الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإعجاز التشريعي:
أودع الله في الإنسان كثيرًا من الغرائز التي تعتمل في النفس وتؤثر عليها في اتجاهات الحياة، ولئن كان العقل الرشيد يعصم صاحبه من الزلل فإن النزعات النفسية المنحرفة تطغى على سلطان العقل، ولا يستطيع العقل أن يكبح جماحها في كل حال. لهذا كان لا بد لاستقامة الإنسان من تربية خاصة لغرائزه، تهذبها وتنميها، وتقودها إلى الخير والفلاح.
والإنسان مدني بالطبع، فهو في حاجة إلى غيره، وغيره في حاجة إليه، وتعاون الإنسان مع أخيه الإنسان ضرورة اجتماعية يفرضها العمران البشري. وكثيرًا ما يظلم الإنسان أخاه بدافع الأثرة وحب السيطرة، فلو تُرِك أمر الناس دون ضابط يحدد علاقاتهم، وينظم أحوال معاشهم، ويصون حقوقهم، ويحفظ حرماتهم لصار أمرهم فوضى، ولذا كان لا بد لأي مجتمع بشري من نظام يحكم زمامه، ويحقق العدل بين أفراده.
وبين تربية الفرد وصلاح الجماعة وشائج قوية لا تنفصم عراها، فإن هذا يقوم على تلك، فصلاح الفرد من صلاح الجماعة، وصلاح الجماعة بصلاح الفرد..
وقد عرفت البشرية في عصور التاريخ ألوانًا مختلفة من المذاهب والنظريات والنظم والتشريعات التي تستهدف سعادة الفرد في مجتمع فاضل، ولكن واحدًا منها لم يبلغ من الروعة والإجلال مبلغ القرآن في إعجازه التشريعي.
إن القرآن يبدأ بتربية الفرد؛ لأنه لبنة المجتمع ويقيم تربيته على تحرير وجدانه، وتحمله التبعة.
يحرر القرآن وجدان المسلم بعقيدة التوحيد الذي تُخَلِّصه من سلطان الخرافة والوهم، وتفك أسره من عبودية الأهواء والشهوات، حتى يكون عبدًا خالصًا لله، يتجرد للإله الخالق المعبود، ويستعلي بنفسه عما سواه، فلا حاجة للمخلوق إلا لدى خالقه، الذي له الكمال المطلق، ومنه يمنح الخير للخلائق كلها.
إنه خالق واحد وإله واحد. لا أول له ولا آخر، قدير على كل شيء، عليم بكل شيء، محيط بكل شيء، وليس كمثله شيء.
عالَم مخلوق خلقه الله، ويرجع إلى الله، ويفنى كما يوجد بمشيئة الله، وهذه أكمل عقيدة في العقل وأكمل عقيدة في الدين.
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2.
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} 4.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} 5.
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} 6.
{أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} 7.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 8.
{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 9.
ويؤكد القرآن الكريم وحدانية الله بالحجج القاطعة التي تقوم على المنطق العقلي السليم. فلا تقبل الجدال والمراء: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 10.
1 سورة الإخلاص.
2 الحديد: 3.
3 القصص: 88.
4 الأنعام: 102.
5 الأحزاب: 27.
6 البقرة: 96.
7 فصلت: 54.
8 الشورى: 11.
9 الأنعام: 103.
10 الأنبياء: 22.
{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} 1.
وإذا صحت عقيدة المسلم كان عليه أن يأخذ بشرائع القرآن في الفرائض والعبادات، وكل عبادة مفروضة يراد بها صلاح الفرد ولكنها مع ذلك ذات علاقة بصلاح الجماعة.
فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والجماعة واجبة على الرأي الراجح إلا لعذر، وهي شرط في الجمعة والعيدين، والذي يُصلِّى منفردًا لا يغيب عن شعوره آصرة القربى بينه وبين الجماعة الإسلامية في أقطار الأرض، من شمال إلى جنوب، ومن مشرق إلى مغرب؛ لأنه يعلم أنه في تلك اللحظة يتجه وجهة واحدة مع كل مسلم على ظهر الأرض، يؤدي فريضة الصلاة، ويستقبل معه قِبلة واحدة، ويدعو بدعاء واحد، وإن تباعدت بينهم الديار.
