الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتشرّعين من أهل السنّة والجماعة: الجسم محدود بالطول والعرض ونحوه والبارئ سبحانه ليس بمحدود، وأمّا الآيات والأخبار فمأوّلة (17) بما يليق سبحانه وتعالى علوّا كبيرا.
وهو (1) موصوف بما وصف به نفسه من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام ونحوه فى كتابه القديم وعلى لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
ذكر أوّل مقامة من مقامات ابن الجوزى يليق ذكرها هاهنا
قال الشيخ الإمام العالم الحافظ أبى الفرج عبد الرحمن بن علىّ بن محمّد بن علىّ ابن الجوزى رحمه الله وغفر لنا وله وللمسلمين أجمعين:
بدرت خاليا والفجر قد تلى السحر، فتلوت تاليا كلّما تلى سحر، فترنّم بقوله:{أَفِي اللهِ شَكٌّ»} (2)، فقلت فى نفسى: فكيف شكّ من شكّ، فخلطت باقتناعيّات ليس فيها برهان، فبدلت الدليل على الدليل ما عزّ وماهان، فصاح الفكر بالنفس:
اقطعى، ثم قال: يا صاح قم معى، فأتى بى معقل العقل، فولجنا بعد الإذن، فإذا ذو سن وسنا، ما محاسنه محاسنه، فقال الفكر: السلام عليك يا أبا التقويم، يا معدن العلم وأصل التعليم، فقال: صدر زمان طويل لم تأتينا، قال: حبيت فى مشكلة فافتتنا، فابتدئت أشرح له ما جرى، كأنّه يرى فلما عاين طالبا للحقّ بدليله، قال:
أنا أنبثكم بتأويله.
ثم حمد الله سبحانه بمحامد، لم أسمعها قطّ من حامد، ثم قال: من ظلّ يطلب الحقّ من الحسّ ضلّ، لأنّه محجوب بعيد منه عز وجل، وليعلم أنّ الحسّ لا يرى من الموجودات إلاّ الحاضر، ولا ناظر له إلى الغائبات ناظر، وإنّما الآلة
(1) مأخوذ من مرآة الزمان 7 آ، -4
(2)
القرآن الكريم 14/ 10
التى يعرف بها الإله أنا، فلو صحبتنى بلغت المنى، أنا جارك وما تعرفنى وبازائك ولا تألفنى، فلو تلفّفت عنّى سلمت من التغنّى. ولقد علم الفطناء أن نصحى يصحّى، فقلت: أنا شاكر للفكر إذ دلّنى، فعلم فعلى فعلنى.
فقال: إنّ الخالق سبحانه قد ظهر لخلقه بحقّه، غير أنّ عالم الحسّ لا يرونه (18) وإن كانت الحسّيّات دليلا عليه، ومعبرا إليه، انظر إليك ويكفى وتأمّل ما لديك ويشفى تلمح قطرة قطرة ماء صبّت عن اتّقاد نار الشهوة كيف ظهرت فيها عن حركات اللذّة، وقوم نقوش عقدتها يد القدرة، كما تظهر الصورة فى ثوب السقلاطون عن حركات الشدّ، تدبّر نطفة مغموسة فى دم الحيض ونقّاش القدرة يشقّ سمعها وبصرها من غير مساس كفّ، تربّى فى حرز مصون عن مشعب بينا هى ترفل فى ثوب نطفة، اكتسب برداء علقة، ثم اكتسبت صفة مضغة، ثم انقسمت إلى لحم وعظم، فاستترت من يد الأذى بوقاية جلد، فلمّا افتقرت أيّها الآدمى إلى الغذاء فى البطن ساق إليك من دم الحيض وهو من دم الأمّ.
فلمّا قوى جلد جلدك على مباشرة الهواء وبصرك على ملاقاة الأضواء أخرجك بما أزعجك، ثم صرّف ما كنت تغتذى به إلى التديين بعد أن أحاله لبنا عن صفة الدمويّة إلى حالة اللبنيّة، فلما عطشت عند الخروج إلى فلاة الدنيا رأيت أدواتى الثديين ممتليين لشربك، وكانت عمور الأسنان تكفى فى اجتذاب المشروب فكلّما اعتصرته خرج مغربلا لئلاّ يقع شرق.
فلمّا قويت المعاء وافتقرت إلى غذاء فيه صلابة أنبتت الأسنان للقطع والأضراس للطحن، فكم من صوت بين أرجل هذه النقل من تحريك جلاجل العبر فى خلاخل الفكر، كلما رنّت غنّت السن الهدى فى معانى المعانى وكيف تسمع أطروس السقوة.
