الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيه عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1)» . . . وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه (2)» . وعن أبي جحيفة أنه اشترى حجاما فأمر فكسرت محاجمه وقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي (3)» . . . (4)
(1) نيل الأوطار للشوكاني 5/ 160. والحديث متفق عليه كما قال الشوكاني.
(2)
نيل الأوطار للشوكاني 6/ 160 - 161. والحديث رواه أحمد وأبو داود وسكت عنه ورجاله ثقات كذا قال الشوكاني 5/ 162
(3)
صحيح البخاري اللباس (5962)، سنن أبو داود البيوع (3483)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 308).
(4)
نيل الأوطار 5/ 162. والحديث متفق عليه كما قال الشوكاني.
ثالثا: أقر الإسلام الملكيتين الخاصة والعامة
وجعل كل واحدة منهما أصلا فيما تصلح فيه، ولم يعالج الإسلام التفاوت بين دخل الأفراد بنزع الملكية من يد الأغنياء كما أنه لم يترك الفقراء عالة على الأغنياء بل جعل للحاكم المسلم حق التصرف في أموال الدولة ومصادر بيت المال الجديدة بما يحقق المصلحة ويعالج التفاوت الشديد بين دخل الأفراد ويظهر ذلك في النقاط التالية:
الأولى: «أن الرسول صلى الله عليه وسلم وزع فيء بني النضير على المهاجرين لحاجاتهم ولم يعط إلا رجلين من الأنصار كانا ذوي حاجة (1)» ، وقد جاء النص على ذلك في الحديث الذي رواه أبو داود:. . فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها - يعني فيء بني النضير - للمهاجرين وقسمها بينهم وقسم منها لرجلين من الأنصار وكانا ذوي حاجة لم يقسم لأحد من الأنصار غيرهما. . .
(1) الحديث بهذا اللفظ رواه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفئ باب في خبرالنضير 3/ 213 - 214. وأصل هذا الحديث في صحيح البخاري في أكثر من موضع ككتاب الخمس والمغازي والنفقات. وفي صحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير باب حكم الفيء 3/ 1377 - 1379
الثانية: «أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار (1)» وقد مدح الله الأنصار على قيامهم بواجبهم خير قيام قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) واعتبر القرآن من صفات المؤمنين أنهم يطعمون الطعام للمحتاج على حبهم إياه وشهوتهم له ابتغاء وجه الله. قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (3){إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (4).
الثالثة: حث الرسول صلى الله عليه وسلم على إحياء الأرض الموات وجعلها ملكا لمن يحييها فقال عليه الصلاة والسلام: «من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق (5)» وهذا الحديث يدل بوضوح على أن سبب ملك الأرض إعمارها وإحياؤها لا مجرد التحجير عليها ولذلك كان عمر يقول: (من عطل أرضا ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فهي له)(6) وتحجير الأرض ثلاث سنين فأكثر بدون تعميرها لا يكون إلا من الأغنياء عادة لعدم حاجتهم الماسة لإعمارها بخلاف الفقير فإنه لا ينتظر هذه الفترة، فهو يستغل الأرض من أول يوم بتعميرها حتى يستفيد من إنتاجها الذي هو في أمس الحاجة إليه.
(1) ثبت هذا في صحيح البخاري في كتاب مناقب الأنصار وفي صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين صحابته رضي الله عنهم 4/ 1960
(2)
سورة الحشر الآية 9
(3)
سورة الإنسان الآية 8
(4)
سورة الإنسان الآية 9
(5)
رواه البخاري في كتاب الحرث والمزارعة باب من أحيا أرضا مواتا 3/ 70 ورواه البخاري تعليقا في نفس الكتاب والباب عن عمر رضي الله عنه بلفظ (من أحيا أرضا مواتا)
(6)
الخراج ليحيى بن آدم ص291، الأموال لأبي عبيد ص367.