وحسب المسلم في تربيته أن يقف بين يدي الله خمس مرات في اليوم الواحد تمتزج حياته بشرع الله، ويتمثل الوازع الأعلى نصب عينيه ما بين كل صلاة وصلاة:{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 2.
والزكاة تقتلع من النفس جذور الشح، وعبادة المال، والحرص على الدنيا، وهي مصلحة للجماعة، فتقيم دعائم التعاون بين المجدودين والمحرومين، وتشعر النفس بتكامل الجماعة شعورًا يخرجها من ضيق الأثرة والانفراد.
والحج سياحة تروِّض النفس على المشقة، وتفتح بصيرتها على أسرار الله في خلقه، وهو مؤتمر عالمي يجتمع فيه المسلمون على صعيد واحد، فيتعارفون ويتشاورون.
والصيام ضبط للنفس، وشحذ لعزيمتها، وتقوية للإرادة، وحبس للشهوات، وهو مظهر اجتماعي يعيش فيه المسلمون شهرًا كاملًا على نظام واحد في طعامهم. كما تعيش الأسرة في البيت الواحد.
1 الإسراء: 42.
2 العنكبوت: 45.
والقيام بهذه العبادات المفروضة يربي المسلم على الشعور بالتبعية الفردية التي يقررها القرآن وينوط بها كل تكليف من تكاليف الدين، وكل فضيلة من فضائل الأخلاق:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 1.
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} 2.
{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 3.
وحض القرآن على الفضائل المثلى التي تروض النفس على الوازع الديني، كالصبر والصدق والعدل والإحسان والحلم والعفو والتواضع.
ومن تربية الفرد ينتقل الإسلام إلى بناء الأسرة؛ لأنها نواة المجتمع، فشرع القرآن الزواج استجابة لغريزة الجنس وإبقاء على النوع الإنساني في تناسل طاهر نظيف.
ويقوم رباط الأسرة في الزواج على الود والرحمة والسكن النفسي والعِشْرة بالمعروف، ومراعاة خصائص الرجل وخصائص المرأة، والوظيفة الملائمة لكل منهما:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 4.
{عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 5.
ثم يأتي نظام الحكم الذي يسود المجتمع المسلم، وقد قرَّر القرآن قواعد الحكومة الإسلامية في أصلح أوضاعها.
1 المدثر: 38.
2 الطور: 21.
3 البقرة: 286.
4 الروم: 21.
5 النساء: 19.
6 النساء: 34.
فهي حكومة الشورى والمساواة ومنع السيطرة الفردية: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 1.
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 2.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 3.
وهي حكومة تقوم على العدل المطلق الذي لا يتأثر بحب الذات، أو عاطفة القرابة، أو العوامل الاجتماعية في الغِنَى والفقر:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} 5.
كما لا تؤثر في هذا العدل شهوة الانتقام من الأعداء المبغوضين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 6.
والتشريع في الحكومة الإسلامية ليس متروكًا للناس، فقد قرره القرآن، والخروج عنه كفر وظلم وفسق:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 8.
1 آل عمران: 159.
2 الشورى: 38.
3 الحجرات: 10.
4 آل عمران: 64.
5 النساء: 135.
6 المائدة: 8.
7 النساء: 58.
8 المائدة: 44.
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1.
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2.
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 3.
وقرر القرآن صيانة الكليات الخمسة الضرورية للحياة الإنسانية: النفس، والدين، والعِرض، والمال، والعقل، ورتب عليها العقوبات المنصوصة، التي تُعرف في الفقه الإسلامي بالجنايات والحدود:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 4.
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 5.
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 7.
وقرر القرآن العلاقات الدولية في الحرب والسلم بين المسلمين وجيرانهم أو معاهديهم، وهي أرفع معاملة عرفت في عصور الحضارة الإنسانية.
وخلاصة القول: إن القرآن دستور تشريعي كامل يقيم الحياة الإنسانية على أفضل صورة وأرقى مثال، وسيظل إعجازه التشريعي قرينًا لإعجازه العلمي وإعجازه اللغوي إلى الأبد. ولا يستطيع أحد أن ينكر أنه أحدث في العالَم أثرًا غيَّر وجه التاريخ.
1 المائدة: 45.
2 المائدة: 47.
3 المائدة: 50.
4 البقرة: 179.
5 النور: 2.
6 النور: 4.
7 المائدة: 38.