الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبسورة واحدة: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} 1.
وبحديث مثله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} 2.
ونحن لا نرى الإعجاز في قدر معين؛ لأننا نجده في أصوات حروفه ووقع كلماته، كما نجده في الآية والسورة، فالقرآن كلام الله وكفى.
وأيًّا كان وجه الإعجاز، أو القدر المعجز. فإن الباحث المنصف الذي يطلب الحق إذا نظر في القرآن من أي النواحي أحب: من ناحية أسلوبه، أو من ناحية علومه، أو من ناحية الأثر الذي أحدثه في العالم وغير به وجه التاريخ، أو من تلك النواحي مجتمعة، وجد الإعجاز واضحًا جليًّا، ويجدر بنا أن نأتي بكلمة في هذه النواحي الثلاثة من الإعجاز القرآني: ناحية الإعجاز اللغوي، وناحية الإعجاز العلمي، وناحية الإعجاز التشريعي.
1 يونس: 38.
2 الطور: 34.
الإعجاز اللغوي:
لقد مارس أهل العربية فنونها منذ نشأت لغتهم حتى شبت وترعرعت، وأصبحت في عنفوان شبابها عملاقًا معطاء، واستظهروا شعرها ونثرها، وحكمها وأمثالها، وطاوعهم البيان في أساليب ساحرة، حقيقة ومجازًا، إيجازًا وإطنابًا، حديثًا ومقالًا، وكلما ارتفعت اللغة وتسامت، وقفت على أعتاب لغة القرآن في إعجازه اللغوي كَسِيرة صاغرة، تنحني أمام أسلوبه إجلالًا وخشية، وما عهد تاريخ العربية حقبة من أحقاب التاريخ. ازدهرت فيها اللغة إلا وتطامن أعلامها وأساتذتها أمام البيان القرآني اعترافًا بسموه، وإدراكًا لأسراره، ولا عجب "فتلك سُنة الله في آياته التي يصنعها بيديه، لا يزيدك العلم بها والوقوف على أسرارها إلا إذعانًا لعظمتها، وثقة بالعجز عنها، ولا كذلك صناعات الخلق، فإن فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق
إلى الزيادة عليها، ومن هنا كان سحرة فرعون هم أول المؤمنين برب موسى وهارون"1.
والذين تملكهم الغرور، وأصابتهم لوثة الإعجاب بالنفس، وحاولوا التطاول على أسلوب القرآن، حاكوه بكلام فارغ، أشبه بالسخف والتفاهة والهذيان والعبث. وارتدوا على أعقابهم خاسرين، كالمتنبئين وأشباه المتنبئين، من الدجالين والمغرورين.
وقد شهد التاريخ فرسانًا للعربية خاضوا غمارها وأحرزوا قصب السبق فيها، فما استطاع أحد منهم أن تحدثه نفسه بمعارضة القرآن، إلا باء بالخزي والهوان، بل إن التاريخ سجل هذا العجز على اللغة، في أزهى عصورها، وأرقى أدوارها، حين نزل هذا القرآن، وقد بلغت العربية أشدها، وتوافرت لها عناصر الكمال والتهذيب في المجامع العربية وأسواقها، ووقف القرآن من أصحاب هذه اللغة موقف التحدي. في صور شتى، متنزلًا معهم إلى الأخف من عشر سور إلى سورة إلى حديث مثله، فما استطاع أحد أن يباريه أو يجاريه منهم، وهم أهل الأنفة والعزة والإباء. ولو وجدوا قدرة على محاكاة شيء منه، أو وجدوا ثغرة فيه. لما ركبوا المركب الصعب أمام هذا التحدي، بإشهار السيوف، بعد أن عجز البيان، وتحطمت الأقلام.
وتتابعت القرون لدى أهل العربية، وظل الإعجاز القرآني اللغوي راسخًا كالطود الشامخ، تذل أمامه الأعناق خاضعة، لا تفكر في أن تدانيه، فضلًا عن أن تساميه؛ لأنها أشد عجزًا وأقل طمعًا في هذا المطلب العزيز. وسيظل الأمر كذلك إلى يوم الدين.
ولا يستطيع أحد أن يدعي عدم الحاجة إلى معارضة القرآن، وإن كان ذلك ممكنًا، فإن التاريخ يشهد بأنه قد توافرت الدواعي الملحة لدى القوم لمعارضة
1 النبأ العظيم ص81.
