الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد يكون القصد في بعض المواضع الاختصار فحسب، وقد يظهر للمتمعن أن القصد ليس الاختصار في مواضع أخرى. وذلك حين يحذف كلمة أو كلمتين بين جمل متصلة، في هذه الكلمة أو الكلمتين اعترك العلماء، وتعددت الأقوال، فإيرادها أخذ بقول وحذفها وحدها قد يكون رفضا لهذا القول، وبهذا يظهر جانب من شخصية الشيخ العلمية.
هذا فضلا عن زيادة في جملة، أو تغيير في العبارة، أو ربط بين جملة وأخرى.
ولم يكن مرادي في هذا التفسير المقارنة بين الأصل والمختصر، وإنما هو إخراج هذا التفسير وتوضيح بعض العبارات، وزيادة البيان، مع الالتزام بأن لا يخرج عن الحد الذي رسمته، ولا يقصر عن الوفاء الذي أردته، حسب جهدي وطاقتي وأجزم بوقوع التقصير فأسأل الله الغفران.
وينبغي أن أوضح أيضا أن الشيخ رحمه الله تعالى قد اختصر هذا المختصر وطبع عدة مرات.
أصول الكتاب:
بحثت في مكتبات كثيرة عن نسخ مخطوطة لهذا التفسير، وبعد بحث وتنقيب لم أعثر على نسخة واحدة، أما بقية النسخ الواردة في فهارس بعض المكتبات فهي للتفسير المختصر لسورة الفلق، وليست لهذا التفسير، وقد طبع هذا المختصر عدة مرات كما أشرت آنفا، أما هذا التفسير فلم أجده مطبوعا من قبل.
ولأجل التحقق من صحة النسخة المخطوطة وسلامتها من التصحيف
أو التحريف قمت بمقابلتها على النسخ المطبوعة لتفسير سورة الفلق لابن القيم رحمه الله تعالى ضمن (تفسير المعوذتين) وقد طبع عدة مرات وقابلتها على أربع طبعات لهذا التفسير هي:
1 -
طبع (تفسير المعوذتين) لابن القيم ضمن كتابه (بدائع الفوائد) في إدارة الطباعة المنيرية وذلك في الجزء الثاني من ص 198 إلى ص 276.
2 -
طبع أيضا ضمن التفسير القيم جمعه محمد أويس الندوي، حققه محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية بيروت 1398 هـ.
3 -
تفسير المعوذتين لابن القيم تحقيق وتعليق مصطفى بن العدوي مكتبة الصديق الطائف الطبعة الأولى 1408 هـ.
4 -
تفسير المعوذتين لابن القيم تصحيح عبد الصمد شرف الدين الطبعة الثالثة 1375 هـ الدار القيمة - الهند.
ومعلوم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى اختصر هذا التفسير من تفسير ابن القيم رحمه الله تعالى والتزم في أغلب المواضع بعبارة ابن القيم رحمه الله تعالى ولا يخالف هذا ما قلته في التعريف بالتفسير بظهور الشخصية العلمية للشيخ في اختصاره فهو مع احتفاظه رحمه الله تعالى بالعبارة إلا أنه يحذف من العبارة ما لا يراه ويثبت ما يؤيده وقد يزيد كلمة أو يغير في عبارة كما أشرت مما يكفل إبراز رأيه في التفسير.
وبهذا يظهر أن مقابلة المخطوطة على هذه الطبعات لتفسير ابن القيم مفيد جدا وهذا ما حصل.
بل فوق هذا فقد استفدت من المخطوطة في مواضع من المطبوع إذ يظهر أن الشيخ رحمه الله تعالى قد لخص تفسيره من مخطوطة لم يطلع عليها أحد ممن قام بطبع تفسير ابن القيم وفيها اختلاف في بعض المواضع يفيد في تحقيق تفسير المعوذتين لابن القيم.
