الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع عدّة مخلوقين لا تدرك فأفسدت الجنّ أيضا فى الأرض وبغا بعضهم على بعض وغارت القبائل منهم عليهم وكانت بينهم حروب وقتال وقتل وزاد الأمر فأهبط الله تعالى إليهم إبليس وجعله ملكا فى الأرض وأمره بقتال الجنّ وقتلهم (211) فقاتلهم وقتلهم قتلا ذريعا وأخلى منهم العامر من الأرض وأسكنهم خرابها لما نذكر من ذلك إن شاء الله تعالى.
ذكر إبليس والزهرة وهاروت وماروت
من تأريخ جدع بن سنان
قال جدع بن سنان: إنّ إبليس من خلق الجنّ من مارج من نار، وكان عظيم الخلق حسنه وكان يسكن الأرض، وسبب اتّصاله بمحلّ الملائكة أنّه كان خادما للزهرة، وكانت الزهرة خلقا حسنا فى الأرض من جملة مخلوقات الله عز وجل، وكانت أنثى ذات جمال فائق ونور ساطع وبهاء وافر، وكانت الحروب يومئذ بين قبائل الجنّ متّصلة، فلمّا قال الله تعالى للملائكة:{إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»} (1)، وقرئت:«خليقة» قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ»} (2)، بناء لما فعله الحنّ والبنّ والطمّ والرمّ والجنّ.
قلت: هذا ما ذكر فى هذا التأريخ الغريب إذ قصدنا نورد هاهنا ما تضمّنه من القول وإنّما سأذكر من ذلك ما استخرجته من الصحيحين، وما ورد من تفسير هذه الآية من الوجوه الحسنة وذلك فى أوّل الجزء الثانى منه عند ذكرنا لخلق آدم عليه السلام، ومنها ورد هاهنا فهو جمع لما قالوه جماعة من المؤرّخين.
(1) القرآن الكريم 2/ 30
(2)
القرآن الكريم 2/ 30
قال جدع بن سنان رحمه الله: فقال الله تعالى وهو أعلم بما يكون وبما كان وما هو كائن: فاختاروا أيّتها الملائكة من بينكم من ينزل إلى الأرض فيحكم بين مخلوقاتى ويأخذ القصاص ممّن بغا من بغى عليه فإنّى لا أحبّ الظلم وأنا القوى العزيز! قال: فاختاروا من بينهم الملكين هاروت وماروت، وكانا أشدّاء أهل السموات السبع عبادة وأكثرهم (212) تسبيحا وتقديسا.
فكانا ينزلان إلى الأرض فيحكمان فيها بين مخلوقات الله عز وجل على اختلاف أنواعهم وتغاير أجناسهم وتباين خلقهم من عدّة أمم لا تحصى وخلائق لا تدرك فى البرّ والبحر، الجميع يفدون على هاروت وماروت ويحتكمون إليهما من خلق البرّ والبحر حتى إنّ الذرّة لتأتى إليهما وتقول: إن الذرّة مثلى غدت على قوت لى كنت قد ادّخرته لمشتاى فيحكمان بينهما بما ألهمها الله تعالى من فصل الخطاب، حتى إنّ السمكة الصغيرة تستغيث بهما من أذاء الكبيرة فيغيثاها ويمنعاها من أذاءها.
ولا يزالا كذلك طول نهارها إلى آخره فإذا جنحت الشمس للغروب نهضا وقالا: سبحانك اللهم وبحمدك، فيكون ذلك منتهى حكمهما ذلك اليوم، ثم يتليان أسماء الصعود فيصعدان إلى محلّ عبادتهما.
قال: فركّب الله تعالى فيهما حبّ الشهوة وأتت الزهرة تستغيثهما من حادث حدث عليها فامتحنا بها لمّا عايناها وعادا يردّدانها فى حكومتها ذلك اليوم أجمع وقد اشتغلا بها عن سائر الحكم بين الخلائق ولم يحكمان ذلك اليوم بين أحد من خلق الله عز وجل حتى نصراها على غريمها ومالا على غريمها وحكما عليه بغير الحقّ.
قال جدع بن سنان: فلمّا كان وقت صعودهما قالت لهما الزهرة وقد تحقّقت
ميلهما إليها: لو علّمتمانى الأسماء حتى كنت أصعد معكما ولا أفارقكما، قال:
فإنّى قد علمت مراد كما، قال: فعلّماها الأسماء، وكان إبليس قائما معها فاسترق الأسماء وسبقها صعودا ثم تبعته، فمسخت كوكبا فى السماء الثالثة وذلك كان مكان محلّ عبادة هاروت، وصعد إبليس إلى محلّ عبادة ماروت فى السماء الدنيا وتقرّب بالعبادة والتسبيح والتقديس حتى تعجّبت منه ملائكة (213) السماء الدنيا فاشتاق إليه أهل السماء الثانية فطلع وصعد إليهم وفعل من الاجتهاد فى العبادة فوق ما فعله فى السماء الدنيا، فاشتاق إليه أهل السماء الثالثة فصعد إليهم وفعل كذلك، ولم يزل يتقرّب بالعبادة وكثرة التسبيح والتقديس حتى سمّى طاؤوس الملائكة وعاد قريب القدرة ونديم الحضرة وعلم بإرادة الله عز وجل وبما سبق له فى غامض علمه الذى لا يعلمه سواه جميع المخلوقات فى السموات السبع والأرضين السبع.
