الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان ذا نفسية لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار ثابتة على الخطوب والأحداث، والإيمان بالقضاء والقدر يقوي هذا الاتجاه.
وكان يعرف نفسيات رجاله وقابليتهم، ويكلف كل فرد منهم ما يستطيع أن يؤديه بكفاية وإتقان.
وكان يثق برجاله ويثقون به، وكان موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم وثقة أصحابه الكاملة، وكان يحب رجاله ويحبونه، ويعتمد عليهم ويعتمدون عليه.
وكان ذا شخصية قوية نافذة، ويضبط رجاله ويسيطر عليهم، ويتحلى بالطاعة التي هي الضبط المتين في أجلى مظاهره.
وكان ذا ماض ناصع مجيد نسبا وفي خدمة الدين الحنيف.
وكان عارفا بمبادئ الحرب: يختار مقصده ويديمه، ويتخذ مبدأ التعرض سبيلا لمعركته يحشد قوته، ويقتصد بمجهوده، ويطبق مبدأ الأمن على قوته، ويديم معنوياتها، ويرعى قضاياها الإدارية.
ولم يطبق مبدأ المباغتة في هذه السرية، فقد كان من الصعب إخفاء حركتها في تلك الظروف التي كان العدو يتوقع أن يهاجمهم المسلمون بعد مقتل رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمير الغساسنة، إذ من الصعب السكوت عن قتله أو إهماله، وهو رسول من رسل الدعوة والرسل لا تقتل أبدا، بل تكرم بموجب العرف السائد حينذاك حتى بين القبائل العربية التي تسكن الصحراء البعيدة عن معالم الحضارة.
لقد كان قائدا متميزا، وحسبه أن يكون من خريجي مدرسة الرسول القائد العظيمة عليه الصلاة والسلام في القيادة. . . والعقيدة.
السفير
كانت مزايا جعفر سفيرا واضحة المعالم، أهلته للنهوض بواجبه في تبليغ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي ملك الحبشة على أحسن وجه، وأهلته
للنهوض بواجب الدعوة إلى الله في أرض الحبشة، فآمن على يديه النجاشي وكثير من بني قومه، وأهلته للدفاع عن المسلمين المهاجرين إلى أرض الحبشة تجاه مكايد سفيري مشركي قريش الذين كانا أثيرين لدى النجاشي ولدى المقربين إليه من رجال الدين والسلطة، ولديهما الهدايا والمال الذي يغرون به النجاشي ورجاله المقربين، بينما لم يكن لدى جعفر ما يتقرب به من الهدايا والمال للنجاشي وغيره من أصحاب السلطان، وكان يعاني الفقر والعوز والحرمان.
كما أهلته تلك المزايا لقيادة المسلمين المهاجرين الذين قدموا معه أرض الحبشة من مكة، وقيادة المسلمين الجدد من الأحباش الذين اعتنقوا الإسلام على يديه وعلى أيدي إخوانه المهاجرين الآخرين، فقد كان جعفر أمير المؤمنين على المسلمين المهاجرين إلى الحبشة وعلى المسلمين في أرض الحبشة كافة، ما دام مهاجرا في أرض الحبشة حتى التحق بالنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، فكان جعفر نعم السفير القوي الأمين، ونعم الداعية الحصيف الحكيم، ونعم المدافع الجريء البليغ، ونعم القائد الحازم المقتدر.
أول هذه المزايا الانتماء والإيمان، فقد كان انتماؤه للإسلام حاسما جازما، وكان من الذين سارعوا إلى اعتناق هذا الدين، فكان من السابقين الأولين، ولعل الدليل القاطع على إيمانه العميق هجرته إلى أرض الحبشة، مخلفا أهله وماله وبلده من أجل عقيدته، وصبره الجميل على الغربة سنين طويلة في ظروف معاشية قاسية أو غير مريحة على أقل تقدير، وانتماؤه وإيمانه، هو الذي حفزه لرعاية إخوانه في الدين، فكانت رعايته لهم لا تقل في حال من الأحوال عن رعاية أهله وزوجه وبنيه، وأدى إلى الانسجام معهم في حياتهم الجديدة انسجاما خفف عليهم معضلات الغربة في ديار الغربة، ذلك لأن الثقة الكاملة كانت متبادلة بين جعفر والمسلمين
المهاجرين، وبين المسلمين المهاجرين وجعفر، فكان بحق الأب والأخ والقائد والأمير للمسلمين / المهاجرين وللمسلمين غير المهاجرين من الأحباش أيضا.
كما أن الانتماء المطلق للإسلام والعقيدة الراسخة بتعاليمه، أشاع الانسجام الفكري بين المجتمع أفرادا وجماعات، وهذا يؤدي إلى التعاون المثمر بغير حدود.
وكان جعفر يتميز بالفصاحة، فهو رجل من قريش أفصح العرب، ومن بني هاشم أفصح قريش، وعرضه قضية المسلمين المهاجرين أمام النجاشي وبحضور عمرو بن العاص وصاحبه، خير دليل على فصاحته المتميزة ومنطقه الواضح السليم.
لقد كان أسلوبه البياني من ذلك السهل الممتنع، الذي لا يشق فهمه على أحد، ولكن يشق الإتيان بمثله على كل أحد إلا نادرا.
