الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجوه إعجاز القرآن:
1
لقد كان لنشأة علم الكلام في الإسلام أثر أصدق ما يقال فيه: إنه كلام في كلام، وما فيه من وميض التفكير يجر متتبعه إلى مجاهل من القول بعضها فوق بعض. وقد بدأت مأساة علماء الكلام في القول بخلق القرآن، ثم اختلفت آراؤهم وتضاربت في وجوه إعجازه:
أ- فذهب أبو إسحاق إبراهيم النظام2 ومن تابعه - كالمرتضى من الشيعة - إلى أن إعجاز القرآن كان بالصرفة، ومعنى الصرفة في نظر النظام: أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها، فكان هذا الصرف خارقًا للعادة، ومعناها في نظر المرتضى: أن الله سلبهم العلوم التي يُحتاج إليها في المعارضة، ليجيئوا بمثل القرآن - وهو قول يدل على عجز ذويه، فلا يقال فيمن سُلِب القدرة على شيء أن الشيء أعجزه ما دام في مقدوره أن يأتي به في وقت ما، وإنما المعجز حينئذ هو قدر الله، فلا يكون القرآن معجزًا، وحديثنا عن إعجاز مضاف إلى القرآن سوف يظل ثابتًا له في كل عصر، لا عن إعجاز الله.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: "ومما يُبطل القول بالصرفة، أنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزًا، وإنما يكون المنع معجزًا، فلا يتضمن الكلام فضلًا على غيره في نفسه".
والقول بالصرفة قول فاسد يرد عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 3، فإنه يدل على عجزهم مع بقاء
1 ذكر العلماء في وجوه الإعجاز ما يربو على عشرة أوجه، وسنقتصر على أهمها.
2 هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام شيخ الجاحظ، وأحد رءوس المعتزلة، وإليه تنسب الفرقة النظامية، توفي في خلافة المعتصم سنة بضع وعشرين ومائتين.
3 الإسراء: 88.
قدرتهم، ولو سُلبوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى بكبير يُحتفل بذكره.
ب- وذهب قوم إلى أن القرآن مُعجز ببلاغته التي وصلت إلى مرتبة لم يُعهد لها مثيل - وهذه النظرة نظرة أهل العربية الذين يولعون بصور المعاني الحية في النسج المحكم، والبيان الرائع.
جـ- وبعضهم يقول: إن وجه إعجازه في تضمنه البديع الغريب المخالف لما عُهِد في كلام العرب من الفواصل والمقاطع.
د- ويقول آخرون: بل إعجازه في الإخبار عن المغيبات المستقبلة التي لا يُطَّلع عليها إلا الوحي. أو الإخبار عن الأمور التي تقدمت منذ بدء الخلق بما لا يمكن صدوره من أمي لم يتصل بأهل الكتاب.
كقوله تعالى في أهل بدر: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} 1.
وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} 2.
وقوله: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} 4.
وقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} 5. وسائر قصص الأولين.
وهذا قول مردود؛ لأنه يستلزم أن الآيات التي لا خبر فيها عن المغيبات المستقبلة والماضية لا إعجاز فيها، وهو باطل، فقد جعل الله كل سورة معجزة بنفسها6.
1 القمر: 45.
2 الفتح: 27.
3 النور: 55.
4 الروم: 1-3.
5 هود: 49.
6 انظر "البرهان" للزركشي جـ2 ص95، 96.
هـ- وذهب جماعة إلى أن القرآن مُعجز لما تضمنه من العلوم المختلفة، والحِكَم البليغة.
وهناك وجوه أخرى للإعجاز تدور في هذا الفلك جمعها بعضهم في عشرة أو أكثر.
والحقيقة أن القرآن معجز بكل ما يتحمله هذا اللفظ من معنى:
فهو مُعْجز في ألفاظه وأسلوبه، والحرف الواحد منه في موضعه من الإعجاز الذي لا يغني عنه غيره في تماسك الكلمة، والكلمة في موضعها من الإعجاز في تماسك الجملة، والجملة في موضعها من الإعجاز في تماسك الآية.
وهو مُعْجز في بيانه ونظمه، يجد فيه القارئ صورة حية للحياة والكون والإنسان.
وهو مُعجز في معانيه التي كشفت الستار عن الحقيقة الإنسانية ورسالتها في الوجود.
وهو مُعجز بعلومه ومعارفه التي أثبت العلم الحديث كثيرًا من حقائقها المغيبة.
وهو مُعجز في تشريعه وصيانته لحقوق الإنسان وتكوين مجتمع مثالي تسعد الدنيا على يديه.
والقرآن -أولًا وآخرًا- هو الذي صير العرب رعاة الشاء والغنم ساسة شعوب وقادة أمم، وهذا وحده إعجاز.
قال الخطابي في كتابه1: "فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزًا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، مضمنًا أصح المعاني، من توحيد الله وتنزيهه في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان لمنهاج عبادته، في
1 هو أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي، في كتابه "بيان إعجاز القرآن" طبع ضمن ثلاثة رسائل بمطبعة المعارف بتحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، وانظر "البرهان" للزركشي جـ2 ص101 وما بعدها.