الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل
مدخل
…
5-
معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل:
التعبير عن تلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن بنزوله عليه يُشعر بقوة يلمسها المرء في تصور كل هبوط من أعلى. ذلك لعلو منزلة القرآن وعظمة تعاليمه التي حولت مجرى حياة البشرية وأحدثت فيها تغيرًا ربط السماء بالأرض، ووصل الدنيا بالآخرة، ومعرفة تاريخ التشريع الإسلامي في مصدره الأول والأصيل -وهو القرآن- تعطي الدارس صورة عن التدرج في الأحكام ومناسبة كل حكم للحالة التي نزل فيها دون تعارض بين السابق واللاحق، وقد تناول هذا أول ما نزل من القرآن على الإطلاق وآخر ما نزل على الإطلاق، كما تناول أول ما نزل وآخر ما نزل في كل تشريع من تعاليم الإسلام، كالأطعمة، والأشربة، والقتال
…
ونحو ذلك.
وللعلماء في أول ما نزل من القرآن على الإطلاق، وآخر ما نزل كذلك أقوال، نجملها ونُرَجِّح بينها فيما يأتي:
أول ما نزل:
1-
أصح الأقوال أن أول ما نزل هو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 1، ويدل عليه ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بُدِئَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء فكان يأتي حِراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فتزوده لمثلها حتى فاجأه الحق وهو في غار حِراء،
1 العلق: 1-5.
فجاءه المَلَك فيه فقال: اقرأ، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: فقلت: "ما أنا بقارئ"، فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجَهْد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت:"ما أنا بقارئ"، فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت:"ما أنا بقارئ"، فغطَّني الثالثة حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرسلني فقال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . حتى بلغ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره". الحديث1.
2-
وقيل إن أول ما نزل هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} .. لما رواه الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: {يَا أيُّهَا المُدَّثِّرُ} ، قلت: أو {اقْرا بِاسْمِ رَبِّكَ} ؟ قال: أحدِّثكم ما حدثنا به رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"إني جاورت بحِراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي. ثم نظرتُ إلى السماء فإذا هو -يعني جبريل- فأخذتني رجفة. فأتيتُ خديجة فأمرتهم فدثروني"، فأنزل الله:{يَا أيُّهُا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنُذِرْ} 2.
وأجيب عن حديث جابر بأن السؤال كان عن نزول سورة كاملة، فبيِّن جابر أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة اقرأ، فإن أول ما نزل منها صدرها، ويؤيد هذا ما في الصحيحين أيضًا عن أبي سلمة عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُحدِّث عن فترة الوحي فقال في حديثه: "بينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء فرفعت رأسي فإذا المَلَك الذي جاءني بحِراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرجعت، فقلت: زملوني، فدثروني"، فأنزل الله:{يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} . فهذا الحديث يدل على أن هذه القصة
1 التحنث: التعبد، وأصله ترك الحِنث، أي الذنب. وغطَّني: أي ضمني ضمًّا شديدًا حتى كان لي غطيط، وهو صوت من حُبِسَت أنفاسه بما يشبه الخنق، والجَهْد: بفتح الجيم، يطلق على المشقة وعلى الوسع والطاقة، وبضمها يطلق على الوسع والطاقة لا غيره.
2 المدثر: 1، 2.
متأخرة عن قصة حِراء -أو تكون "المدثر" أول سورة نزلت بعد فترة الوحي- وقد استخرج جابر ذلك باجتهاده فتُقَدَّم عليه رواية عائشة، ويكون أول ما نزل من القرآن على الإطلاق:{اقْرَأ} وأول سورة نزلت كاملة، أو أول ما نزل بعد فترة الوحي:{يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} .. أو أول ما نزل للرسالة: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} .. وللنبوة {اقْرَأ} .
3-
وقيل إن أول ما نزل هو سورة "الفاتحة" ولعل المراد أول سورة كاملة.