وكان عالما في الدين، يحفظ ما نزل من القرآن الكريم، ويتلوه على أسماع الآخرين دليلا على شرح الإسلام، وجوابا على اعتراض المعترضين وتساؤل المتسائلين.
وكان على جانب عظيم من حسن الخلق، فقد كان أخير الناس للمسكين (1)، وما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا ركب الكور (2) بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر (3)، وقال عليه الصلاة والسلام، «أما أنت يا جعفر، فأشبهت خلقي وخلقي (4)» ، وحسبه بذلك دليلا على أنه كان على خلق عظيم.
(1) أسد الغابة (1/ 288).
(2)
الكور: الجماعة الكثيرة من الإبل.
(3)
وأسد الغابة (1/ 287).
(4)
مقاتل الطالبيين (12) وأسد الغابة (1/ 287)
ولا شيء كالخلق الكريم يؤدي إلى نجاح السفير في سفارته، لأنه يستقطب القلوب حوله، ويشد الناس إليه، ويجعله موضع ثقتهم، فيحقق ما يصبو إليه من أهداف دون عناء.
لقد كان جعفر ومن معه من المسلمين المهاجرين إلى أرض الحبشة لاجئين، فلما تأكد النجاشي أنهم على حق، وأنهم أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، بسط حمايته عليهم ومنعهم من أعدائهم مشركي قريش، وبالتدريج تطور حال جعفر من حال إلى حال، حتى أصبح النجاشي رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وانتهى الأمر بالمسلمين المهاجرين أن عادوا إلى وطنهم مكرمين معززين برعاية النجاشي الكاملة وحمايته، ولم يكن هذا التطور من حسن إلى أحسن إلا ثمرة من ثمرات الخلق الكريم لجعفر خاصة وللمسلمين المهاجرين عامة.
وكان جعفر يتميز بالصبر والحكمة، وقد برز صبره الجميل في تحمل أخطار الهجرة من مكة إلى أرض الحبشة، والتسلل من مجتمع مشركي قريش الذين كانوا يناصبون أشد العداء للإسلام والمسلمين، ويحرصون على بقاء المسلمين في مكة، ليتصرف كل مشرك بما يشاء حين يشاء في إلحاق الأذى بالمسلمين القادرين على إلحاق الأذى بهم والذين لا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم، وحتى لا ينجوا المسلمون من أذى مشركي قريش ورقابتهم. وكان مشركوا قريش يطاردون المسلمين المهاجرين، ويمنعونهم بشتى الوسائل من الهجرة، والذين يلقون القبض عليهم من المسلمين المهاجرين، لا يفلتون من العقاب الصارم.
وبرز صبره الجميل في غربته الطويلة التي امتدت أكثر من أربع عشرة سنة، بعيدا عن أهله وقومه ووطنه.
كما برز صبره الجميل في مصاولة سفيري المشركين من قريش: عمرو
بن العاص وصاحبه، ومصاولة أشياعها الأحباش المقربين من النجاشي، والذين كان هواهم مع المشركين على المسلمين.
لقد كان في محنة طاحنة متصلة، تغلب عليها بالصبر الجميل، واجتازها بنجاح يدعو إلى الإعجاب، ولكن بعناء شديد.
أما حكمته فتتجلى في مناقشة عمرو بن العاص وصاحبه بحضور النجاشي ورجالاته، وعمرو من دهاة العرب المعدودين، وقد ضمن بهداياه وأمواله حاشية النجاشي إلى جانبه، ولكن الله سبحانه ثم حكمة جعفر ومنطقه السديد، فوت الفرصة على عمرو وصاحبه، وجعل كيدهما ومن معهما من حاشية النجاشي هباء تذروه الرياح، فحاق المكر السيء بأهله، وانتصر الحق على الباطل، وجاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.
ولم يكن موقف جعفر في مناقشته الرائعة سهلا على كل حال.
وكان جعفر ألمعي الذكاء لذلك كان واسع الحيلة، وطالما صادفته المشاكل والعراقيل، منذ هاجر إلى الحبشة إلى أن هاجر إلى المدينة، ولكنه كان يجد لمشاكله ومعضلاته حلا مناسبا ومخرجا ملائما.
وكان يتحلى برواء المظهر، فكان يملأ الأعين قدرا وجلالا، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:«أشبه خلقك خلقي، وخلقك خلقي (1)» وفي رواية أخرى: «أشبهت خلقي وخلقي (2)» وفي رواية ثالثة «إنك شبيه خلقي وخلقي (3)» ، فهو أحد المعدودين من المشبهين بالنبي صلى الله عليه وسلم (4).
ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان متميزا برواء مظهره، لا اختلاف في ذلك.
وما أصدق وصف زوجه أسماء بنت عميس له حين قالت: "ما رأيت شابا من العرب كان خيرا من جعفر (5) "، وقد قالت ما قالت بعد
(1) صحيح البخاري المغازي (4251)، سنن الترمذي المناقب (3765).
(2)
صحيح البخاري الصلح (2700)، سنن الترمذي المناقب (3765).
(3)
طبقات ابن سعد (4/ 36).
(4)
انظر: أسماءهم في: المحبر (46 - 47).
(5)
طبقات ابن سعد (4/ 41).