الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلق والمقيد
مدخل
…
15-
المطلق والمقيد: 1
بعض الأحكام التشريعية يرد تارة مطلقًا في فرد شائع لا يتقيد بصفة أو شرط، ويرد تارة أخرى متناولًا له مع أمر زائد على حقيقته الشاملة لجنسه من صفة أو شرط، وإطلاق اللفظ مرة وتقييده أخرى من البيان العربي، وهو ما يُعرف في كتاب الله المعجز بـ "مطلق القرآن ومقيده".
1 انظر "الإتقان" جـ2 ص31.
تعريف المطلق والمقيد:
والمطلق: هو ما دل على الحقيقة بلا قيد، فهو يتناول واحدًا لا بعينه من الحقيقة، وأكثر مواضعه النكرة في الإثبات كلفظ "رقبة" في مثل:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فإنه يتناول عتق إنسان مملوك -وهو شائع في جنس العبيد مؤمنهم وكافرهم على السواء وهو نكرة في الإثبات؛ لأن المعنى: فعليه تحرير رقبة، وكقوله عليه الصلاة والسلام:"لا نكاح إلا بولي""رواه أحمد والأربعة". وهو مطلق في جنس الأولياء سواء أكان رشيدًا أو غير رشيد. ولهذا عرَّفه بعض الأصوليين بأنه عبارة عن النكرة في سياق الإثبات، فقولنا:"نكرة" احتراز عن أسماء المعارف وما مدلوله واحد معين، وقولنا:"في سياق الإثبات" احتراز عن النكرة في سياق النفي فإنها تعم جميع ما هو من جنسها.
والمقيَّد: هو ما دل على الحقيقة بقيد. كالرقبة المقيَّدة بالإيمان في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 2.
1 النساء: 92.
أقسام المطلق والمقيَّد وحكم كل منها:
وللمطلق والمقيد صور عقلية نذكر منها الأقسام الواقعية فيما يلي:
1-
أن يتحد السبب والحكم: كالصيام في كفارة اليمين: جاء مطلقًا في
القراءة المتواترة بالمصحف: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} 1، ومقيدًا بالتتابع في قراءة ابن مسعود:"فصيام ثلاثة أيام متتابعات" - فمثل هذا يحمل المطلق فيه على المقيد؛ لأن السبب الواحد لا يوجب المتنافيين - ولهذا قال قوم بالتتابع2، وخالفهم من يرى أن القراءة غير المتواترة -وإن كانت مشهورة- ليست حُجة، فليس هنا مقيد حتى يُحمل عليه المطلق.
2-
أن يتحد السبب ويختلف الحكم: كالأيدي في الوضوء والتيمم. قيَّد غسل الأيدي في الوضوء بأنه إلى المرافق، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 3، وأطلق المسح في التيمم قال تعالى:{َتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 4، فقيل: لا يُحمل المطلق على المقيد لاختلاف الحكم. ونقل الغزالي عن أكثر الشافعية حمل المطلق على المقيد هنا لاتحاد السبب وإن اختلف الحكم.
3-
أن يختلف السبب ويتحد الحكم، وفي هذا صورتان:
أ- الأولى: أن يكون التقييد واحدًا. كعتق الرقبة في الكفارة، ورد اشتراط الإيمان في الرقبة بتقييدها بالرقبة المؤمنة في كفارة القتل الخطأ، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 5، وأطلقت في كفارة الظهار، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 6، وفي كفارة اليمين، قال تعالى:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 7، فقال جماعة منهم المالكية وكثير من الشافعية: يُحمل
1 المائدة: 89.
2 وبه قال أبو حنيفة والثوري، وهو أحد قولي الشافعي.
3 المائدة: 6.
4 المائدة: 6.
5 النساء: 92.
6 المجادلة: 92.
7 المائدة: 89.
المطلق على المقيد من غير دليل، فلا تُجزئ الرقبة الكافرة في كفارة الظِّهار واليمين، وقال آخرون -وهو مذهب الأحناف- لا يُحمل المطلق على المقيد إلا بدليل، فيجوز إعتاق الكافرة في كفارة الظِّهار واليمين.
