الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به فهو الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار. ورجل جار في الحكم فهو في النار (1)».
والأصل أن يبقى باب الاجتهاد مفتوحا حتى يجيب المجتهدون على كل ما يستجد من مسائل. فإن كل مسألة تعرض للمسلم لها حكم في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو بالاجتهاد. يقول الشافعي (كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكم اتباعه وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد)(2).
(1) رواه أبو داود في كتاب الأقضية باب في القاضي يخطئ 3/ 299 ورواه ابن ماجه في كتاب الأحكام باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق 2/ 776. واللفظ لابن ماجه.
(2)
الرسالة للشافعي ص477.
أقسام الاجتهاد
يقسم الاجتهاد إلى قسمين:
القسم الأول: الاجتهاد في تفسير النصوص الشرعية وبيانها لفهمها ومعرفة دلالتها على الأحكام وترجيح ما تعارض منها في الظاهر. ويدخل في هذا القسم بيان الألفاظ بأقسامه الخمسة وتأويل الألفاظ إذا توافرت شروطه. وطرق دلالة الألفاظ على الأحكام والوضوح والإبهام في الدليل الشرعي والعام والخاص ودلالتهما
وتخصيص العام والإطلاق والتقييد وحمل المطلق على المقيد (1) والزيادة على النص القرآني ودلالة اللفظ المشترك (2) على الحكم والأمر والنهي (3) ودلالتهما على الأحكام.
وهذا النوع من الاجتهاد واسع جدا تفصيله في مباحث أصول الفقه وسأقتصر على ذكر مسألتين اختلف العلماء فيهما لاختلافهم في تفسير النص وبيان دلالته على الحكم.
المسألة الأولى: عقوبة من يسعى في الأرض فسادا (عقوبة قطع الطريق):
اختلف المجتهدون في عقوبة من يسعى في الأرض فسادا إذا أخاف أو سرق من غير أن يقتل هل يجوز قتله أم لا؟
فذهب جمهور العلماء إلى أن الذي يسعى في الأرض فسادا لا يقتل إلا إذا قتل. أما إذا سرق فإنها تقطع يده ورجله من خلاف. وإذا أخاف الناس نفي من الأرض.
وذهب المالكية (4) إلى أن الإمام مخير في عقوبة من يسعى في الأرض
(1) المطلق: ما دل على شائع في جنسه. المقيد: ما لا يدل على شائع في جنسه.
(2)
المشترك: هو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر بوضع متعدد.
(3)
الأمر: هو طلب الفعل على جهة الاستعلاء. النهي: لفظ طلب به الكف عن الفعل جزما على جهة الاستعلاء.
(4)
انظر الخرشي على مختصر خليل 8/ 105 - 106.
فسادا فيجوز أن يقتله وإن لم يقتل الناس حسب ما يرى من المصلحة العامة.
وسبب اختلاف المجتهدين في هذه المسألة اختلافهم في تفسير معنى كلمة (أو) في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1).
فقال الجمهور (أو) في الآية للتقسيم وقال المالكية للتخيير.
المسألة الثانية: خيار المجلس:
اختلف العلماء المجتهدون في ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، وذلك لاختلافهم في تفسير معنى (التفرق)(2) المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (3)» فمن قال المراد بالتفرق في الحديث تفرق الاقوال لم يثبت خيار المجلس ومن قال المراد بالتفرق في الحديث تفرق الأجسام أثبت خيار المجلس (4).
القسم الثاني: الاجتهاد في الكشف عن حكم الله في المسائل التي لم ينص على حكمها في الكتاب أو في السنة.
ويدخل في هذا القسم من أقسام الاجتهاد:
(1) سورة المائدة الآية 33
(2)
كشف الأسرار عن أصول البزودي 3/ 65، تيسير التحرير 3/ 71.
(3)
رواه البخاري في كتاب البيوع باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا 3/ 18.
(4)
وهم الشافعية والحنابلة انظر مغني المحتاج 2/ 43، كشف القناع 3/ 198.
(1)
القياس:
وهو إعطاء مسألة لا نص فيها حكم مسألة نص على حكمها لاشتراك المسألتين في علة الحكم.
