كلّ تمثال ذراعا ونصف ولكلّ تمثال عينان من الياقوت الأحمر تضئ الكنيسة منها ولها ثمانية وعشرون بابا وطول هذه الكنيسة ميل وأبوابها من الذهب الأحمر.
قال: ولمدينة رومية ألف باب من النحاس الأصفر سوى العود والصنوبر والخشب المنقوش بالأبنوش وغيره الذى لا يدرى قيمته، قالوا: وبها ألف ومائتى
(1) المسالك 113 - 115
كنيسة وأربعون ألف حمّام وفيها طلسمات للحيّات وللقارب (1) لا تدخل إليها وطلسم يمنع الغريب من الدخول إليها، وملكها يقال له الباب وهو الحاكم على دين النصرانيّة كلّها برّها وبحرها، ومنزلته بمنزلة الخليفة فى المسلمين.
وفى وسطها سوق يباع فيه الطير مقدار فرسخ وتقديرها ثلاث فراسخ وبها عجائب كبيرة أخر نذكرها فى باب العجائب المفرّقة فى أقطار الأرض إن شاء الله تعالى.
وأمّا مدائن مصر (2) وما والاها فقد أخّرنا كثيرا من ذلك نذكره فى الجزء الثانى من هذا التأريخ ليكون ذلك يتلو بعضه بعضا عند ذكرنا لملوك مصر من قبل الطوفان وبعده واعتنينا بذلك كلّ العناية ولعلّ لم تخل بملك من ملوكها من أوّل ما خلق الله تعالى الدنيا وإلى آخر وقت.
(108)
وأمّا ما يليق (3) بأن نذكر هاهنا، (4) قال ابن حوقل فى كتاب الأقاليم:
أما مصر فلها حدّ ينتهى يأخذ من بحر القلزم خلف العريش إلى رفح ثم يعود على ساحل البحر الرومى إلى الاسكندريّة إلى برقة فى البريّة، ثم إلى الواحات، ويمتدّ إلى بلاد النوبة، ثم يعطف على حدّ أسوان إلى أرض البحاة: وينتهى إلى القلزم إلى طور سيناء، ثم يعطف إلى تيه بنى إسرائيل مادّا فى الجفاء إلى بحر القلزم مكان مبتدأه، هذا ما حدّه ابن حوقل وسنذكر أيضا قول غيره فى ذلك فى مكانه.
(1) للقارب: للعقارب مرآة الزمان، تحريف
(2)
مأخوذ من مرآة الزمان 17 ب، -11
(3)
مأخوذ من مرآة الزمان 17 ب، -11
(4)
صورة الأرض 1/ 132؛ فأما مصر فلها حد يأخذ من بحر الروم من الإسكندرية ويزعم قوم من برقة فى البرية حتى ينتهى إلى ظهر الواحات ويمتد إلى بلد النوية ثم يعطف على حدود النوبة من حد أسوان على أرض البجة فى قبلى حتى ينتهى إلى بحر القلزم ثم يمتد على بحر القلزم ويجاوز القلزم إلى طور سينا ويعطف على تيه بنى إسرائيل مارا إلى بحر الروم فى الجفار خلف العريش ورفح ويرجع على الساحل مارا على بحر الروم إلى الإسكندرية ويتصل بالحد الذى قدمت ذكره من نواحى برقة
قال ابن حوقل: (1) ومن مدائنها العتيقة منف، وهى مدينة فرعون موسى، وقيل إنّها عين شمس، وكان قد بلغ فى بنائها وجعل لها سبعين بابا وبناء حيطانها بالصفر والنحاس وزخرفها بالذهب والفضّة وأجرى إليها النيل وقسمه أنهارا تجرى تحت قصره مع سائر قصورها حتى الماء يجرى تحت سريره، وافتخر وقال:
أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى؟ وسنذكر من أمرها جملا كثيرة لما أوعدنا.
ومن مدنها الإسكندريّة، واختلفوا فى بانيها على أقوال: أحدها أنّه شدّاد ابن عاد، قاله وهب. والثانى أنّه الإسكندر الأوّل ذو القرنين وهو المقدونى، قال الهيثم بن عدّى: مقدونة هى أرض مصر وإنّما سمّيت مصر بمصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. وسنذكر ذلك مفصّلا، قال ابن حوقل:(2) وكان مصر لمّا انفصل عن بابل نزلها فسمّيت به ونسبت إليه، وقسمها بين أولاده الأربعة وهم:
قبط، واشموم، وأترب، وحنا. قلت: هذا غلط من راويه، وسيأتى ذكر أولاد مصر الأربع وهؤلاه المذكورون بنى بنيه كما نبيّن ذلك فى موضعه الائق (3) به إن شاء الله تعالى.
