الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على المسلمين فحسب، وكان اسم النجاشي الذي أسلم وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب: أصحمة (1).
(1) المحبر (76) والبداية والنهاية (3/ 77).
في سرية مؤتة:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان الهجرية، وكان سبب بعث هذه السرية أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي أحد أبناء بني لهب إلى ملك بصرى (1) بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رسول غيره، فاشتد ذلك عليه، وندب الناس، فأسرعوا، وعسكروا خارج المدينة المنورة بالجرف (2)، وهم ثلاثة آلاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمير الناس زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون بينهم رجلا، فيجعلوه عليهم (3)» .
وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لواء أبيض دفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم الله وقاتلوهم. وخرج عليه الصلاة والسلام مشيعا لهم حتى بلغ (ثنية الوداع)(4)، فوقف وودعهم، فلما ساروا من معسكرهم نادى المسلمون: دفع الله عنكم، وردكم صالحين غانمين! فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
…
وضربة ذات فرع تقذف الزبدا (5)
(1) بصرى: مدينة من أعمال دمشق، وهي قصبة حوران، انظر: التفاصيل في معجم البلدان (2/ 208).
(2)
الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام، انظر معجم البلدان (3/ 87).
(3)
صحيح البخاري المغازي (4261).
(4)
ثنية الوداع: ثنية مشرفة على المدينة، سميت لتوديع المسافرين منها، انظر معجم البلدان (3/ 25).
(5)
ذات فرع: أي ذات سعة.
ولما فصل المسلمون من المدينة، سمع العدو بمسيرهم فجمعوا لهم، وقام فيهم شرحبيل بن عمرو، فجمع أكثر من مائة ألف، وقدم الطلائع أمامه.
ونزل المسلمون (معان)(1) من أرض الشام، وبلغ الناس أن هرقل قد نزل (مآب)(2) من أرض البلقاء في مائة ألف من بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام.
وأقام المسلمون في معان ليلتين لينظروا في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره الخبر. . . . . ولكن عبد الله بن رواحة شجع المسلمين على المضي قدما إلى هدفهم تنفيذا لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم، فمضوا إلى مؤتة.
ولما وصل المسلمون إلى (مؤتة)، وافاهم المشركون هناك، فجاءهم ما لا قبل لأحد به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فالتقى المسلمون بالمشركين، وقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم.
وأخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل وقاتل المسلمون معه على صفوفهم، حتى قتل طعنا بالرماح رحمه الله.
وأخذ اللواء جعفر بن أبي طالب، فترجل عن فرس له شقراء، فعرقبها (3)، فكانت أول فرس عرقبت في الإسلام، وقاتل حتى استشهد رضي الله عنه، ضربه رجل من الروم، فقطعه بنصفين، فوجد في أحد نصفيه بضعة وثلاثون جرحا، ووجد فيما أقبل من بدن جعفر ما بين منكبيه تسعون ضربة بين طعنة برمح وضربة بسيف، وفي رواية أخرى اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح (4).
(1) معان: مدينة بطرف بادية الشام تلقاء الحجاز، انظر: معجم البلدان (8/ 93)
(2)
مآب: مدينة في طرف الشام بنواحي البلقاء انظر: معجم البلدان (7/ 249).
(3)
عرقبها: قطع عرقوبها، وعرقوب الدابة في رجلها.
(4)
انظر: التفاصيل في طبقات ابن سعد (4/ 38 - 39).
وأخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فسحب قوات المسلمين من ساحة المعركة وحمى بالشاقة انسحابهم، وعاد بهم إلى المدينة.
وهكذا مضى جعفر إلى ربه شهيدا، مقبلا غير مدبر، يقاتل الروم وحلفاءهم من الغساسنة وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها
…
طيبة وباردا شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
…
كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
…
.........
