الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مناهج العلماء
في إثبات الأحكام بخبر الواحد
زيادة على ما ثبت منها بالقرآن
إعداد دكتور / عبد الرؤوف مفضي خرابشة
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم كتابه:
والقائل أيضا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (2).
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد القائل: «تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنة نبيه (3)» وبعد:
(1) سورة النحل الآية 44
(2)
سورة محمد الآية 24
(3)
أخرجه مالك في القدر من الموطأ، باب النهي عن القول بالقدر بلاغا، ص502 دار الكتب العلمية - بيروت، وأخرجه الحاكم في المستدرك ط1 جـ1 ص93، ووافقه الذهبي في التلخيص دون نقد، وانظر جامع الأصول في أحاديث الرسول ط1 جـ1 ص277.
فالسنة المطهرة لا تنفصم عن القرآن الكريم؛ إذ هي تنبع من بحر جوده، بل هي متضمنة في آية من آياته، ألا وهي قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1).
كما أن العمل بالسنة الشريفة من الواجبات التي نص عليها القرآن الكريم في آيات متعددة منها، قوله تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} (2).
وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3).
والذي عليه العلماء أن السنة شارحة للقرآن مبينة المراد منه، قال الأوزاعي: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، وقال ابن عبد البر: إنها تقضي عليه، وتبين المراد منه، وقال يحيى بن أبي كثير: السنة قاضية على الكتاب (5). إلى غير ذلك مما يدل على تعاضد القرآن والسنة، في إثبات الأحكام الشرعية واستظهارها، وقد ذكر السيوطي عن بعض العلماء قوله: السنة شرح للقرآن، وقد ألف ابن برجان كتابا في معاضدة السنة للقرآن (6). فالسنة لها مهمة البيان لما أجمل، والتخصيص لما هو عام، والتقييد لما هو مطلق، والتوضيح لما هو مبهم، كتفصيل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وغيرها، فلم يفصل القرآن الكريم عدد ركعات الصلاة، ولا مقادير الزكاة، نصابا واستحقاقا، ولا مناسك الحج. فجاءت
(1) سورة الحشر الآية 7
(2)
سورة آل عمران الآية 32
(3)
سورة النساء الآية 80
(4)
سورة النساء الآية 59
(5)
الشوكاني: إرشاد الفحول ص33.
(6)
السيوطي: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة ص42.
السنة القولية والعملية مبينة ذلك بيانا شافيا، فقال صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أصلي (1)» . وقال أيضا: «لتأخذوا عني مناسككم (2)» . وقال: «ليس فيما دون خمسة أو سق صدقة (3)» .
كما أن السنة قد تكون مقررة، ومؤكدة لما جاء في القرآن الكريم، فيكون الحكم في هذه الحالة مستندا إلى دليلين، ومستمدا من مصدرين رئيسيين. وذلك جملة الأحكام الثابتة في القرآن، فجاءت السنة مؤكدة لها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:«قد فرض الله عليكم الحج (4)» حيث جاء مؤكدا لوجوب الحج، في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (5).
إضافة إلى أنها قد تثبت أحكاما جديدة، لم تثبت في القرآن الكريم، ولا أدل على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم:«يوشك الرجل متكئا على أريكته، يحدث بحديثي فيقول: "بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه" ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله (6)» .
قال الأمام الشافعي في رسالته الأصولية، مبينا نسبة السنة إلي القرآن:
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، جـ1 ص162 - 163، وانظر فتح الباري جـ2 ص111.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، باب لتأخذوا مناسككم جـ2 ص943، وأخرجه أبو داود في المناسك، باب رمي الجمار، جـ1 ص456، وأخرجه أحمد في مسنده جـ3 ص337 - 338، وانظر الفتح الرباني جـ12 ص183.
(3)
أخرجه البخاري في الزكاة، باب ما أدى زكاته فليس بكنز جـ2 ص133، وباب زكاة الورق جـ2 ص144، وباب ليس فيما دون خمس ذو صدقة جـ2 ص147، وباب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة جـ2 ص156، وأخرجه مسلم في أول كتاب الزكاة جـ2 ص674 - 675.
