الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} 1، وكما رد عليهم في قولهم:{أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} 2، بقوله:{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} 3، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} 4، بل أجابهم الله تعالى ببيان وجه الحكمة في تنزيل القرآن مُنَجَّمًا بقوله:{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي كذلك أنزل مفرَّقًا لحكمة هي: تقوية قلب رسول الله {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} أي قدرناه آية بعد آية بعضه إثر بعض، أو بيناه تبيينًا، فإن إنزاله مفرقًا حسب الحوادث أقرب إلى الحفظ والفهم وذلك من أعظم أسباب التثبيت.
والذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة، وصح نزول عشر آيات في أول المؤمنين جملة، وصح نزول:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وحدها وهي بعض آية"5.
1 الفرقان: 20.
2 الإسراء: 94.
3 الإسراء: 95.
4 الأنبياء: 7.
5 نقل هذا السيوطي عن "مكي بن أبي طالب" المتوفى سنة 368 هجرية، في كتاب له يسمى "الناسخ والمنسوخ" انظر "الإتقان" جـ1 ص42-[والآية من سورة النساء: 95] .
حكمة نزول القرآن منجما
مدخل
…
حكمة نزول القرآن مُنَجَّمًا:
نستطيع أن نستخلص حكمة نزول القرآن الكريم مُنَجَّمًا من النصوص الواردة في ذلك. ونجملها فيما يأتي:
1-
الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم
.
لقد وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الناس، فوجد منهم نفورًا وقسوة، وتصدى له قوم غلاظ الأكباد فُطِروا على الجفوة، وجُبِلوا على العناد،
يتعرضون له بصنوف الأذى والعنت، مع رغبته الصادقة في إبلاغهم الخير الذي يحمله إليهم، حتى قال الله فيه:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} 1. فكان الوحي يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة بعد فترة، بما يثبِّت قلبه على الحق، ويُشْحذ عزمه للمضي قدمًا في طريق دعوته، لا يبالي بظلمات الجهالة التي يواجهها من قومه. فإنها سحابة صيف عما قريب تنقشع.
يبيِّن الله له سُنته في الأنبياء السابقين الذين كُذِّبوا وأُوذوا فصبروا حتى جاءهم نصر الله، وأن قومه لم يكذبوه إلا علوًّا واستكبارًا، فيجد عليه الصلاة والسلام في ذلك السٌّنَّة الإلهية في موكب النبوة عبر التاريخ التي يتأسى بها تسلية له إزاء أذى قومه، وتكذيبهم له، وإعراضهم عنه {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} 2، {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} 3.
ويأمره القرآن بالصبر كما صبر الرسل من قبله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 4..
ويطمئن نفسه بما تكفل الله به من كفايته أمر المكذِّبين: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} 5..
وهذا هو ما جاء في حكمة قصص الأنبياء بالقرآن: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} 6..
1 الكهف: 6.
2 الأنعام: 33، 34.
3 آل عمران: 184.
4 الأحقاف: 35.
5 المزمل: 10، 11.
6 هود: 120.
وكلما اشتد ألم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكذيب قومه، وداخله الحزن لأذاهم نزل القرآن دعمًا وتسلية له، يهدد المكذِّبين بأن الله يعلم أحوالهم، وسيجازيهم على ما كان منهم:{فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} 1، {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2.
كما يبشره الله تعالى بآيات المنعة والغلبة والنصر: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 3، {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} 4، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 5.
وهكذا كانت آيات القرآن تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تباعًا تسلية له بعد تسلية، وعزاء بعد عزاء، حتى لا يأخذ منه الحزن مأخذه ولا يستبد به الأسى، ولا يجد اليأس إلى نفسه سبيلًا، فله في قصص الأنبياء أسوة، وفي مصير المكذِّبين سلوى، وفي العدة بالنصر بُشرى، وكلما عرض له شيء من الحزن بمقتضى الطبع البشري تكررت التسلية، فثبت قلبه على دعوته، واطمأن إلى النصر.
وهذه الحكمة هي التي رد الله بها على اعتراض الكفار في تنجيم القرآن بقوله تعالى: {َذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} 6.
قال أبو شامة7: "فإن قيل: ما السر في نزوله مُنَجَّمًا؟ وهَلَّا أُنزل كسائر الكتب جملة؟ قلنا: هذا سؤال قد تولى الله جوابه، فقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} 8.. يعنون: كما أُنزل على من قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله:{كَذَلِكَ} أي أنزلناه مفرَّقًا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان
1 يس: 76.
2 يونس: 65.
3 المائدة: 67.
4 الفتح: 3.
5 المجادلة: 21.
6 الفرقان: 32.
7 أبو شامة: هو عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي، الفقيه الشافعي، له "الوجيز إلى علوم تتعلق بالقرآن العزيز" و"شرح على الشاطبية" المشهورة في القراءات، توفي سنة 665 هجرية.
8 الفرقان: 32.