فأخذ جعفر اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه (1) بعضديه حتى قتل (2) فسقط مضرجا بدمائه دون أن يسقط اللواء، فقد رفعه أحد المسلمين عاليا، وتلك شجاعة فذة، وبطولة نادرة، وإقدام لا يتكرر إلا قليلا.
الإنسان:
كانت سن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم أسلم إحدى عشر سنة على أصح ما ورد من الأخبار في إسلامه، وقيل ثلاث عشرة، وقيل: سبع سنين، والثابت إحدى عشرة سنة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث وهذه سنوه، فأقام معه بمكة ثلاث عشرة سنة (3)، أي أن عليا كان في الرابعة والعشرين من عمره حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
(1) احتضنه: أخذه في حضنه، وحضن الرجل: ما تحت العضد إلى أسفل.
(2)
سيرة ابن هشام (3/ 434).
(3)
مقاتل الطالبيين (17)
وكان جعفر أكبر من علي بن أبي طالب بعشر سنين (1) أي أن جعفرا كان في الرابعة والثلاثين من عمره حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
وقد استشهد جعفر بمؤتة من أرض الشام مقبلا غير مدبر مجاهدا للروم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في شهر جمادى الأولى من سنة ثمان الهجرية (2)(629 م)، أي أنه استشهد وكان له من العمر اثنتان وأربعون سنة.
وولد جعفر: عبد الله، ومحمدا، وعونا، أمهم: أسماء بنت عميس، الخثعمية (3) ولما هاجر جعفر إلى أرض الحبشة، حمل امرأته أسماء بنت عميس فولدت له هناك: عبد الله ومحمدا وعونا، ثم ولد للنجاشي بعدما ولدت أسماء بنت عميس ابنها عبد الله، فأرسل إلى جعفر:"ما سميت ابنك؟ " قال: " عبد الله " فسمى النجاشي ابنه عبد الله، فأخذته أسماء وأرضعته حتى فطمته بلبن عبد الله بن جعفر، ونزلت بذلك عندهم منزلة، فكان من أسلم بالحبشة يأتي أسماء بعد، يخبر خبرهم فلما ركب جعفر بن أبي طالب مع أصحاب السفينتين منصرفهم من عند النجاشي، حمل معه أسماء بنت عميس وولده الذين ولدوا هناك: عبد الله، ومحمدا وعونا، حتى قدم بهم المدينة، فلم يزالوا بها حتى وجه النبي صلى الله عليه وسلم جعفرا إلى مؤتة، فمات بها شهيدا (4).
ولجعفر ثلاثة أبناء من أسماء بنت عميس، انقرض عقب محمد من قبل ابنه القاسم، ولم يكن له غيره، ولعون عقب غير مشهور، وولد عبد الله
(1) أسد الغابة (1/ 287) والاستيعاب (1/ 242) والإصابة (1/ 248).
(2)
الإصابة (1/ 248) وانظر تاريخ خليفة بن خياط (1/ 49) والعبر (1/ 9) وتهذيب التهذيب (2/ 98).
(3)
انظر: نسبها في نسب قريش (80 - 81) وجمهرة أنساب العرب (390 - 391).
(4)
نسب قريش (81).
بن جعفر وأولهم علي بن عبد الله بن جعفر، وفيه الكثرة والعدد، وأمه زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما استشهد حمزة بن عبد المطلب، خلف ابنة واحدة، فرآها علي بن أبي طالب تطوف حول الكعبة بين الرجال، فأخذ بيدها وألقاها إلى فاطمة في هودجها. واختصم فيها علي بن أبي طالب، وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة حتى ارتفعت أصواتهم، فأيقظوا النبي صلى الله عليه وسلم من نومه، فقال:"هلموا أقض بينكم فيها وفي غيرها" فقال علي: "ابنة عمي، وأنا أخرجتها، وأنا أحق بها" وقال جعفر: "ابنة عمي، وخالتها عندي"، وقال زيد:"ابنة أخي "، فقال في كل واحد قولا رضيه، فقضى بها لجعفر، وقال:"الخالة والدة"، فقام جعفر فحجل (1) حول النبي صلى الله عليه وسلم، دار عليه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:"ما هذا؟ "، قال:"شيء رأيت الحبشة يصنعون بملوكهم" وخالة بنت حمزة أسماء بنت عميس، وأمها سلمى بنت عميس (2).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر حين تنازع هو وعلي وزيد في ابنة حمزة: «أشبه خلقك خلقي، وخلقك خلقي (3)» ، وفي رواية أخرى:«أشبهت خلقي وخلقي (4)» ، وفي رواية ثالثة:«إنك شبيه خلقي وخلقي (5)» ، فهو أحد المعدودين من المشبهين بالنبي صلى الله عليه وسلم (6).