(4)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده، انظر الفتح الرباني، جـ11 ص15، والنسائي في سننه، باب وجوب الحج، جـ5 ص111، والحاكم جـ2 ص293 وصحح إسناده، وأقره الذهبي.
(5)
سورة آل عمران الآية 97
(6)
أخرجه ابن ماجه في باب تعظيم حديث رسول الله، والتغليظ على من عارضه جـ1 ص6 ونقل الألباني تصحيحه، في كتاب صحيح سنن ابن ماجه، جـ1 ص6 مكتب التربية العربي.
فلم أعلم من أهل العلماء مخالفا، في أن سنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا على وجهين، والوجهان يجتمعان ويتفرعان.
أحدهما ما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين رسول الله مثل ما نص الكتاب. والآخر: ما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين عن الله معنى ما أراد، وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثالث: ما سن رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب. . فمنهم من قال: جعل الله بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يسن فيما ليس سنه فيه نص كتاب.
ومنهم من قال: لم يسن سنة قط، إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته لتبيين عدد الصلاة، وفرضها على أصل جملة الصلاة. وكذلك ما سن في البيوع وغيرها من الشرائع، لأن الله قال:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1).
وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2).
فما أحل الله وحرم، فإنما بين فيه عن الله، كما بين الصلاة.
ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله، فأثبت سنته بفرض الله. ومنهم من قال: ألقي في روعه كل ما سن، وسنته الحكمة الذي ألقي في روعه عن الله، فكان ما ألقي في روعه سنته (3).
ومادام القرآن والسنة هما محور البحث في الأحكام الشرعية، فإن العلماء قد سبروا غورهما، وفهموا ما فيهما، فكانت الأحكام على ضوئهما، مدرجة تحت قواعد قعدوها، وبالاستقراء أثبتوها.
وبناء على اختلاف عقول البشر، اختلفت أفهامهم، مما تمخض عنه
(1) سورة البقرة الآية 188
(2)
سورة البقرة الآية 275
(3)
الإمام الشافعي: الرسالة ص91 - 93.
قواعد معينة لكل فريق من العلماء، يستند إليها في استنباط الأحكام.
وبالرجوع إلى تلك القواعد، حصل الخلاف عند التطبيق على بعضها، فكان الخلاف على منهجين رئيسين:
منهج علماء الحنفية.
ومنهج جمهور علماء الأمة.
حيث هما دولاب الحركة، والقطب الذي يبث إشعاعاته، لتنشيط حركة البحث العلمي، وبيان أحكام الله، وذلك للسعي الحثيث. من علماء الأمة لإحقاق الحق، وإن كانت بعض حقب التاريخ قد نقلت لنا جوانب من الجدل المذهبي لإثبات كل لرأيه، ورد رأي خصمه، إلا أن الذي يشفع لنا في هذا المقام ما روي عن علمائنا من توجيه، بأن المراد إحقاق الحق، على يد من كان ظهوره، كما ورد عن الإمام الشافعي من قوله:(ما ناظرت أحدا على الغلبة، إلا على الحق عندي)(1).
فعبارة الشافعي هذه لا تنم إلا عن الحق، ولا تشي إلا بالبحث عن الحق، فالحق رائدهم، والحق مطلبهم، وقد قرروا ذلك جميعا حين أشاروا إلى تلامذتهم بأنه إذا صح الحديث فهو مذهبهم.
وإذا ما بدأ الإنسان البحث في موضوع خلافي، وترجح لديه جانب إمام معين، ومذهب من مذاهب علماء الأمة، فذلك لا يعني الانتقاص من جانب الآخرين؛ إذ قد كفل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأجر للطرفين، المخطئ والمصيب، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر (2)» .
وإن من القواعد التي دخلت في إطار الخلاف بين أصحاب المنهجين،
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء، جـ10 ص92.
(2)
أخرجه البخاري في الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ جـ9 ص132 - 133. ومسلم في الأقضية باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ جـ3 ص1342، وأبو داود في الأقضية باب القاضي يخطئ جـ2 ص286 وأخرجه أحمد جـ4 ص198، 204.