وحُجة أصحاب الرأي الأول أن كلام الله تعالى متحد في ذاته، لا تعدد فيه فإذا نص على اشتراط الإيمان في كفارة القتل، كان ذلك تنصيصًا على اشتراطه في كفارة الظِّهار، ولهذا حُمِل قوله تعالى:{وَالذَّاكِرَاتِ} على قوله في أول الآية: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً} 1، من غير دليل خارج، أي: والذاكرات الله كثيرًا، والعرب من مذهبها استحباب الإطلاق اكتفاء بالقيد وطلبًا للإيجاز والاختصار. وقد قال تعالى:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 2، والمراد:"عن اليمين قعيد"، ولكن حُذِف لدلالة الثاني عليه3.
وأما حُجة أصحاب أبي حنيفة فإنهم قالوا: إن حمل {وَالذَّاكِرَِاتِ} على: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرا} جاء بدليل. ودليله أن قوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرا} ولا استقلال له بنفسه، فوجب رده إلى ما هو معطوف عليه ومشارك له في حكمه، ومثله العطف في قوله تعالى:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} وإذا امتنع التقيد من غير دليل، فلا بد من دليل، ولا نص من كتاب أو سُنة يدل على ذلك. والقياس يلزم منه رفع ما اقتضاه المطلق من الخروج عن العهدة بأي شيء كان، مما هو داخل تحت اللفظ المطلق، فيكون نسخًا، ونسخ النص لا يكون بالقياس.
ويُجاب عن ذلك من أصحاب الرأي الأول بأننا لا نُسلِّم أنه يلزم من قياس المطلق على المقيد نسخ النص المطلق، بل تقييده ببعض مسمياته، فتُقيَّد "الرقبة" بأن تكون مؤمنة، فيكون الإيمان شرطًا في الخروج عن العهدة.
كما أنكم تشترطون فيها صفة السلامة ولم يدل على ذلك نص من كتاب أو سُنة.
1 الأحزاب: 35.
2 سورة ق: 17.
3 انظر "الأحكام" للآمدي جـ3 ص5، و"البرهان" للزركشي، جـ2 ص16.
ب- الثانية: أن يكون التقييد مختلفًا، كالكفارة بالصوم، قيَّد الصوم بالتتابع في كفارة القتل، قال تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} 1، وفي كفارة الظِّهار، قال تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 2، وجاء تقييده بالتفريق في صوم المتمتع بالحج. قال تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 3، ثم جاء الصوم مطلقًا دون تقييد بالتتابع أو التفريق في كفارة اليمين قال تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} 4، وفي قضاء رمضان قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 5، فالمطلق في هذا لا يُحمل على المقيد؛ لأن القيد مختلف. فحمل المطلق على أحدهما ترجيح بلا مرجح.
4-
أن يختلف السبب ويختلف الحكم: كاليد في الوضوء، والسرقة، قُيدت في الوضوء إلى المرافق، وأطلقت في السرقة. قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 6، فلا يُحمل المطلق على المقيد للاختلاف سببًا وحكمًا، وليس في هذا شيء من التعارض.
قال صاحب البرهان7: "إن وُجِد دليل على تقييد المطلق صير إليه، وإلا فلا والمطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده؛ لأن الله تعالى خاطبنا بلغة العرب، والضابط أن الله تعالى إذا حكم في شيء بصفة أو شرط ثم ورد حكم آخر مطلقًا نُظِر، فإن لم يكن له أصل يرد إليه إلا ذلك الحكم المقيد وجب تقييده به، وإن كان له أصل غيره لم يكن رده إلى أحدهما بأولى من الآخر.
1 النساء: 92.
2 المجادلة: 4.
3 البقرة: 196.
4 المائدة: 89.
5 البقرة: 184.
6 المائدة: 38.
7 الجزء الثاني ص15.