الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحجة تيسير القراءة على الطلاب والدارسين بانتفاء التعارض بين رسم القرآن والرسم الإملائي الاصطلاحي لا تكون مبررًا للتغيير الذي يؤدي إلى التهاون في تحري الدقة بكتابة القرآن.
والذي يعتاد القراءة في المصحف يألف ذلك ويفهم الفوارق الإملائية بالإشارات الموضوعة على الكلمات، والذين يمارسون هذا في الحياة التعليمية أو مع أبنائهم يدركون أن الصعوبة التي توجد في القراءة بالمصحف أول الأمر تتحول بالمران بعد فترة قصيرة إلى سهولة تامة.
قال البيهقي في شُعب الإيمان: "من يكتب مصحفًا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يُغيِّر مما كتبوه شيئًا، فإنهم كانوا أكثر علمًا وأصدق قلبًا ولسانًا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم"1.
1 انظر "الإتقان" جـ2 ص167.
تحسين الرسم العثماني:
كانت المصاحف العثمانية خالية من النقط والشكل، اعتمادًا على السليقة العربية السليمة التي لا تحتاج إلى الشكل بالحركات ولا إلى الإعجام بالنقط، فلما تطرق إلى اللِّسان العربي الفساد بكثرة الاختلاط أحس أولو الأمر بضرورة تحسين كتابة المصحف بالشكل والنقط وغيرهما مما يساعد على القراءة الصحيحة.
واختلف العلماء في أول جهد بُذِل في ذلك السبيل.
فيرى كثير منهم أن أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي الذي يُنسب إليه وضع ضوابط للعربية بأمر علي بن أبي طالب، ويُرْوَى في ذلك أنه سمع قارئًا يقرأ قوله تعالى:{أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 1، فقرأها بجر
1 التوبة: 3.
اللام من كلمة "رسوله" فأفزع هذا اللحن أبا الأسود وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم ذهب إلى زياد والي البصرة وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت، وكان زياد قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله، فتباطأ في الجواب حتى راعه هذا الحادث، وهنا جد جده، وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطة أسفله، وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين.
ويذكر السيوطي في "الإتقان" أن أبا الأسود الدؤلي أول من فعل ذلك بأمر عبد الملك بن مروان لا بأمر زياد، حيث ظل الناس يقرءون في مصحف عثمان بضعًا وأربعين سنة. حتى خلافة عبد الملك حين كثرت التصحيفات وانتشرت في العراق ففكر الولاة في النقط والتشكيل.
وهناك روايات أخرى تنسب هذا الفعل إلى آخرين. منهم: الحسن البصري، ويحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم الليثي، وأبو الأسود الدؤلي هو الذي اشتهر عنه ذلك، وربما كان للآخرين المذكورين جهود أخرى بُذلت في تحسين الرسم وتيسيره.
وقد تدرج تحسين رسم المصحف، فكان الشكل في الصدر الأول نقطًا، فالفتحة نقطة على أول الحرف، والضمة على آخره، والكسرة تحت أوله.
ثم كان الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف، وهو الذي أخرجه الخليل، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف، والكسر كذلك تحته، والضم واو صغرى فوقه، والتنوين زيادة مثلها، وتُكتب الألف المحذوفة والمبدل منها في محلها حمراء، والهمزة المحذوفة تُكتب همزة بلا حرف حمراء أيضًا، وعلى النون والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب حمراء، وقبل الحلق سكون، وتعرى عند الإدغام والإخفاء، ويسكن كل مسكن، ويعرى المدغم ويشدد ما بعده إلا الطاء قبل التاء فيكتب عليها السكون نحو "فرطْت"1.
1 انظر "الإتقان" جـ2 ص171.
ثم كان القرن الثالث الهجري فجاد رسم المصحف وتحسن، وتنافس الناس في اختيار الخطوط الجميلة وابتكار العلامات المميِّزة، فجعلوا للحرف المشدد علامة كالقوس، ولألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو وسطها. على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة.
ثم تدرج الناس بعد ذلك في وضع أسماء السور وعدد الآيات، والرموز التي تشير إلى رءوس الآي، وعلامات الوقف اللازم "م" والممنوع "لا" والجائز جوازًا مستوى الطرفين "ج" والجائز مع كون الوصل أولى "صلي" والجائز مع كون الوقف أولى "قلي" وتعانق الوقف بحيث إذا وقف على أحد الموضعين لا يصح الوقف على الآخر " " والتجزئة، والتحزيب، إلى غير ذلك من وجوه التحسين.
وكان العلماء في بداية الأمر يكرهون ذلك خوفًا من وقوع زيادة في القرآن مستندين إلى قول ابن مسعود: "جرِّدوا القرآن ولا تخلطوه بشيء"، ويفرِّق بعضهم بين النقط الجائز. والأعشار والفواتح التي لا تجوز. قال الحليمي:"تُكره كتابة الأعشار والأخماس، وأسماء السور وعدد الآيات فيه لقول ابن مسعود: "جرِّدوا القرآن" وأما النقط فيجوز، لأنه ليس له صورة فيتوَّهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنًا. وإنما هي دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها".
ثم انتهى الأمر في ذلك إلى الإباحة والاستحباب، أخرج ابن أبي داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا:"لا بأس بنقط المصاحف"، وأخرج عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أنه قال: "لا بأس بشكله"، وقال النووي:"نقط المصحف وشكله مستحب لأنه صيانة له من اللحن والتحريف"1.
وقد وصلت العناية بتحسين رسم المصحف اليوم ذروتها في الخط العربي.
1 انظر "الإتقان" جـ2 ص171.