أما النسخة المخطوطة لهذا التفسير فقد صورتها من مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وهي برقم "2320" وهي مصورة عن المتحف العراقي كما كتب بخط اليد وتقع في صفحتين وسبعة أسطر من الثالثة، عدد الأسطر في الصفحة الأولى "29" وفي الثانية "33" سطرا. كما أنه يوجد نسخة لتفسير سورة (الإخلاص) ومعها تفسير المعوذتين في مكتبة الآثار العامة - ببغداد رقم "35179". ونسحة أخرى في خزائن مكتبة الأوقاف ببغداد رقم "3279" بعنوان (تفسير سورة الإخلاص، والفلق، والناس).
وقد طلبت تصويرهما عن طريق مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. وقد بادر المركز بإرسال طلب التصوير، ولم يتيسر ذلك حتى الساعة، علما أني لا أعرف أي التفسيرين فيها التفسير المختصر أو التفسير المطول للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ولذا فقد اكتفيت بما عثرت عليه وقابلته على المطبوع ورأيت فيه الكفاية فلم تلتبس علي كلمة ولم تشكل علي عبارة بحمد الله وفضله وله المنة والحمد. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
معنى (أعوذ)(1) ألتجئ وأعتصم وأتحرز و (الفلق) هو نور الفجر الذي يطرد الظلام.
وتضمنت هذه السورة:
المستعاذ به.
والمستعاذ منه.
والمستعيذ.
والمستعاذ به: هو الله رب الفلق، ورب الناس، الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، وقد قال في كتابه
(1) للمؤلف رحمه الله تعالى كلام نفيس في تفسير الاستعاذة أورده في تفسيره للفاتحة ص 37 - 38.
عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته رهقا وهو الطغيان فقال:
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (1).
واحتج أهل السنة على المعتزلة في أن كلمات الله غير مخلوقة بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بقوله:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (2) و «أعوذ بكلمات الله التامات (3)» وهو لا يستعيذ بمخلوق أبدا.
والمستعيذ: هو رسول الله وكل من اتبعه إلى يوم القيامة.
(1) سورة الجن الآية 6
(2)
سورة الفلق الآية 1
(3)
رواه البخاري جـ 4، ص 119 ونصه:"عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ". وقال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وقوله (بكلمات الله) قيل المراد بها كلامه على الإطلاق وقيل أقضيته وقيل ما وعد به، كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل} والمراد بها قوله تعالى: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا الأرض" المراد بالتامة الكاملة وقيل النافعة وقيل الشافية وقيل المباركة وقيل القاضية التي تمضي وتستمر ولا يردها شيء ولا يدخلها نقص ولا عيب. قال الخطابي كان أحمد يستدل بهذا الحديث على أن كلام الله غير مخلوق، ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق". أ. هـ فتح الباري: ابن حجر جـ. 6 ص 410.
وأما المستعاذ منه فهو أربعة أقسام:
(الأول) الشر العام:
في قوله {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (1) وهذا يعم كل شر في الدنيا والآخرة وشر الشياطين من الناس والجن، وشر السباع والهوام، وشر النار، وشر الذنوب والهوى، وشر النفس وشر العمل.
وقوله {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (2) أي: من شر كل مخلوق فيه شر. وليس المراد الاستعاذة من كل ما خلقه الله. فإن الجنة وما فيها ليس فيها شر. وكذاك الملائكة والأنبياء فإنهم خير محض.
(الشر الثاني) شر الغاسق إذا وقب:
وهذا خاص بعد عام. و (الغاسق): الليل (3) إذا أقبل ودخل في كل شئ، والغسق: الظلمة، والوقوب: الدخول.
والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل هو أن الليل محل سلطان الأرواح الشريرة، وفيه تنتشر الشياطين، والشياطين إنما
(1) سورة الفلق الآية 2
(2)
سورة الفلق الآية 2
(3)
ومنه قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} (الإسراء: 78).
سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة. ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محل الشياطين وبيوتهم.
وذكر سبحانه في هاتين الكلمتين (1) الليل والنهار، والنور والظلمة فأمر الله عباده أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها، وهو سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى، فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه.