4-
وقيل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} والبسملة تنزل صدرًا لكل سورة. ودليل هذين أحاديث مرسلة، والقول الأول المؤيد بحديث عائشة هو القوي الراجح المشهور.
وقد ذكر الزركشي في "البرهان" حديث عائشة الذي نص على أن أول ما نزل: {قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وحديث جابر الذي نص على أن أول ما نزل: {َيا أَيُّهَا المُدَّثِّر، قُمْ فَأَنْذِرُ} ثم قال: "وجمع بعضهم بينهما بأن جابرًا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر قصة بدء الوحي، فسمع آخرها، ولم يسمع أولها، فتوهم أنها أول ما نزلت، وليس كذلك، نعم هي أول ما نزل بعد سورة {اقْرَأْ} وفترة الوحي، لما ثبت في الصحيحين أيضًا عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدِّث عن فترة الوحي، قال في حديثه: "بينما أنا أمشي، سمعت صوتًا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا المَلَك الذي جاءني بحِراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه فرقًا1، فرجعت فقلت: زملوني زملوني"، فأنزل الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا المُدَّثِّر، قُمْ فَأَنْذِر} .
فقد أخبر في هذا الحديث عن المَلَك الذي جاءه بحِراء قبل هذه المرة، وأخبر في حديث عائشة أن نزول {اقْرَأْ} كان في غار حِراء، وهو أول وحي، ثم فَتَرَ بعد ذلك، وأخبر في حديث جابر أن الوحي تتابع بعد نزول {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّر}
1 جثثت: فزعت، وفي صحيح البخاري:"فرعبت منه".
فعُلِمَ بذلك أن {اقْرَأْ} أول ما نزل مطلقًا، وأن سورة المدثر بعده". وكذلك قال ابن حبان في صحيحه: لا تضاد بين الحديثين، بل أول ما نزل:{اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} بغار حِراء، فلما رجع إلى خديجة رضي الله عنها وصبت عليه الماء البارد، أنزل الله عليه في بيت خديجة:{َيا أَيُّهَا المُدَّثِّر} ُ.. فظهر أنه لما نزل عليه {اقْرَأْ} رجع فتدثر، فأنزل عليه:{َيا أَيُّهَا المُدَّثِّر} ..
وقيل: أول ما نزل سورة الفاتحة، رُوِيَ ذلك من طريق أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصوت انطلق هاربًا، وذكر نزول المَلَك عليه وقوله: قل {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
…
إلى آخرها.
وقال القاضي أبو بكر في "الانتصار": وهذا الخبر منقطع، وأثبت الأقاويل:{اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} ويليه في القوة: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر} .. وطريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} وأول ما نزل من أوامر التبليغ: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر} .. وأول ما نزل من السور سورة الفاتحة، وهذا كما ورد في الحديث:"أول ما يُحاسَب به العبد الصلاة" 1، و "أول ما يُقضى فيه الدماء" 2، وجمع بينهما بأن أول ما يُحكم فيه من المظالم التي بين العباد الدماء. وأول ما يُحاسب به العبد من الفرائض البدنية الصلاة.
وقيل: أول ما نزل للرسالة: {يا أَيُّهَا المُدَّثِّر} .. وللنبوة: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} فإن العلماء قالوا: قوله تعالى: {اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ} دال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأن النبوة عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان المَلَك بتكليف خاص، وقوله:{يا أَيُّهَا المُدَّثِّر، قُمْ فَأنْذٍرْ} دليل على رسالته صلى الله عليه وسلم لأنها عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان المَلَك بتكليف عام"3.
1 نقله السيوطي في "الجامع الصغير" عن الطبراني، ولفظه:"أول ما يُحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله".
2 رواه البخاري في كتاب "الديَات" ولفظه: "أول ما يُقْضَى بين الناس في الدماء".
3 انظر "البرهان في علوم القرآن" للزركشي، بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم جـ1 ص206 وما بعدها.