الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجهة رأي بشأن المواشي السائبة
على جوانب الطرق العامة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء المنعقد في الطائف اتخذ في دورته التاسعة بالأكثرية القرار رقم (48) في يوم 20/ 8 / 1396هـ بشأن المواشي السائبة على جوانب الطرق العامة. . أجاز فيه في بعض الصور ذبح هذه المواشي بحجة أن هذا هو الطريق الوحيد للتخلص مما تسببه من أضرار من جراء تسييبها على جوانب هذه الطرق. . إلى آخر ما جاء في القرار المشار إليه. وحيث إنني عضو في هذا المجلس ولم أوافق على الحكم الذي أصدره، فإنني أسجل رأيي في الموضوع موضحا وجهة نظري في ذلك فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون وأستلهم الصواب:
جاءت النصوص الكثيرة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على تحريم تعذيب الحيوان أو قتله بغير وجه مشروع كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن المغفل قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب: ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم (1)» ولا شك أن المنهي عن قتله في هذا الحديث جميع أنواع الكلاب سواء كانت مما ينتفع به ككلب الصيد والماشية أو لا ينتفع به، وقد ورد النهي عن قتلها مع ورود النهي عن اقتنائها وأنه ينتقص من أجر مقتنيها كل يوم قيراط إضافة إلى أنها تسبب أضرارا محققة كتنجيسها للشوارع والإزعاج بأصواتها في الأوقات التي يسكن فيها الناس. كما ورد النهي عن قتل الحيوان أو تعذيبه بصيغة اللعن. فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ شيئا فيها الروح غرضا ولعن صلى الله عليه وسلم من وسم الحمار في وجهه والقتل أشد من الوسم. كما نهى عليه الصلاة والسلام: أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل. قال النووي: قال
(1) صحيح مسلم الطهارة (280)، سنن النسائي الطهارة (67)، سنن أبو داود الطهارة (74)، سنن ابن ماجه الصيد (3201)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 86).
العلماء: صبر البهائم أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه وهو معنى: «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا (1)» .
وقد صرح الشيخ تقي الدين: (بتحريم قتل ما لا يؤكل لحمه حتى لقصد راحتها أو كانت في النزع مثلا. ويقول الشيخ الشبراملي الشافعي: ويحرم ذبح الحيوان غير المأكول ولو لإراحته كالحمار الزمن مثلا. وأصرح من ذلك ما ذكره الإمام النووي من تحريم قتل الحمار والبغل لدبغ جلده أو لاصطياد النسور والعقبان على لحمه وسواء في هذا الحمار الزمن والبغل المكسر. فهذه النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء كلها صريحة في النهي عن قتل الحيوان ولم تفرق بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم ولا بين المنتفع به وغير المنتفع به، إذا كان الأمر كذلك فإن ما وجهت به الأكثرية قرارها بجواز الذبح لانتفاء مالية تلك الحيوانات. . بانتفاء الانتفاع بها وحرمة أكلها على الناس غير ظاهر لما هو واضح من هذه النصوص وأقوال العلماء، وقد صرح العلماء كذلك بوجوب نفقة الحيوان على مالكه سواء كان مأكولا أو غير مأكول، وسواء كان منتفعا به أو غير منتفع به، يقول الشيخ الصاوي المالكي على حاشية الشرح الصغير: ودخل في الدابة الواجبة نففقتها هرة عمياء فتجب نفقتها على من انقطعت عنده حيث لم تقدر على الانصراف، فإن قدرت عليه لم تجب لأن له طردها. وذكر الإمام النووي ما معناه: إذا كان مع الإنسان دابة من حمار وغيره لزمه أن يحصل لها الماء لعطشها حتى لو لم يجد ماء إلا مع شخص آخر لا حاجة له به وامتنع من سقي الحمار أو الكلب جاز لصاحب الدابة أن يكابره عليه إذا امتنع من بيعه فيأخذه منه قهرا لكلبه ودابته كما يأخذه لنفسه فإن كابره فأتى الدفع على نفس صاحب الماء كان دمه هدرا وإن أتى على صاحب الكلب كان مضمونا ولم يفصل النووي في هذا بين ما إذا كان الحمار أو الكلب
(1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1957)، سنن الترمذي الأطعمة (1475)، سنن النسائي الضحايا (4443)، سنن ابن ماجه الذبائح (3187)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 297).
ميئوسا منه أو غير ميؤوس أو يمكن الانتفاع به أو لا كما صرح به من قبل. وجاء في مغني المحتاج: وعليه علف دوابه وسقيها فإن امتنع أجبر في الحيوان المأكول على بيع أو علف أو ذبح وفي غيره على بيع أو علف ويحرم ذبحه للنهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله.