وقد شرع الله سبحانه للمجتهدين من هذه الأمة الكشف عن حكم الله في المسائل التي لم ينص على حكمها أو المسائل التي تستجد بإلحاقها بما يشبهها مما نص الشارع على حكمه إذا اشتركت في العلة. فقد ثبت أن بيع الحنطة (القمح) بالحنطة مع التفاضل ربا قال صلى الله عليه وسلم «التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى (1)» وقد ثبتت حرمة الربا في أكثر من آية وحديث قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2).
ولم يذكر في هذا الحديث ولا في غيره حكم بيع الحمص بالحمص مع التفاضل فاجتهد العلماء وقالوا يحرم بيع الحمص بالحمص مع التفاضل قياسا على حرمة بيع القمح بالقمح مع التفاضل لاشتراكهما في العلة وهي: اتحاد الجنس والطعم (3).
وقد استعمل القياس في القرآن وكذلك في السنة وهذا دليل على حجيته ووقوعه قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (4){قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (5).
رد الله سبحانه على منكري البعث بالقياس من باب أولى فقال لهم قيسوا إحياءكم في المرة الثانية على خلقكم في المرة الأولى.
وقال صلى الله عليه وسلم للمرأة من جهينة التي جاءت فقالت: «إن أمي نذرت أن
(1) رواه مسلم في كتاب المساقاة باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا 3/ 1211.
(2)
سورة البقرة الآية 275
(3)
هذه علة تحريم البيع مع التفاضل في الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث عند الشافعية.
(4)
سورة يس الآية 78
(5)
سورة يس الآية 79
تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته - أي ذلك الدين عنها - اقضوا الله فالله أحق بالوفاء (1)». فقاس عليه الصلاة والسلام دين الله على دين العبد فكما يجب قضاء الثاني يجب قضاء الأول والعلة أن كلا منهما حق ثبت في ذمة المكلف.
والأئمة الأربعة قالوا بحجية القياس. ولا يصح القياس إلا مع عدم النص أما مع وجود النص سواء أكان قرآنا أم سنة صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم فالقياس مردود. فلو قال مجتهد أقيس البنت على الابن فأعطيها مثل ما أعطي الابن من الميراث والعلة في ذلك تساوي الابن والبنت في القرابة، قلنا له هذا قياس باطل لأن القياس لا يكون إلا إذا فقد النص وقد نص القرآن أن للذكر مثل حظ الأنثيين، قال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (2).
(2)
الاستحسان:
هو العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم مخالف لدليل أقوى اقتضى هذا العدول.
وقد يكون الدليل الأقوى الذي لأجله عدل بالمسألة عن حكم نظائرها نصا أو إجماعا أو قياسا خفيا أو عرفا صحيحا أو مصلحة.
فمثلا قال الحنفية الأصل في الوصية عدم الجواز، لأنها تصرف مضاف إلى ما بعد الموت والإنسان لا يملك التصرف بأمواله بعد موته لأن المال أصبح ملكا للورثة وأجازوا الوصية استحسانا (3) لدليل من القرآن اقتضى ذلك، قال تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (4).
(1) رواه البخاري في كتاب جزاء الصيد باب الحج والنذور عن الميت والرجل عن المرأة 2/ 217 - 218.
(2)
سورة النساء الآية 11
(3)
انظر بدائع الصنائع للكاساني 10/ 4837.
(4)
سورة النساء الآية 11
ومثال استحسان العرف ما قاله العلماء بأنه لو حلف رجل أن لا يأكل اللحم وأكل سمكا فإنه لا يحنث استحسانا لأن السمك وإن كان يسمى لحما في اللغة إلا أن عرف الناس في كثير من البلدان إطلاق اللحم على لحم الضأن والماعز والإبل والبقر دون السمك.
وأكثر من ذهب إلى العمل بالاستحسان الحنفية والمالكية وقال به الحنابلة ولم يتوسعوا فيه، ومنعه الشافعية مطلقا.
والصحيح أن الاستحسان راجع إلى غيره من الأدلة فاستحسان الأثر راجع إلى القرآن أو السنة واستحسان الإجماع راجع إلى الإجماع واستحسان القياس راجع إلى القياس واستحسان العرف راجع إلى العرف واستحسان المصلحة راجع إلى المصلحة.
