الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"البرهان في علوم القرآن"، والسيوطي في كتابه "الإتقان" و "معترك الأقران في إعجاز القرآن"، بيد أن أهمية هذا العلم قد جعلت بعضهم يفردونه في مؤلفات مستقلة، فهذا ابن الجوزي قد كتب كتابه "فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن"(1)، ولكنه أفرد الوجوه والنظائر القرآنية في كتاب مستقل أسماه "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر" اهتماما بشأنه، وسعة مادته، ثم اختصره في كتاب "منتخب قرة العيون النواظر في الوجوه والنظائر في القرآن الكريم".
وهذا السيوطي يفرد له بابا في كتاب "الإتقان"، ثم أفرده في كتاب مستقل أسماه "معترك الأقران في مشترك القرآن"، وكذلك غيرهما من العلماء.
ومن العلماء من لم يكتب كتابا شاملا في علوم القرآن، ولكنه اعتنى بهذا العلم على وجه الخصوص - أعني الوجوه والنظائر في القرآن الكريم - وأفرد له كتابا " كمقاتل بن سليمان " في كتابه "الأشباه والنظائر في القرآن الكريم"، وهارون بن موسى، أبو عبد الله الأزدي في كتابه "الوجوه والنظائر في القرآن الكريم". ومن هنا يتضح ما لهذا العلم من منزلة بين العلوم الشرعية بعامة، وعلوم القرآن بخاصة.
(1) انظر: كشف الظنون 2/ 1292.
نشأته:
إن هذا العلم ليس من العلوم المستحدثة، وإنما وجد منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:«لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة» .
وهذا الحديث روي مرفوعا وموقوفا، وقد أخرج المرفوع مقاتل بن
سليمان البلخي - وهو متهم بالكذب - في كتابه الاشباه والنظائر في القرآن الكريم بإسناده بلفظ «لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة (1)» وأخرجه ابن عبد البر بإسناده من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ولا يفقه العبد كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة (2)» .
وهذا الطريق ضعيف جدا، وذلك لضعف صدقة بن عبد الله السمين، وكذا فيه أبان بن عياش وهو متروك الحديث.
أما الطريق الموقوف فقد جاء موقوفا على أبي الدرداء رضي الله عنه فقد أخرجه عبد الرزاق من حديث معمر بن راشد عن أيوب
(1) انظر: الإتقان 2/ 121.
(2)
انظر: جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله 2/ 45.
السختياني عن أبي قلابة عن أبي الدرداء بلفظ "لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها كثيرة"(1) ورجال هذا الإسناد كلهم أئمة جبال.
وأخرجه ابن عبد البر من طريق عبد الرزاق السابق به.
وأخرجه أبو نعيم من حديث أبي بكر القطيعي - وهو ثقة - عن عبد الله بن أحمد بن حنبل - وهو ثقة - عن أبيه - الإمام أحمد - عن إسماعيل بن عليه - وهو ثقة - عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أبي الدرداء به (2).
(1) انظر: المصنف 11/ 255، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.
(2)
انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 1/ 281.
ومما تقدم يظهر أن الحديث يدور على أيوب السختياني - وهو ثقة حجة - عن أبي قلابة - وهو ثقة فاضل لكنه يرسل - وقد أرسل هذا الحديث عن أبي الدرداء، والدليل على إرساله بهذا الحديث: أنه روى عن حذيفة بن اليمان ولم يلحقه - قاله الذهبي -، وحذيفة مات سنة 36، وأبو الدرداء مات سنة 32 هـ في الراجح، وقيل سنة 31 هـ (1)، فيكون على هذا لم يلحق أبا الدرداء من باب أولى.
علما أنني لم أجد - فيما لدي - من نص على سماعه من أبي الدرداء، وبهذا يكون الحديث موقوفا مرسلا، غير أنه صحيح إلى أبي قلابة. وقد صحح ابن عبد البر هذا الحديث بقوله: هذا حديث لا يصح مرفوعا، وإنما الصحيح فيه أنه من قول أبي الدرداء. . أ. هـ (2).
وقد اعتنى الصحابة بتفسير القرآن الكريم، وبيان معانيه، فحكي عنهم وجوه متعددة في تفسير الآية الواحدة، أو اللفظة القرآنية الواحدة.
ويشهد له ما أخرجه ابن سعد. من طريق عكرمة عن ابن
(1) انظر: أسد الغابة 6/ 97، وتذكرة الحفاظ 1/ 24.
(2)
انظر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 45.