ومن الطرائف أنّه أخرجك غبيّا {لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً»} (1) إذ لو خرجت عاقلا لرأيت من أطمّ المصائب تقليبك فى الخرق والعصائب، ثم سلّط البكاء عليك فى حال طفولتك لينشف به رطوبات الرأس ويحصل فى ضمنه التقاضى بالقوت لرحمة الأمّ بك.
انظر إلى الدماغ كيف تكاثفت عليه الحجب لتمسكه فى مكانه وتصونه من أذى يعرض (19) ثم أطبقت عليه الجمجمة لتقيّة حدّ صدمة، ثم حللت بالشعر ليستر الرأس من فرط حرّ أو برد. ثم جعل فيه آلة الذكر والنسيان، وكما أنّ الذكر نعمة فكذلك النسيان إذ لولاه ما سلى فقد ولا مات حقد.
تأمّل خلق البواعث من البواطن لتدبير مصلحة البقاء فمن المتعلّق بالقوت سبع قوى: الأولى تطلب الغذاء والثانية تجتذبه إلى الكبد والثالثة تمسكه لها حتى تطحنه والرابعة تسعى جهدها لتهضمه والخامسة تميّز صفوه من كدره والسادسة تقسم الصافى على الأعضاء بمقدار حاجتها إذ لو بعثت إلى الخدّ ما تبغيه إلى الفخذ صار بمقدارها، والسابعة تدفع تفله، ومن العجيب ستر مكان منفذ التفل وجعله فى غامض البطن كما يجعل موضع التخلّى فى أستر مكان البيت، ثم لمّا افتقرت الأبدان إلى الهواء بتّه فى الفضاء لتقتضب منه النفوس الأنفاس وترقم فيه الأصوات الجوانح كما ترقم فى القرطاس.
ثم انظر إلى آلة النطق ترى مخرج الصوت كالمزمار الكبير والحنجرة كقصبة المزمار والريّة كالزقّ والعضلات التى تقبض الريّة لتخرج الصوت من الحنجرة كالأ كفّ التى تقبض على الزقّ كى يخرج الريح فى المزمار، والشفتان التى تصوغ الصوت حروما ونفعا كالأصابع والأسنان التى مختلف على فم المزمار فتصوغ صفيره
(1) القرآن الكريم 5/ 104
اللحانا، (1) ومن العجب أنّ الأصوات لا تشابه لأنّه لما احتيج إلى معرفة الصوت رفعت الشبه برفع الشبه، وكذلك الصور والخطّ.
ثم انظر كيف مدّ الأرض بساطا ثم أمسكها عن الاضطراب فتمكّن بسكونها السكنى ثم يزلزلها فى وقت ليفطن الساكن بقدره المزعج وجعل منها نوع رخاوة ليتهيّأ للحفر والزرع، ورفع جانب الشمال لينحدر الماء وفرق الماء بين الجزائر ليرطب الهواء وأودع فيها المعادن كما تودع الحاجات فى الخزائن.
ثم أخرج الحبّ (20) لبنى آدم والأب للبهائم والحطب للوقود، تأمّل قيام الشجر كلّما طال فى السماء الفرع امتدّت العروق فى الأرض كقيام العمد بالأطناب، ولولا ذلك لم تثبت النخل فى العواصف من الرياح، ثم إنّها تموت وتحيى فهى فى حال يبسها متشهّة بالغائب فإذا همّت بالقدوم بشّر نور النور.
تأمّل الرمّانة كيف حشيت الشحم بين الحبّ ليكون غذاء لها إلى وقت عود المثل ثم بين كلّ حشوين لقّافة لئلاّ تنصال (2) فيجرى ماؤه، ولمّا كانت العيون لا تبصر إلاّ بواسطة الضوء خلق الشمس سراجا ومنضجا للثمر تجرى من غير توقّف إذ لو وقفت حجبها عن بعض الأماكن جبل أو جدار لكنّها تسير ليعمّ نفعها، فإذا تعبت الأبدان من الحركة بالنهار غابت لتسكن فيزول كدّ الكلال بالاستراحة وتقوى القوى بتلك الراحة، فإن عرضت حاجة بالليل ففى القمر خلف ولو أضاء فى جميع الشهر لانبسط الناس فى أعمالهم فأدى الحرص كدّه، ومتى غاب القمر كانت أنوار الكواكب كشعل النار فى أيدى المقتبسين.
ثم إنّ الشمس ترتفع تارة وتنخفض تارة أخرى فيختلف الزمان بين شتاء تغور فيه الحرارة فى الشجر فتعقد موادّ الثمر ويكيّف الهواء فينشأ السحاب، وربيع
(1) اللحانا: الحانا
(2)
تنصال: تنسال
تظهر فيه تلك الموادّ التى انعقدت فى بواطن الشجر، وصيف ينضج فيه الثمر، وخريف تستريح فيه، ثم تلمح الحرّ والبرد كيف يدخل كلّ واحد منهما على صاحبه بتدريج لئلاّ يفجأ الأبدان فتضطرّ.