(1) حجل - حجلا وحجلانا: مشى على رجل، رافعا الأخرى. ويقال: مر يحجل في مشيته: إذا تبختر.
(2)
طبقات ابن سعد (4/ 35 - 36) وانظر جمهرة أنساب العرب (390) خول نسب أسماء وسلمى ابنتي عميس.
(3)
صحيح البخاري المغازي (4251)، سنن الترمذي المناقب (3765).
(4)
صحيح البخاري الصلح (2700)، سنن الترمذي المناقب (3765).
(5)
طبقات ابن سعد (4/ 36)
(6)
انظر أسماءهم في المحبر (46 - 47).
وكان اسم ابنة حمزة رضي الله عنه: أمامة، زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة، وكان يقول:«هل جزيت سلمة؟» ، يعني حين زوجه بنت حمزة بتزويجه إياه أمه أم سلمة (1).
وقد تزوج أسماء بنت عميس بعد جعفر أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2).
فقالت ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل جعفر كما روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت:«عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن " ثم أمهل عليه الصلاة والسلام آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال: ائتوني ببني أخي، فجيء بنا كأننا أفراخ، فقال: ادعو إلى الحلاق، فدعي، فحلق رءوسنا، ثم قال: اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه ثلاث مرات، فجاءت أسماء وذكرت يتم أولادها، فقال: آلعيله تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟ (4)» .
وذكر عن عبد الله بن جعفر أنه قال: «"أنا أحفظ حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمي فنعى لها أبي، فأنظر إليه، يمسح على رأسي، وعيناه تهرقان بالدموع، حتى تقطر لحيته، ثم قال: اللهم إن جعفرا قدم إلي أحسن
(1) المحبر (107).
(2)
المحبر (442 - 443).
(3)
طبقات ابن سعد (4/ 37).
(4)
الإصابة (1/ 249). (3)
(5)
طبقات ابن سعد (4/ 38).
الثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته، ثم قال: يا أسماء! ألا أسرك؟، "قالت:"بلى، بأبي أنت وأمي"، قال: إن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة، قالت:" بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فأعلم الناس ذلك"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ بيدي حتى رقى المنبر، وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى، والحزن يعرف عليه، فتكلم، فقال: إن المرء كثير بأخيه وابن عمه، ألا إن جعفرا قد استشهد، وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل بيته، وأدخلني معه، وأمر بطعام فصنع لأهلي وأرسل إلى أخي، فتغذينا عنده والله غداء طيبا مباركا: عمدت سلمى خادمه إلى شعير فطحنته، ثم نسفته، فأنضجته، وأدمته بزيت، وجعلت عليه فلفلا، فتغديت أنا وأخي معه، فأقمنا ثلاثة أيام في بيته، ندور معه كلما صار في بيت إحدى نسائه، ثم رجعنا إلى بيتنا (1)».
وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر بن الخطاب كان إذا سلم على ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين" (2) لأنه قاتل في مؤتة فقطعت يداه والراية معه لم يلقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة (3)» .