(الشر الثالث) شر النفاثات في العقد:
وهذا الشر هو شر السحر. فإن (النفاثات) هن السواحر. اللاتي
(1) يعني: {الفلق} و {غاسق}
يعقدن الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر.
والنفث: هو النفخ مع ريق وهو دون التفل، وهو مرتبة بينهما (1).
والنفث: فعل الساحر. فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور واستعان بالأرواح الخبيثة نفث في تلك العقد نفخا معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر مقترن بالريق الممازج. وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري.
ولما كان تأثير السحر من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة قال سبحانه: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ} (2) بالتأنيث دون التذكير.
وقد دل قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (3) على تأثير السحر، وأن له حقيقة. وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام وقالوا: "إنه لا تأثير للسحر لا في مرض ولا في قتل ولا حل ولا عقد. قالوا: وإنما
(1) ولخروج الهواء من الفم درجات أولها النفخ ثم النفث ثم التفل ثم البزق
(2)
سورة الفلق الآية 4
(3)
سورة الفلق الآية 4
ذلك تخييل لأعين الناظرين لا حقيقة له سوى ذلك".
وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف واتفق عليه الفقهاء.
والسحر يؤثر مرضا وقتلا وحلا وقتلا وحبا وبعضا وغير ذلك من الآثار موجودة (1) يعرفه الناس وكثير منهم قد علمه ذوقا (2) بما
(1) صحة الكلمة (موجود) بدائع الفوائد جـ 2 ص 227.
(2)
قال ابن منظور في لسان العرب "ما نزل بالإنسان من مكروه فقد ذاقه" جـ 10 ص 111 مادة (ذوق)
أصيب به (1).
وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (2) دليل على أن النفث يضر المسحور في حال غيبته (3) عنه ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرا كما يقوله هؤلاء لم يكن للنفاثات شر يستعاذ منه (4)، وأيضا فإذا جاز على الساحر أن يسحر أعين جميع الناظرين مع كثرتهم حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به مع أن هذا تغير (5) في إحساسهم فما الذي يحيل تأثيره في تغير بعض أعراضهم وطباعهم وقواهم. فإذا غير إحساسه حتى صار يرى الساكن متحركا، والمتصل منفصلا، فما المحيل لأن يغير صفات نفسه حتى يحصل (6) المحبوب إليه بغيضا والبغيض محبوبا، وغير ذلك من التأثيرات. وقد قال تعالى عن سحرة فرعون إنهم:{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} (7) الآية.
فبين سبحانه أن أعينهم سحرت (8) وذلك إما:
أن يكون لتغير حصل في المرئي، وهو الحبال والعصي، مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركاتها وهي الشياطين فظنوا أنها
(1) كذا في المخطوطة وهي عند ابن القيم (بما أصيب به منه) بدائع الفوائد جـ 2 ص 227.
(2)
سورة الفلق الآية 4
(3)
أي أن السحر يقع ولو لم يكن المسحور حاضرا عند الساحر.
(4)
لأن النفاثات ينفثن في العقد وليس في جسد المسحور.
(5)
في المخطوطة (تغيرا) وهو لحن فصححته.
(6)
عند ابن القيم رحمه الله تعالى (حتى يجعل) بدائع الفوائد جـ 2 ص 227.
(7)
سورة الأعراف الآية 116
(8)
الحاصل أن الذي يستطيع أن يسحر القوى الجسدية قادر على أن يسحر القوى النفسية
تحركت بأنفسها، وهذا كما إذا جر من لا تراه (1) حصيرا أو بساطا فترى الحصير والبساط ينجر ولا ترى (2) الجار له، مع أنه هو الذي يجره، فهكذا حال الحبال والعصي قلبتها الشياطين فظن الرائي أنها انقلبت بأنفسها والشياطين هم الذين يقلبونها.
وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي حتى رأى الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة في أنفسها، ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا.
وأما ما يقوله المنكرون (3) من أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيتها مثل الزيبق وغيره حتى سعت فهذا باطل من وجوه كثيرة.
(1) في المخطوطة (لا يراه) والصواب ما أثبته لقوله بعد (فترى).