ثم انظر إلى خلق النار التى لا بدّ للخلق منها فلو ثبتت فى العالم لأحرقته لكنّها جعلت كالمخزون تستتار (1) وقت الحاجة فتمسك بالمادة قدر مراد الممسك.
تأمّل خلق الطير فإنّه لما قدر له الطيران تخفف جسمه وأدمج خلقه واقتصر له على جناحين فائمتين وجعل له جؤجؤ محدّد يخرق به الهواء كما تخرق السفينة بجؤجؤها الماء، وأطيل (21) ريش جناحيه وذنبه لينهط (2) للطيران وكسى جسمه كلّه الريش لما (3) يدخل فيه الهواء فيقلّه، ولمّا كان يختلس قوته خوف اصطياد صلب منقاره لئلاّ ينسجح من الالتقاط ونقص الأسنان لأنّ زمان الانتهاب لا يحتمل المضغ، وجعلت له حوصلة كالمخلاة ينقل إليها ما تيسّر على عجل ثم يدفعه إلى القانصة فى زمن الأمن على مهل، وزيدت جوفه حرارة لتطحن ما لم تمضغه، فإن كانت له فراخ أسهمهم من الحاصل فى الحوصلة قبل النقل فإن كان ممّن لا حنّة له على فراخه أغنوا عنه بالاستقلال من حين انشقاق البيضة كالفراريج فإنّها تخرج كاسية كاسية، أو ما علمت أنّ الفرخ من البياض يخلق وبالمحّ يغتذى كما يغتذى الطفل بدم الحيض لأنّ القشر لمّا كان مانعا من وصول قوت أعطى ما يتقوّنه، ولما بثّ الطير صان السنبل بتشور محدّدة لئلاّ ينشفه فيموت بشما فيعوب الحظان، ولما جعل رزق طائر الماء فى الماء طوّل ساقاه فهو مقيم فى ضحضاح فإذا رأى صيدا خطا إليه ولو قصرت قائمتاه كان حين سعيه يضرب الماء بطنه فينفر الصيد.
(1) تستار: تستثار
(2)
لينهط: لينهض
(3)
لسا: لئلا
وفى الطير ما لا ينشر إلا بالليل كالخفّاش والبوم فما يخليه الرازق مع اختفاء الصيد من معاش هو يتناول من البعوض والفراش وغير ذلك.
وهل نظرت إلى إلهام البهائم ما يشابه فطن العقلاء ليكون عونا لها على البقاء فإنّ النملة تتّخذ الربية فى نشر لئلا يتأذّى قوتها بالعفن ويقطع الحبّ لئلاّ ينبت، ولبث الذباب يسكن كالميّت فإذا عقلت عنه الذبابة وثب، والعنكبوت تنسج شبكة للذباب.
قال: فلمّا أملّ العقل على كاتب السمع من هذا ما أملّ، قال اكتف بهذا الصاع كيلا كى لا نملّ، فلقد تجلّى الحقّ للخلق فرأته الألباب عيانا، غير أنّ أعمى البصيرة قد أعيانا، قلت: فإذا كان الدليل الواضح قد دلّ، فما بال أكثر الخلق قد ضلّ، قال: إنّه خلط الأدلّة (22) الجليّة بالشبه، وأقام العقل يفرق ما اشتبه، فمن الناس من لم يرفع النضيّة إلى العقل إهمالا لطلب الصواب، ومنهم من رفعها ولم يلتفت إلى الجواب، وجمهور الضالّين الذين حول العسر جلسوا راموا أن يدركوا بالحسّ ما لا يدرك <إلاّ> بالعقل فلما أعوزهم ذلك خرجوا إلى الجحد.
قلت: أيّها العقل أفتحيط علما بالمعبود، قال: شهدت عندى أفعاله بالوجود فحصل لى المقصود، فأمّا إدراك ذاته فتعجز قوّتى، لأنّ رتبته فوق رتبتى، أتراك لو مررت فى بعض البقاع بقاع ثم عدت وفيه بنيان، أما بان لك وإن لم تبن وجود بان؟
قلت: اذكر لى جملة من صفاته إذ لا سبيل إلى معرفة ذاته! فقال: تعالى عن بعضيّة «من» وتقدّس عن ظرفيّة «فى» وتنزّه عن شبه «كأن» وتعظّم عن نقص «لو أن» وعزّ عن عيب «إلاّ أن» وسما كماله عن تدارك «لكن» مما تنزه عنه «مم» فيما يجب نفيه «فيم» جلّ وجوب وجوده عن رجم