«ولما نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا إلى زوجه أسماء بنت عميس، قامت وصاحت وجمعت النساء، فدخلت عليها فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي وتقول: "واعماه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على مثل جعفر فلتبك البواكي ودخله من ذلك هم شديد ولما رجع عليه الصلاة والسلام إلى أهله قال: لا تغفلوا آل جعفر، فإنهم قد شغلوا فأعدوا لآل جعفر
(1) نسب قريش (81 - 82).
(2)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 149) والإصابة (1/ 249).
(3)
أسد الغابة (1/ 288).
(4)
أنساب الأشراف (1/ 380).
طعاما، وأوصى أسماء زوج جعفر بقوله: لا تقولي هجرا ولا تضربي صدرا (1)».
وكان مما بكي به شهداء مؤتة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قول حسان بن ثابت:
تأوبني ليل بيثرب أعسر
…
وهم إذا ما نوم الناس مسهر
لذكرى حبيب هيجت لي عبرة
…
سفوحا وأسباب البكاء التذكر (2)
بلى إن فقدان الحبيب بلية
…
وكم من كريم يبتلى ثم يصبر
رأيت خيار المؤمنين تواردوا
…
شعوبا وخلفا بعدهم يتأخر
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا
…
بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد الله حين تتابعوا
…
جميعا وأسباب المنية تخطر (3)
غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم
…
إلى الموت ميمون النقيبة أزهر (4)
أغر كضوء البدر من آل هاشم
…
أبي إذا سيم الظلامة مجسر (5)
فطاعن حتى مال غير موسد
…
بمعترك فيه قنا متكسر (6)
فصار مع المستشهدين ثوابه
…
جنان وملتف الحدائق أخضر (7)
وكنا نرى في جعفر من محمد
…
وفاء وأمرا حازما حين يأمر
وما زال في الإسلام من آل هاشم
…
دعائم عز لا يزلن ومفخر
(1) أسد الغابة (1/ 289)(4)
(2)
العبرة: الدمعة. والسفوح السائلة أو شديدة السيلان.
(3)
تخطر: تقول: خطر فلان في مشيته: إذا اختال فيها وتبختر وتحرك واهتز.
(4)
ميمون النقيبة: يريد أنه مسعود منجح فيما يطلبه. وأزهر: أبيض.
(5)
الأبي: العزيز الذي يأبى الضيم، أي يمتنع من قبوله. سيم: كلف. المجسر: الشديد الجسارة.
(6)
المعترك: موضع الحرب.
(7)
الحدائق: جمع حديقة وهي الجنة.
هم جبل الإسلام والناس حولهم
…
رضام إلى طود يروق ويبهر (1)
بهاليل منهم جعفر وابن أمه
…
علي ومنهم أحمد المتخير (2)
وحمزة والعباس منهم ومنهم
…
عقيل وماء العود من حيث يعصر
بهم تفرج اللأواء في كل مأزق
…
عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر (3)
هم أولياء الله أنزل حكمه
…
عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر
وقال كعب بن مالك يرثي جعفر بن أبي طالب:
هدت العيون ودمع عينك يهمل
…
سحا كما وكف الطباب المخضل
في ليلة وردت علي همومها
…
طورا أخن وتارة أتململ
واعتادني حزن فبت كأنني
…
ببنات نعش والسماك موكل (4)
وكأنما بين الجوانح والحشا
…
مما تأوبني شهاب مدخل (5)
وجدا على النفر الذين تتابعوا
…
يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
صلى الإله عليهم من فتية
…
وسقى عظامهم الغمام المسبل (6)
صبروا بمؤتة للإله نفوسهم
…
حذر الردى ومخافة أن ينكلوا (7)
فمضوا أمام المسلمين كأنهم
…
فنق عليهن الحديد المرفل (8)
إذ يهتدون بجعفر ولوائه
…
قدام أولهم فنعم الأول
حتى تفرجت الصفوف وجعفر
…
حيث التقى وعث الصفوف مجدل (9)
(1) الرضام: جمع رضم، وهو الحجارة يجعل بعضها فوق بعض. والطود: الجبل. ويروق: يعجب.