(2)
في المخطوطة (ولا يرى) والصواب ما أثبته انظر: بدائع الفوائد جـ 2 ص 228.
(3)
أي الذين يزعمون أن السحر كله تخييل ولا حقيقة له. وهم المعتزلة وغيرهم كما مر.
(الشر الرابع): شر الحاسد إذا حسد:
وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فنفس حسده شر متصل بالمحسود من نفسه وعينه وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه، فإن الله تعالى قال {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (1) فحقق الشر منه عند صدور الحسد، والقرآن ليس فيه لفظة مهملة، لكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود ولاه عنه فإذا خطر على قلبه انبعث نار الحسد من قلبه فيتأذى المحسود بمجرد ذلك، فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به، ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله، والإقبال عليه، بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه
(1) سورة الفلق الآية 5
وإقباله على الله، وإلا ناله شر الحاسد ولا بد.
وفي الحديث الصحيح رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وفيها «باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك (1)» فذكر شر عين الحاسد. ومعلوم أنها لا تؤثر بمجردها إذ لو نظر إليه نظر لاه ساه كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره لم يؤثر فيه شيئا، وأما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة وانسمت، فصارت نفسا غضبية حاسدة، أثرت بها تلك النظرة فأثرت في المحسود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد، فربما أمرضه، وربما قتله، والتجارب بها عند الخاصة والعامة أكثر من أن تذكر.
وهذه العين إنما تؤثر بواسطة النفس الخبيثة، وهي بمنزلة الحية إنما
(1) صحيح مسلم كتاب السلام باب الطب والمرض والرقى جـ 4 ص 1718 - 1719. تمام الحديث "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اشتكيت؟ فقال: "نعم" قال: بسم الله أرقيك. . " الحديث.
يؤثر سمها إذا عضت فإنها تتكيف بكيفية الغضب، فتحدث فيها تلك الكيفية السم، فتؤثر في الملسوع، وربما قويت حتى تؤثر بمجرد النظر، وذلك في نوع منها حتى يؤثر بمجرد النظر، فتطمس البصر وتسقط الحبل، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر وذي الطفيتين منها.
وقال: " اقتلوهما ". وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس.
وهل الانفعال والتأثير وحدوث ما يحدث من الاجسام إلا للأرواح؟
والأجسام آلتها بمنزلة الصانع، فالصنعة في الحقيقة له، والآلات
وسائط. ومن له فطنة وتأمل أحوال الأرواح وتأثيراتها وتحريكها الأجسام رأى عجائب وآيات دالة على وحدانية الله وعظم ربوبيته، وأن ثم عالما (1) آخر تجري عليه أحكام أخر، يشهد آثارها، وأسبابها غيب عن الأبصار فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين.
والعاين والحاسد يشتركان في شيء ويفترقان في شيء. فيشتركان في أن كلا منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من تقصد أذاه، والعاين تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته، والحاسد يحصل حسده في الغيبة والحضور.
ويفترقان في أن العاين قد يعين من لا يحسده من حيوان أو زرع، وإن كان لا ينفك من حسد صاحبه (2) بل ربما أصاب نفسه.
(1) في المخطوطة (عالم) والصواب (عالما) لأنها اسم أن مؤخر.
(2)
أي صاحب الحيوان أو الزرع، فلا يخلو العاين من الحسد.
وسببه الإعجاب بالشيء واستعظامه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين.
وقوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (1) يعم الحاسد من الجن والإنس (2)، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله.
ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن، والحسد أخص (3) بشياطين الإنس، والوسواس يعمهما أيضا، فكلا الشيطانين حاسد موسوس فالاستعاذة من شر الحاسد يعمهما جميعا.
فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم. وتضمنت شرورا أربعة منها:
شرا عاما وهو:
شر ما خلق.
وشر الغاسق إذا وقب، فهذان نوعان. ثم ذكر:
شر الساحر، والحاسد.
وهما نوعان أيضا لأنهما من شر النفس الشريرة، وأحدهما يستعين
(1) سورة الفلق الآية 5
(2)
وكذا العين عينان: عين إنسية وعين جنية (زاد المعاد جـ 4 ص 164).