عباس أن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أرسله إلى الخوارج فقال: "اذهب إليهم فخاصمهم ولا تحاجهم في القرآن فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة".
وأخرج من طريق آخر أن ابن عباس قال له: "يا أمير المؤمنين فأنا أعلم بكتاب الله منهم في بيوتنا نزل، قال: صدقت، ولكن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن خاصمهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا. فخرج إليهم فخاصمهم بالسنن، فلم تبق بأيديهم حجة".
وقد نقل عن الصحابة والتابعين ومن أتى بعدهم من العلماء في تفسير الآية الواحدة معان متعددة: فمن ذلك ما نقل عن أبي العالية. قوله: كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنى، إلا هذه الآية:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (1).
(1) سورة النور الآية 31
أن لا يراها أحد" (1).
وأخرج عن سعيد بن جبير، قال:"العفو" في القرآن على ثلاثة أنحاء: نحو تجاوز عن الذنب، ونحو في القصد في النفقة:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (2).
ونحو في الإحسان فيما بين الناس: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ} (3).
وأخرج عكرمة، قال:"ما صنع الله فهو "السد"، ما صنع الناس فهو "السد" (4).
وذكر أبو عمرو الداني في قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} (5).
أن المراد بالحضور هنا المشاهدة. قال: وهو بالظاء بمعنى المنع والتحويط، قال: ولم يأت بهذا المعنى إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى:{فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} (6).
(1) انظر الإتقان 2/ 137.
(2)
سورة البقرة الآية 219
(3)
سورة البقرة الآية 237
(4)
انظر: الإتقان 2/ 137.
(5)
سورة الأعراف الآية 163
(6)
سورة القمر الآية 31
وقال أحمد بن فارس: "كل ما في القرآن من ذكر الأسف"، فمعناه الحزن إلا:{فَلَمَّا آسَفُونَا} (1) فمعناه أغضبونا.
وكل ما فيه من ذكر البروج فهي الكواكب إلا: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (2). فهي القصور الطوال الحصينة.
وكل ما فيه من "سخر" فالاستهزاء إلا {سُخْرِيًّا} (3). في الزخرف فهو من التسخير والاستخدام" (4).
وهذا القدر فيه الكفاية للدلالة على وجود هذا النوع من التفسير في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة من بعده، 3 والتابعين ومن جاء بعدهم إلا أنه لم تظهر دواعي تدوينه في زمن الرسول وأصحابه وتابعيهم وذلك للأسباب الآتية:
أولا: أن القرآن نزل بألسنتهم وهم أهل الفصاحة والبلاغة فهم من القدرة على إدراك ألفاظ القرآن ووجوه ألفاظه على حال لا تحوجهم إلى تدوينه، ولم يكن المجتمع العربي قد اختلط بعد باللسان الأعجمي الذي يحتاج إلى مثل هذه العلوم.
ثانيا: مشاهدتهم للتنزيل ومعرفة مناسبة النزول تساعدهم على فهم المراد من اللفظ في كل آية، وإن تعدد وروده في أماكن كثيرة من الآيات، ولكن ما إن جاء عصر أتباع التابعين حتى بعدت شقة الزمن بينهم وبين التنزيل فخفي عليهم بعض أسباب النزول، كما أن العجم قد دخلوا أفواجا في الإسلام وهم لا علم لهم باللغة العربية وأساليبها، بالإضافة إلى ذلك ظهور الأحزاب السياسية
(1) سورة الزخرف الآية 55
(2)
سورة النساء الآية 78
(3)
سورة الزخرف الآية 32
(4)
انظر: الإتقان 2/ 132 - 133.
الإسلامية التي حاولت أن تدعم مزاعمها بحمل الألفاظ على المعنى الذي يؤيد عقيدتها. كذلك انتشار تدوين العلوم، كل هذه الأمور كانت من أسباب تدوين هذا النوع من التفسير حفاظا على هذا العلم من الضياع.
فمن هذا كله وما تقدم نجد أن هذا العلم كان موجودا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعين من بعدهم، وأن الدواعي الآنفة الذكر كانت من أسباب توسع هذا العلم وتدوينه في كتب وكراريس، ثم تتابع التأليف في القرون التالية.
وبالجملة فإن الاهتمام بالدراسات التي تتعلق بالقرآن الكريم إنما تعكس مدى العناية بهذا الكتاب الكريم، وقد ظهرت هذه العناية منذ عصر الصحابة كما أشرنا إلى ذلك في كثير من المواطن. ونرجو الله ألا تتوقف هذه الدراسات التي تكشف عن مكنونات القرآن وصلاحيته لكل زمن وكل جيل.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. .