(2)
البهاليل: جمع بهلول، وهو السيد.
(3)
اللأواء: الشدة. والمأزق: المكان الضيق. والعماس: المظلم، يريد عند ارتفاع الغبار فيه.
(4)
بنات نعش: من النجوم المعروفة.
(5)
الجوانح: عظام أسفل الصدر. والشهاب: القطعة من النار. ومدخل: اسم مفعول من أدخل.
(6)
المسبل: الممطر، ويقال للمطر: سبل.
(7)
ينكلوا: يرجعوا عن عدوهم هائبين له.
(8)
فنق: جمع فنيق، وهو الفحل على الإبل. والمرفل: الذي تجر أطرافه على الأرض.
(9)
الوعث: الرمل الذي تغيب فيه الأرجل. ومجدل: مطروح على الجدالة وهي الأرض.
فتغير القمر المنير لفقده
…
والشمس قد كسفت وكادت تأفل (1)
قرم علا بنيانه من هاشم
…
فرعا أشم وسؤددا ما ينقل
قوم بهم عضم الإله عباده
…
وعليهم نزل الكتاب المنزل
فضلوا المعاشر عزة وتكرما
…
وتغمدت أحلامهم من يجهل (2)
لا يطلقون إلى السفاه حباهم
…
وترى خطيبهم بحق يفصل
بيض الوجوه ترى بطون أكفهم
…
تندى إذا اعتذر الزمان الممحل (3)
وبهديهم رضي الإله لخلقه
…
وبحدهم يصر النبي المرسل
وقال حسان بن ثابت يبكي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه:
ولقد بكيت وعز مهلك جعفر
…
حب النبي على البرية كلها
ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي
…
من للجلاد لدى العقاب وظلها (4)
بالبيض حين تسل من أغمادها
…
ضربا وإنهال الرماح وعلها
بعد ابن فاطمة المبارك جعفر
…
خير البرية كلها وأجلها (5)
رزءا وأكرمها جميعا محتدا
…
وأعزها متظلما وأذلها
للحق حين ينوب غير تنحل
…
كذبا وأنداها يدا وأقلها (6)
(1) تأفل: تغيب.
(2)
تغمدت أحلامهم من يجهل: أي سترت أهل الجهل.
(3)
الممحل: هو من المحل، وهو الشدة والقحط وكلب الزمان والجدب.
(4)
العقاب في هذا المكان الراية.
(5)
فاطمة هاهنا: هي أم جعفر وعلي وعقيل أبناء أبي طالب، هي أول هاشمية ولدت لهاشمي.
(6)
التنحل: الانتحال، والتنحل: الكذب أيضا.
فحشا وأكثرها إذا ما يجتدى
…
فضلا وأنداها يدا وأبلها (1)
بالعرف غير محمد لا مثله
…
حي من أحياء البرية كلها
والشعر في رثائه كثير، اكتفينا بجزء منه
لقد كانت لجعفر مواقف مشهورة، ومقامات محمودة، وأجوبة سديدة، وأحوال رشيدة، وقال فيه أبو هريرة:"ما احتذى النعال ولا انتعل، ولا ركب المطايا، ولا لبس الثياب من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب " وكأنه إنما يفضله في الكرم، فأما في الفضيلة الدينية، فمعلوم أن الصديق والفاروق بل وعثمان بن عفان أفضل منه. وأما أخوه علي بن أبي طالب فالظاهر أنهما متكافئان أو علي أفضل منه، وإنما أراد أبو هريرة تفضيله بالكرم، بدليل ما رواه البخاري عن أبي هريرة: كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة (2) التي ليس فيها شيء فنشقها، فنعلق ما فيها" تفرد به البخاري (3)، فهو الجواد أبو الجواد (4) بحق، وكان أبو هريرة كما روى البغوي يقول: "كان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويخدمهم ويخدمونه (يحدثهم ويحدثونه)، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه: أبا المساكين" (5).