(3)
في المخطوطة (أعم) والصواب الذي يستقيم به المعنى، ويوافق الأصل عند ابن القيم (أخص) فأثبتها.
بالشيطان ويعبده، وهو الساحر، وقل ما يتأتى السحر بدون نوع عبادة الشيطان وتقرب إليه، إما يذبح (1) باسمه، أو يذبح يقصد به هو، فيكون ذبحا لغير الله، وبغير ذلك من أنواع الشرك.
والساحر وإن لم يسم هذا عبادة للشيطان فهو عبادة له، وإن سماه بما سماه به، فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولفظه، فمن سجد لمخلوق، وقال: ليس هذا بسجود له، هذا خضوع ويقبل الأرض بالجبهة، كما أقبلها بالنعم، وهذا إكرام. لم
(1) كذا وهي عند ابن القيم (بذبح باسمه أو بذبح. . . الخ) بدائع الفوائد جـ 2 ص 235
يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجودا لغير الله، فليسمه بما شاء.
وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به، وتقرب إليه، فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة، بل يسميه استخداما.
وصدق. هو من استخدام الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان.
لكن خدمة الشيطان ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له، ويعبده كما يفعل هو به.
والمقصود أن هذا عبادة منه للشيطان وإن سماه استخداما.
وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله {إِذَا حَسَدَ} (1) لأن الرجل قد يكون عنده حسد ولكن يخفيه ولا يرتب عليه أذى لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئا من ذلك ولا يعامل أخاه إلا بما يحب الله فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله.
(1) سورة الفلق الآية 5
وقيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك إخوة يوسف. فالرجل إذا كان في قلبه حسد لكن يخفيه، ولا يرتب عليه أذى بوجه ما، لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل لا يعامل أخاه إلا بما يحب الله فهو لا يطيع نفسه بل يعصيها خوفا من الله، وحياء منه أن يكره نعمه على عباده، فيرى ذلك مخالفة لله وبغضا لما يحب الله، فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها الدعاء للمحسود وتمني زيادة الخير له. فإن هذا الحسد الذي في قلبه لا يضره، ولا يضر المحسود.
بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسده، ورتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، فهذا الحسد المذموم، هذا كله حسد تمني الزوال.
وللحسد ثلاث مراتب:
(أحدها): هذه. وهي (1): تمني زوال النعمة.
(الثانية): تمني استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، بل أن يبقى على حاله من جهله، أو فقره، أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص أو عيب.
فهذا حسد على شيء معدوم (2)، والأول حسد على شيء محقق (3)، وكلاهما حاسد، عدو نعمة الله، وعدو عباده، ممقوت عند الله وعند عباده.
(الثالثة): حسد الغبطة: وهو: تمني أن تكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه، فهذا لا بأس به، ولا يعاب
(1) في المخطوطة (وهو) والصواب ما أثبته.
(2)
عند ابن القيم (حسد على شيء مقدر) بدائع الفوائد جـ 2 ص 237.
(3)
أي حسد على شيء معدوم لا يريد تحققه للمحمود، والأول حسد على شيء محقق يريد عدمه وزواله عن المحسود.
صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة، وقد قال تعالى:
{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (1).
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس (3)» .
فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه حب خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، فيحدث له المنافسة والمسارعة مع محبته لمن يغبطه، وتمني دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخل في الآية (4) بوجه ما.
وهذه السورة من أكبر أدوية المحسود فإنها تتضمن التوكل على الله
(1) سورة المطففين الآية 26
(2)
رواه البخاري جـ 1 ص 26 ورواه مسلم جـ 1 ص 559 ومسند الإمام أحمد جـ 1 ص 385.
(3)
في المخطوطة (وسلطه). (2)
(4)
يعني قوله تعالى: {ومن شر حاسد إذا حسد} .
والالتجاء إليه، والاستعاذة به من شر حاسد النعمة.
والله تعالى أعلم،،