قال: وكان قبط الأكبر وسمّى كلّ مكان باسم ولد، قال: وقال الهيثم:
(109)
بن عدّى: مرّ بها ذو القرنين فأعجبه مكانها وصحّة هوائها فأمر بعمارتها فلما شرع وجد أثر البنيان القديم ومرمرا ورخاما وعمودا عليه مكتوب بالقلم المسند من أقلام حمير فحلّه فإذا هو: أنا الملك شدّاد بن عاد، شددت بساعدى
(1) قارن صورة الأرض 160/ 19
(2)
لا يوجد الخبر فى صورة الأرض، واسم ابن حوقل ناقص فى مرآة الزمان؛ لكن قارن مروج الذهب 2/ 85، مادة 806 - 808؛ أخبار الزمان 153
(3)
الائق: اللائق
البلاد، وقطعت الأطواد، وبنيت «{إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ}» ، التى لم يخلق مثلها فى البلاد، وأردت أن أبنى هنا مثل إرم، وأنقل إليها كلّ ذى قدم، من جميع الأمم لا خوف ولا هرم، ولا غمّ ولا سقم، فأصابنى الدهر بسهمه وسقانى سمّه، فكان مقتلى، وأخرجنى من دارى ووطنى، فمن رآنى فلا يغترّ بالدنيا بعدى.
قال: فلمّا قرأ الإسكندر ما على اللوح قوى عزمه على بنائها فجمع الحكماء والمهندسين وأرباب الرصد وهيّأ الأخشاب والحجارة، وقال بعد ما جعل عند الأساس أجراسا للمنجّمين: إذا أخذتم الطالع فحرّ كوا هذه الأجراس لنضع الأساس فى تلك الساعة وذلك برأى منّى، واتّفق أنّ الإسكندر نام فى تلك الساعة والمنجّمون يرصدون فأتى غراب فقعد على إحدى الأجراس وهو الأكبر وحرّكه فتحرّكت الأجراس عن يد واحدة فوضع الصنّاع الأساس وصاحوا صيحة انتبه لها الإسكندر فلمّا رأى الغراب فهم القضيّة فقال: فهمنا المقصود وأردنا أمرا وأراد الله غيره، وأمر بإتمام العمل والبناء.
قال، فلمّا تمّ السور خرجت فى الليل من البحر دوابّ على صورة الشياطين فأخربوه فأعاد البناء مرارا وهو يهدم فجمع الحكماء والمهندسين حتّى تحقّقوا صورهم وإذا بهم شياطين فعملوا طلسمات من نحاس على صورهم ثم جعلوا (1) على أعمدة من نحاس فلمّا خرجت الشياطين ورأوا تلك الصور ولّوا هاربين ولم يعودوا وتمّ البناء، قلت: هذا ما ذكره ابن حوقل (110) رحمه الله، (2) والمستحسن فى هذا القول ما نذكره فى مكانه إن شاء الله تعالى.
قال ابن حوقل أيضا: (3) ثم بنى الإسكندر عليها سبعة أسوار بين كلّ سورين خندق فتمّ بناؤها فى مائة سنة.
(1) جعلوا: جعلوها مرآة الزمان
(2)
ابن حوقل: غلط ابن الدوادارى، والصحيح: سبط ابن الجوزى
(3)
ابن حوقل: غلط ابن الدوادارى، والصحيح: سبط ابن الجوزى
والثالث من الأقوال فى بنائها: إنّ الذى بناها هى الملكة دلوكة لتجعلها مرقبا من ناحية الروم لأنّ الروم إنّما ملكت مصر منها، قاله النوبختى، قلت:
وسنذكر ما يستحسن أيضا فى هذا الفصل.
والرابع: إن الذى بنا الأهرام بناها وإنّما أضيفت إلى الإسكندر لأنّه سكنها، قال النوبختى: مكث أهلها سبعين سنة لا يمشون بالنهار إلاّ وعلى وجوههم خرق سود لشدّة بياضها ولقوّة شعاع حيطانها وصقالها.
وأمّا منارتها: ذكر صاحب كتاب المسالك والممالك (1) أنّ المنارة على سرطان من زجاج فى البحر من صناعة الإسكندر، والصحيح أنّها على جبل فى البحر، والصحيح أنّها بنيت قبل وصول البحر إليها وكان بين ذلك الجبل التى بنيت عليه وبين البحر مسافة وإنّما البحر تقدّم إليها على طول السنين والآن فقد أكل الماء معظّمه، (2) وقد شاهدته بالمعاينة.
وقيل إنّ الإسكندر لمّا مات كسروا آنيته التى كانت لطعامه وشرابه وجمعوا جميع، جواهره وذخائره، وجعلوا الجميع فى سرطان من زجاج ودفنوه فى أساس المنارة، قال ابن الجوزى:(3) قال جدّى رحمه الله فى كتابه المنتظم أنّه كان على رأس المنارة مرآة، إذا نظر الناظر فيها قبل طلوع الشمس رأى من يكون بالقسطنطينيّة وبينهما عرض البحر، ثم قال: إنّما نقله جدّى من كتاب المسالك والممالك وليس كما ذكر صاحب المسالك فإن مسافة ما بين القسطنطينيّة والإسكندريّة نيفا وأربعين يوما إذا طابت الريح على ما حكاه المسافرين، وإنّما بين جزيرة قبرص والإسكندريّة إذا طاب الهواء مسيرة ثلاثة أيّام فكأنّ الناظر
(1) المسالك 160،19 - 21
(2)
وقد-بالمعاينة: وقد شاهدته فى سنة أربعين وستمائة وصعدت إلى رأسها والمنارة على خطر مرآة الزمان.