ولما عاد جعفر من أرض الحبشة مهاجرا إلى المدينة، وقدم مع المسلمين في السفينتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر، أسهم لهم من
(1) يجتدى: تطلب جدواه، والجدوى بفتح الجيم: المنحة والعطية.
(2)
العكة: زق صغير للسمن، جمعها: عكك، وعكاك.
(3)
البداية والنهاية (4/ 256 - 257).
(4)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 148) وتهذيب التهذيب (2/ 91).
(5)
الإصابة (1/ 248).
غنائم خيبر ولم يسهم لمن لم يحضرها غير أهل السفينتين (1)، فكانت حصة جعفر خمسين وسقا من تمر في كل سنة (2).
وقد ورد ذكر جعفر في (المختصر) وفي مواضع من (المهذب)، منها: باب التكبير في العيد، والتعزية، والشرط في الطلاق، والحضانة (3). روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه عبد الله وبعض أهله وأم سلمة وعمرو بن العاص وابن مسعود، وروى له النسائي في اليوم والليلة حديثا واحدا من رواية ابنه عبد الله عنه في كلمات الفرح والمحفوظ عن عبد الله بن جعفر عن علي بن أبي طالب (4).
وكان علي بن أبي طالب يقول: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يكن قبلي نبي إلا قد أعطى سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني أعطيت أربعة عشرة (5)» ، وعدد أسماءهم ومنهم جعفر (6).
وكان أحد حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أبو بكر، وعمر، وعلي، وحمزة، وجعفر، وأبو عبيدة بن الجراح، وعثمان بن عفان، وعثمان بن مظعون، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهم، وقيل الزبير بن العوام وحده (7) حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 148).
(2)
طبقات ابن سعد (4/ 41).
(3)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 148).
(4)
تهذيب التهذيب (2/ 98) وانظر خلاصة تهذيب التهذيب الكمال (63).
(5)
سنن الترمذي المناقب (3785)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 148).
(6)
أسد الغابة (1/ 287 - 288).
(7)
المحبر (474).
وصدقت زوجه أسماء بنت عميس حيث وصفته بعد موته قائلة: "ما رأيت شابا من العرب كان خيرا من جعفر، ولا رأيت كهلا خيرا من أبي بكر "(1).
وصدقت في رثائه حين قالت:
فآليت لا تنفك نفسي حزينة
…
عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
فلله عينا من رأى مثله فتى
…
أكر وأحمى في الهياج وأصبرا (2)
ومناقب جعفر كثيرة مشهورة (3).
القائد
عاد جعفر إلى المدينة المنورة مهاجرا إليها من هجرته إلى أرض الحبشة في أعقاب غزوة خيبر التي كانت في شهر محرم من سنة سبع الهجرية، كما ذكرنا من قبل.
وكانت غزوة مؤتة في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة الهجرية، فمكث مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة وثلاثة أشهر، لم يكن فيها من الأحداث المهمة غير عمرة القضاء التي كانت في شهر ذي القعدة من السنة السابعة الهجرية التي شهدها النبي صلى الله عليه وسلم وغير بعض السرايا التي قادها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم جاءت سرية مؤتة، وهي من أهم سرايا النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كانت على الروم في أرض الشام وحلفائهم من العرب الغساسنة النصارى وحلفاء الغساسنة من العرب النصارى والمشركين، فكانت أول سرية تتعرض بالدولة البيزنطية وهي أكبر دولتين في العالم حينذاك: الروم والفرس، كما كانت أول سرية تنهض بتعرض خارجي على نطاق دولي لأعلى نطاق محلي
(1) طبقات ابن سعد (4/ 41).
(2)
البداية والنهاية (4/ 253).
(3)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 149).
قبلي، لذلك احتفل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الغزوة، وحشد لها ثلاثة آلاف مجاهد من المسلمين وولى قيادتها أكفأ قادته: زيد بن حارثة الكلبي، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحه.