القرآن، حيث وقفوا من الرسالة وصاحبها موقف الجحود والنكران، واستثار القرآن حميَّتهم، وسفَّه أحلامهم، وتحداهم تحديًا سافرًا يثير حفيظة الجبان الرعديد مع ما كانوا عليه من أنفة وعزة. فسلكوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم مسالك شتى، ساوموه بالمال والمُلك ليكف عن دعوته، وقاطعوه ومن معه حتى يموتوا جوعًا. واتهموه بالسحر والجنون، وتآمروا على حبسه، أو قتله أو إخراجه. وقد دلهم على الطريق الوحيد لإسكاته وهو أن يجيئوه بكلام مثل الذي جاءهم به، "ألم يكن ذلك أقرب إليهم وأبقى عليهم لو كان أمره في يدهم؟ ولكنهم طرقوا الأبواب كلها إلا هذا الباب، وكان القتل والأسر والفقر والذل وكل أولئك أهون عليهم من ركوب هذا الطريق الوعر الذي دلهم عليه، فأي شيء يكون العجز إن لم يكن هذا هو العجز"؟
والقرآن الذي عجز العرب عن معارضته لم يخرج عن سُنن كلامهم. ألفاظًا وحروفًا، تركيبًا وأسلوبًا، ولكنه في اتساق حروفه، وطلاوة عبارته، وحلاوة أسلوبه، وجرس آياته، ومراعاة مقتضيات الحال في ألوان البيان، في الجمل الاسمية والفعلية، وفي النفي والإثبات، وفي الذكر والحذف، وفي التعريف والتنكير، وفي التقديم والتأخير، وفي الحقيقة والمجاز، وفي الإطناب والإيجاز. وفي العموم والخصوص، وفي الإطلاق والتقييد، وفي النص والفحوى، وهلم جرًّا، ولكن القرآن في هذا ونظائره بلغ الذروة التي تعجز أمامها القدرة اللغوية لدى البشر.
عن ابن عباس: "أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال له: يا عم: إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًَا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدًا لتتعرض لما قِبَلِه. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا، قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله،
وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} 1.
وحيثما قلَّب الإنسان نظره في القرآن وجد أسرارًا من الإعجاز اللغوي.
يجد ذلك في نظامه الصوتي البديع بجرس حروفه، حين يسمع حركاتها وسكناتها، ومدَّاتها وغُنَّائها، وفواصلها ومقاطعها، فلا تمل أذنه السماع، بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.
ويجد ذلك في ألفاظه التي تفي بحق كل معنى في موضعه، لا ينبو منها لفظ يقال إنه زائد، ولا يعثر الباحث على موضع يقول إنه يحتاج إلى إثبات لفظ ناقص.
ويجد ذلك في ضروب الخطاب التي يتقارب فيها أصناف الناس في الفهم بما تطيقه عقولهم، فيراها كل واحد منهم مقدرة على مقياس عقله ووفق حاجته، من العامة والخاصة {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} 2.
ويجد ذلك في إقناع العقل وإمتاع العاطفة، بما يفي بحاجة النفس البشرية تفكيرًا ووجدانًا في تكافؤ واتزان، فلا تطغى قوة التفكير على قوة الوجدان، ولا قوة الوجدان على قوة التفكير.
وهكذا حيثما قلَّب النظر قامت أمامه حجة القرآن في التحدي والإعجاز3.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني4: "والذي يشتمل عليه بديع نظمه
1 أخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل – [والآية من سورة المدثر: 11] .
2 القمر: 17.
3 راجع الإعجاز اللغوي في "النبأ العظيم" بتوسع.
4 هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني صاحب كتاب "إعجاز القرآن" وكتاب "التقريب والإرشاد" في أصول الفقه، توفي سنة 403 هجرية.
المتضمن للإعجاز وجوه: منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد، وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم، تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالًا فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه البديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلًا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل يتصنع له، وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق، فليس من باب السجع، وليس من قبيل الشعر، وتبين بخروجه عن أصناف كلامهم، وأساليب خطابهم أنه خارج عن العادة. وأنه مُعجز، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميز حاصل في جميعه..
وليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحِكَم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة على هذا الطول - وعلى هذا القدر، وإنما تُنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة، وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة يقع فيها الاختلال والاختلاف، والتكلف والتعسف، وقد جاء القرآن على كثرته وطوله متناسبًا في الفصاحة على ما وصفه الله عز من قائل:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 1، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 2. فأخبر أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت وبان عليه الاختلال.
1 الزمر: 23.
2 النساء: 82.