(3)
المسالك 115،18
قبل طلوع الشمس ينظر فيها إلى المراكب (111) وقد أقلعت من قبرص فيخبر أهل البلد فيستعدّون للحرب.
فتحيّل ملوك الفرنح حتى قلعوا المرآة من المنارة، واختلفوا فى أىّ زمان قلعت المرآة المذكورة على قولين، أحدهما فى زمان الوليد بن عبد الملك بن مروان، قال: وكان الإسكندر قد صنع هذه المرآة بحكمته حفظا للبلد من العدوّ أن يدهمها بغتة، فلمّا كان فى زمن الإسلام وكان فى عزم ملوك الروم قصد مصر فلم يتأتّى لهم ذلك وكان لهم ملك داهية فأظهر الغضب على خادم له وكان خصيصا به وكان الخادم باقعة ذا مكر وخديعة، فأعطاه أموالا عظيمة من جواهر ويواقيت وأسرّ إليه أن يحتال فى تلك المرآة وقلعها وقرّر معه ما يضع، قال: فخرج ذلك الخادم إلى البلاد ودفن تلك الأموال فى عدّة أماكن متفرّقة وتوصّل بعد ذلك إلى الوليد ابن عبد الملك فأسلم على يده وقال: أنا خادم الملك الفلانى وقد رغبت فى الإسلام وقد وقد وقع لى كتاب فيه أسماء المطالب التى بالشام ومصر فساعدونى بالمال والرجال لترى ما أصنع.
وكان الوليد شرها فأمدّه بما طلب فصار يحفر تلك الحفائر التى أودع فيها تلك الأموال والجواهر ويحملها إلى الوليد فسرّ بذلك واستولى عليه وملك قلبه وأخذ منه من الأموال أضعاف ما كان يحمل إليه، وكان يبعث بها إلى مولاه ملك الروم سرّا أوّلا فأوّلا فقال الخادم للوليد إنّ تحت المنار التى بالإسكندريّة ذخائر الإسكندريّة وذخائر شدّاد بن عاد وملوك مصر لا يعلمها إلاّ الله تعالى، فابعث معى رجالا لنهدم المنار! وكان طولها ألف ذراع والمرآة على رأسها، فبعث معه الرجال فهدم منها جانبا فثار المسلمون وأرادوا قتل ذلك الخادم وقالوا: تهدم هذه المنارة وهى معقل الإسلام بقول علج، فأمهل الخادم إلى الليل وقد أعدّ مركبا لطيفا بالقرب منه وصعد إلى المنار نصف الليل وقلع المرآة ورمى بها (112) فى
البحر وركب من وقته ذلك المركب المعتدّ له وتوجّه إلى بلاده وتمّت الحيلة، ذكر ذلك المسعودى. (1)
والقول الثانى إنّ الواقعة كانت فى زمن الحاكم العبيدى وإنّ بعض ملوك الروم تزيّا راهبا وأظهر الإسلام وأقام يتعبّد فى المنار حتى وجد فرصة فقلعها فى الليل ورمى بها فى البحر وهرب فى مركب معتدّ له، ذكر ذلك أبو سعيد ابن يونس فى تأريخ مصر.
قال ابن الجوزى: (2) وذكر جدّى رحمه الله فى كتابه المنتظم قال: كان بالإسكندريّة ستمائة ألف يهودىّ ونصرانىّ خولا لأهلها، قال: وهذا يحتمل أنّه كان فى قديم الزمان. أمّا اليوم فلا يبلغ أهلها كلّهم هذا العدد المذكور.
وحكى ابن عساكر رحمه الله فى تأريخه (3) فى حرف الهمزة فى من اسمه أسامة بن زيد بن عدى أبو عيسى الكاتب التنّوخى قال: كان بالإسكندريّة صنم يقال له شراحيل على خشفة من خشف البحر وهى فى الجزيرة وكان مستقبلا بأصبعه القسطنطينيّة لا يدرى أكان ممّا عمله سليمان أو الإسكندر فكانت الحيتان تجتمع عنده وتدور حوله فيصاد منها ما شاء الله، فكتب أسامة إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بخبر الصنم ويقول: الفلوس عندنا قليلة فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع الصنم ويصيره فلوسا ففيه الكفاية، فأرسل الوليد رجالا أمناء فأنزلوا الصنم من الخشفة فوجدوا عينيه ياقوتتين حمراوتين لا قيمة لهما فذهبت الحيتان بعد ذلك فلم تعد إلى ذلك المكان.
وأمّا بلاد المغرب فسنذكر منها جملا تأتى فى أماكنها اللائقة بها، فنذكر
(1) مروج الذهب 2/ 105 مادة 738
(2)
المسالك 160،20 - 21
(3)
تهذيب ابن عساكر 1/ 402