وبالرغم من قصر المدة التي بقي فيها جعفر إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه شارك في سرية مؤتة قائدا، فخاض معركة مهمة جدا من معارك المسلمين على الروم وحلفائهم وهي المعركة التمهيدية الحقيقية لفتح بلاد الشام التي حملت المسلمين على تأسيس أول ركن لدولة الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية، على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جانب تبليغه الدعوة الإسلامية إلى قادة العالم في وقته، كان قائدا ماهرا يقظا لا يغض الطرف عن أي مظهر عدواني قد يحط من شأن دعوته أو يعمل على النيل منها، فلم يقف ساكنا إزاء استشهاد رسوله الذي بعثه إلى أمير الغساسنة في بصرى، فأرسل سرية مؤتة للأخذ بثأر رسوله الشهيد. وهناك عند مؤتة على حدود البلقاء إلى الشرق من الطرف الجنوبي للبحر الميت، التقى المسلمون بقوات الروم.
ومهما كانت الخاتمة التي لقيتها سرية مؤتة، فإن نتائجها وآثارها كانت بعيدة المدى، فبينما رأى الروم تلك السرية (غارة) من الغارات التي اعتاد البدو شنها للنهب والسلب كانت تلك السرية في الواقع ومعركتها من نوع جديد لم تقدر دولة الروم أهميتها، فهي حرب منظمة كانت لها مهمة خاصة، جعلت المسلمين يتطلعون جديا لفتح أرض الشام.
وفي العام التالي، أي في السنة التاسعة الهجرية (630 م)، قاد النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه غزوة (تبوك)، فأظهر قوة المسلمين، وعاد إلى المدينة منتصرا.
لقد قدر الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام بعمق ودقة أهمية سرية مؤتة وأهمية المعركة التي تخوضها، وخطورتها على حاضر
المسلمين ومستقبلهم، لذلك جعل على تلك السرية ثلاثة قادة من أبرز قادته وألمعهم، إذا سقط الأول شهيدا، تولى القيادة الثاني وإذا استشهد الثاني تولاها الثالث فإذا استشهد اصطلح المسلمون على قائد يختارونه، وما ولى النبي صلى الله عليه وسلم قبل سرية مؤتة ولا ولى بعدها ثلاثة قادة أو قائدين على سرية واحدة، ولكن بعد نظره عليه الصلاة والسلام وتقديره لأهمية هذه السرية وخطورتها هو الذي جعله يولي ثلاثة قادة على سرية واحدة، مرة واحدة فقط في حياته العسكرية كلها، وقد صدقت الأحداث ما توقعه، فانهزمت السرية ظاهريا ولكنها انتصرت معنويا حيث رجعوا وأثرت في معنويات الروم تأثيرا عظيما.
وتولية جعفر القيادة في سرية مؤتة على أهميتها وخطورتها، دليل على كفايته القيادية وأنه قائد من طراز فريد.
وليس من الصعب اكتشاف سمات جعفر القيادية، فقد كان من أولئك القادة ذوي العقيدة الراسخة، الذين يضحون أرواحهم من أجل عقيدتهم، ويعتبرون الشهادة فوزا عظيما.
وحين رفع اللواء جعفر بعد استشهاد سلفه زيد بن حارثة، كان يعلم بالتأكيد أنه يسلك طريق الشهادة، فأقبل على مصيره المرتقب مقبلا غير مدبر بإصرار وعناد واستقتال، وهو دليل على شجاعته النادرة التي لا تتكرر إلا في المجاهدين الصادقين المحتسبين من ذوي العقيدة الراسخة والإيمان العميق.
وكان يتمتع بعقل سديد ومنطق صائب وذكاء وقاد، مما يؤدي إلى أن تكون قراراته سريعة صحيحة.
وكان ذا إرادة قوية ثابتة يتحمل المسئولية ويحبها ولا يتهرب منها أو يلقيها على عواتق الآخرين.