(3)
المصلحة المرسلة:
سميت مصلحة لأن فيها محافظة على مقصود الشارع من جلب منفعة أو دفع مضرة، ويدخل في ذلك تحقيق الضروريات للناس - وهي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال - ومراعاة الحاجيات والتحسينيات.
وسميت مرسلة أي مطلقة عن دليل يخصها بعينها، لكن شهد لجنسها جملة أدلة (1).
وقد اجتهد العلماء فقالوا بقتل الجماعة إذا قتلوا واحدا واستنادا للمصلحة المرسلة (2) وذلك لعدم وجود دليل يخص هذه المسألة بعينها.
(1) انظر الموافقات للشاطبي 1/ 38 - 39.
(2)
انظر الاعتصام للشاطبي 2/ 125 - 126.
لكن الحكم على الجماعة بالقتل إذا قتلوا واحدا يحفظ النفس وإلا اتخذ المجرمون الاشتراك في القتل ذريعة إلى قتل أعدائهم (1). وقد شهد لحفظ النفس جملة نصوص وعدة أدلة تفيد القطع.
(4)
الاستصحاب:
وهو إبقاء الأمر على البراءة أو على ما هو عليه حتى يقوم دليل بغيره والاستصحاب حجة شرعية عند جمهور المجتهدين.
فإذا ادعى شخص أن له على آخر دينا، فالأصل أن ذمة المدعى عليه غير مشغولة بهذا الدين ما لم يقم المدعي البينة على دعواه لأن الأصل براءة الذمة.
وإذا دخل وقت الظهر وشك المسلم هل صلى أم لا؟ وجب عليه أن يصلي لأن الأصل شرعا وجوب الصلاة عند دخول وقتها وأن المكلف مطالب بهذا حتى يتيقن من الأداء.
وإذا اختلطت الأخت بأجنبيات ولم تعرف، حرم الزواج من أي واحدة منهن لأن الأصل في الأبضاع الحرمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (2)» .
ولو اشترط البائع أو المشتري شرطا في عقد البيع لا يتنافى مع مقتضى العقد ولم ينه عنه أبيح له ذلك لأن الأصل في المنافع الإباحة لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (3).
(1) انظر بدائع الصنائع للكاساني 10/ 4628.
(2)
جزء من حديث رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم ظلم المسلم .. 4/ 1986.
(3)
سورة البقرة الآية 29
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (1).
وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (2).
إلى غير ذلك من الأدلة (3).
(5)
سد الذرائع:
ومعناه المنع من الشيء الجائز إذا كان يؤدي إلى مفسدة غالبا. وقد اشتهر القول بسد الذرائع عن الإمام مالك ثم الإمام أحمد.
وأشار القرآن الكريم إلى مبدأ سد الذرائع فنهانا عن سب آلهة المشركين مع ما في ذلك من المصلحة؛ لأن هذا ذريعة لهم لسب الله سبحانه، قال تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (4).
وقال الإمام مالك في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال له الذي عليه الدين: بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا بمائة وخمسين إلى أجل: هذا بيع لا يصلح ولم يزل أهل العلم ينهون عنه. وإنما لا يصلح هذا البيع عند مالك رحمه الله لأنه ذريعة إلى الربا (5).
(1) سورة لقمان الآية 20
(2)
سورة الأعراف الآية 32
(3)
انظر نيل الأوطار للشوكاني 8/ 106 وما بعدها، رفع الحرج للدكتور / صالح بن حميد ص108 - 113.
(4)
سورة الأنعام الآية 108
(5)
انظر موطأ الإمام مالك كتاب البيوع باب ما جاء في الربا في الدين ص468.
ولا بد للمجتهد وهو يبحث عن حكم الله في المسائل التي لم ينص على حكمها من مراعاة المقصد العام من تشريع الأحكام - وهو جلب منفعة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها - وتحقيق ضروريات الناس ومراعاة حاجاتهم وتحسينياتهم ومراعاة اليسر ورفع الحرج واعتبار أعرافهم الصحيحة في إطار ما أقرته الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.