وأما ما قيل من أن جمع هذه الحيوانات والإبقاء عليها فيه تحميل لبيت المال للإنفاق عليها وفي ذلك مضرة حيث إن النفقة عليها من بيت المال أو غيره خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق أي مصلحة حاضرة ولا منتظرة وأن بيت المال مرصود لصالح المسلمين في الحاضر والمستقبل وأنه لا يجوز الصرف منه فيما لا فائدة للمسلمين منه إلى غير ذلك مما أوردوه، من تعليلات فهي غير مسلمة لأمور:
الأول: إن الشريعة الإسلامية رتبت الأجر العظيم على رعاية تلك الحيوانات والقيام عليها حتى التي لا تدرك لها فائدة ولا منفعة في ظاهر الأمر، فامرأة بغي غفر لها بسبب سقيها لكلب كان يأكل الثرى من العطش. فالكلب ليس مملوكا لها ولا هو مما يؤكل لحمه ولم ينتفع به بصيد أو ماشية والحرمة ثابتة لكل حيوان حتى ولو كان زمنا كبيرا أو مكسرا إذا كان الأمر كذلك، فكيف يقال إن سقيها والإنفاق عليها خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق مصلحة حاضرة ولا منتظرة كيف وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:«في كل كبد رطبة أجر (1)» وإذا كانت هناك دول غير إسلامية تنشئ جمعيات للرفق بالحيوان استبشاعا لقتلها أو إيذائها وينفقون في ذلك الأموال الطائلة لرعايتها وعلاجها من المرض والعجز يستوي في ذلك لديهم المأكول وغير المأكول والميئوس منها من عدمه فما بال المسلمين ينزعون إلى تعمد مخالفة النصوص التي
(1) صحيح البخاري المساقاة (2363)، صحيح مسلم السلام (2244)، سنن أبو داود الجهاد (2550)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 375)، موطأ مالك الجامع (1729).
تحترم الحيوان وتؤكد الأجر العظيم لمن قام بذلك.
الثاني: بالإمكان التعرف على أصحاب هذه الحيوانات السائبة وإلزامهم شرعا بالإنفاق عليها وإبعادها عن جانبي الطريق ومن لم يلتزم بذلك يعاقب بما يكون مناسبا.
الثالث: في حالة تخلي أربابها عنها يمكن نقلها إلى قرى نائية كالتي تقع في شعوف الجبال وبطون الصحاري التي لا تصل إليها السيارات وأهل تلك المناطق بحاجة إليها.
الرابع: ما يبقى من الحيوانات بعد ذلك مما لا يدخل فيما تقدم إذا وجد. ففي بيت المال متسع للإنفاق عليه ورعايته ولله الحمد، وقد قامت الدولة بالإنفاق على السباع الضارية والوحوش الكاسرة (في حدائق الحيوانات) وإذا عجز بيت المال وتزاحمت عليه الحقوق فقد يرد تعليلهم بأن في المسألة تحميلا لبيت المال للإنفاق عليها. . إلخ.
الخامس: يؤكد القرار على أن في ترك المواشي سائبة على جانبي الطرق أضرارا وتهديدا لأمن الطريق وخطرا على الأموال والأنفس. . إلخ.
ولكن الواقع الملموس ليس على الصورة التي رسمها القرار للأمرين التاليين:
الأول: أن الحوادث في هذه الطرق ناتجة عن عوامل كثيرة منها سرعة السائقين وتهورهم ومنها خلل في محركات السيارات وآلاتها ومنها وعورة الطريق وكثرة منحنياته ومنعطفاته وما شابه ذلك ونسبة حدوث ذلك من المواشي بجانب ما ذكرنا قليل جدا.
الثاني: السبب الحقيقي لاصطدام السيارة بالحيوان سرعة
السائق وتهوره وعدم أخذ الحيطة الكافية أثناء سيره إذ من المعلوم أن الذي يسير سيرا معتدلا يكون متمكنا من سيارته تمكنا يقيه بإذن الله مما يظهر على الطريق من مفاجآت كمنحنى خطر أو إصلاحات في الطريق أو سيارة أخرى تقابله أو حيوان وما شابه ذلك.
السادس: القول بذبحها يؤدي إلى تجرؤ رجال الإمارات التي على الطرق في أخذها وبيعها بأي ثمن أو أكلها ولو كانت بعيدة عن الطريق لأن ضبط مثل ذلك وتحديده أمر متعذر والنفوس لا حدود لطمعها لا سيما إذا وجدت متنفسا من نظام أو حكم: ويؤدي ذلك بالتالي إلى حصول المشاغبات والمنازعات بين هؤلاء وأرباب البوادي والقرى بسبب التعرض لمواشيهم بحجة هذا الحكم.
يتضح مما تقدم أنه من الممكن دفع الأضرار الناجمة من هذه المواشي - على التسليم بوجودها - إما بالتزام أصحابها بحفظها وإبعادها عن الطريق أو نقلها إلى أمكنة بعيدة يتوفر فيها الماء والكلأ كالصمان والدهناء وأمثالها، أو نقلها إلى بعض القرى النائية في شعوف الجبال مما لا تصل إليها السيارات فينتفعون بها ركوبا وحملا كالمناطق الجنوبية من المملكة، هذا ما ظهر لنا. . وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد الله بن محمد بن حميد
عضو هيئة كبار العلماء