قال جدع بن سنان: (1) فلمّا كثر فساد الجنّ فى الأرض لما تقدّم فى ذلك من القول وقد ذكرت الهند والفرس واليونان فى كتبهم-من رواية المسعودى رحمه الله-قال: إنّ الجنّ كانوا أحد وعشرين قبيلة وإنّ بعد خمسة آلاف سنة من خلقهم ملكوا عليهم سبعة ملوك وجعلوا لكلّ يوم وليلة من أيّام الجمعة لملك من السبعة يحكم فيه عليهم بما شاء كحكم الملوك.
قال الإمام فخر الدين الرازى المعروف بابن خطيب الرىّ رحمه الله: هؤلاء الملوك السبعة حكّام الأيّام السبعة خدّام الكواكب السبعة وهم من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، فيوم الأحد الحاكم فيه شمهورش، ويوم الاثنين الحاكم فيه برقان الأعظم، ويوم الثلاثاء الحاكم فيه زوبعة، ويوم الأربعاء الحاكم فيه ميمون
(1) أخبار الزمان 12
السحابى، ويوم الخميس الحاكم فيه الأبيض، ويوم الجمعة الحاكم فيه الأحمر، ويوم السبت الحاكم فيه المذهب.
وقيل غير ذلك فى تنقّل الأيّام بين هؤلاء الملوك السبعة، والمتفّق عليه أنّ أسماءهم هذه، ومنهم من قال إنّهم جميعهم من أولاد إبليس ومنهم من قال إنّهم ملوك الجنّ من قبل هبوط إبليس إليهم وإنّ إبليس قاتلهم وأجلاهم (214) عن العامر من الأرض وأسكنهم خرابها.
وأمّا الزهرة فمسخت كوكبا حسبما ذكرنا، وأمّا هاروت وماروت فإنّهما لمّا علّما الزهرة وإبليس الأسماء سلباها وعلما أنّهما قد عصيا فسألا الله عز وجل عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة فهما يعذّبان بأرض بابل، ويعلّمان الناس السحر كما قال الله تعالى فى كتابه العزيز:{وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ»} (1)، الآية.
وقد عنوهما الشعراء وذكروهما فى أشعارهم ونسبوا إليهما السحر ولذلك عرفت بابل بالسحر، ومن جملة من ذكرهما فى شعره من شعراء الدولة الأيّوبيّة كمال الدين ابن النبيه عفى الله عنه، فقال من قصيدة (من البسيط):(2)
فلو رآ مقلتاه (3)
…
هاروت آيته الكبرى
لآمن بعد الكفر ساحره
وهذه القصيدة من قصائده الطنّانات التى أوّلها يقول (من البسيط):
باكر صبوحك أهنى العيش باكره
…
فقد ترمّم فوق الأيك طائره
والليل تجرى الذرارى فى مجرّته
…
كالروض تطفو على نهر أزاهره
وكوكب الصبح نجّاب على يده
…
مخلّق تملأ الدنيا بشائره
(1) القرآن الكريم 2/ 102
(2)
ديوان ابن النبيه 93؛ فوات الوفيات 3/ 69؛ رآ: رأت الديوان |
(3)
مقلتاه: مقلتا الديوان
فانهض إلى ذوب ياقوت لها حبب
…
تنوب عن ثغر من تهوى جواهره
حمراء فى وجنة الساقى لها شبه
…
فهل جناها مع العنقود عاصره
ساق تكوّن من صبح ومن غسق
…
فابيضّ خداه واسودّت غدائره
سود سوالفه لعس مراشفه
…
نعس نواظره خرس أسواره (1)
تعلّمت بانة الوادى شمائله
…
وزوّرت سحر عينيه جآذره
منها:
قامت أدلّة صدغيه لعاشقه
…
على عذول أتا فيه يناظره
بنىّ حسن أظلته ذوائبه
…
وقام فى فترة الأجفان ناظره
منها:
فلو رأى مقلتاه (2)
…
هاروت آيته ال
كبرى لآمن بعد الكفر ساحره
(215)
خذ من زمانك ما أعطاك مغتنما
…
وأنت ناه لهذا العمر آمره
فالعمر كالكأس تستحلا أوائله
…
لكنه ربما مجّت أواخره
واجسر على فرص اللذّات محتقرا
…
عظيم ذنبك أن الله غافره
وفى هذه القصيدة امتدح الملك الأشرف مظفّر الدين موسى بن العادل بن أيّوب لما نذكره فى تأريخه إن شاء الله تعالى، وأضربنا عن كثير من شعر ابن النبيه المذكور فى جميع أجزاء هذا التأريخ للعلّة التى يأتى ذكرها فى الموضع اللائق بها.
ولبعض المصريّين من قصيدة امتدح بها القاضى المرحوم علاء الدين بن الأثير صاحب ديوان الإنشاء الشريف فى أوّل الدولة الناصريّة بالمملكة الثالثة أعزّها الله بالنصر والقهر، وأدام أيّام مولانا مالكها إلى آخر الدهر، تضمّن
(1) أسواره: أساوره الديوان
(2)
قارن ص 240،15