الرابعة: أعطى الإسلام لولي الأمر الحق في إقطاع من يرى من الرعية أرضا لا مالكا لها. وكان عمر رضي الله عنه يرى أن يؤخذ من المقطع له ما عجز عن عمارته. وتوزيعه على المسلمين المحتاجين مراعاة للمصلحة العامة ولمنع زيادة التفاوت الشديد بين دخل الأفراد، وقد فعل عمر ذلك (1). وقد رفض عمر رضي الله عنه أن يختم على الكتاب الذي كتبه أبو بكر لعيينة بن حصن وفيه أنه أقطعه قطيعة وعلل عمر رفضه بقوله:(لا أختم. أهذا كله لك دون الناس (2) وفي رواية أخرى أن عمر رضي الله عنه بصق في الكتاب ومحاه وعندما رجع عيينة لأبي بكر ليجدد له الكتاب قال رضي الله عنه: (لا والله لا أجدد شيئا رده عمر)(3).
الخامسة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفض قسمة أرض سواد العراق بين المقاتلين وبقي يتدارس الأمر مع الصحابة حتى وصلوا إلى إبقائها في يد أصحابها على أن يدفعوا الخراج. وكان مما قاله عمر: (لولا آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم أرض خيبر). وفعل عمر وموافقة الصحابة له رضي الله عنهم جميعا كان في دائرة نصوص ومقاصد الشرع فقد كان رضي الله عنه حريصا على أن يبقي مصدرا ثابتا ومتجددا لمالية الدولة الإسلامية يساعد منه كل محتاج في كل زمان ومكان وقد استدل عمر رضي الله عنه لما ذهب إليه بآيات سورة الحشر {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4){لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (5){وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6){وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (7)
(1) الخراج ليحيى بن آدم ص93، الأموال لأبي عبيد ص 368
(2)
الأموال لأبي عبيد ص351 - 352، الأموال لابن زنجويه 2/ 624
(3)
الأموال لأبي عبيد ص352، الأموال لابن زنجويه 2/ 623
(4)
سورة الحشر الآية 7
(5)
سورة الحشر الآية 8
(6)
سورة الحشر الآية 9
(7)
سورة الحشر الآية 10
قال القرطبي: (قرأ عمر رضي الله عنه هذه الآية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (1) فقال هذه لهؤلاء. ثم قرأ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (2) فقال هذه لهؤلاء ثم قرأ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (3) حتى بلغ {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (4){وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} (5){وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (6) ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير (7) نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه. وقيل: إنه دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك وقال لهم: تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا علي. ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت، فلما غدوا عليه قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة الحشر وتلا {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (8) إلى قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (9) فلما بلغ قوله {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (10) قال: ما هي لهؤلاء فقط وتلا قوله {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (11) إلى قوله: {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (12) ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك) (13).
السادسة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حمى أرضا بالربذة لنعم الصدقة. وقد ثبت في صحيح البخاري أنه قال لمولاه وكان يدعى هنيا: (يا هني اضمم جناحك عن المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة
(1) سورة التوبة الآية 60
(2)
سورة الأنفال الآية 41
(3)
سورة الحشر الآية 7
(4)
سورة الحشر الآية 8
(5)
سورة الحشر الآية 9
(6)
سورة الحشر الآية 10
(7)
منازل حمير بأرض اليمن
(8)
سورة الحشر الآية 7
(9)
سورة الحشر الآية 8
(10)
سورة الحشر الآية 8
(11)
سورة الحشر الآية 10
(12)
سورة الحشر الآية 10
(13)
القرطبي 8/ 22 ـ وانظر 8/ 4.
وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه فيقول يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين. . .).
والمتأمل في قول عمر رضي الله عنه يلاحظ أن الأرض حميت لنعم الصدقة كي يستفيد منها الفقراء دون الأغنياء، وهذا يسهم في علاج التفاوت الشديد بين دخل الفقراء ودخل الأغنياء من غير اعتداء على مال الغني.
والإسلام وإن كان منهجه علاج التفاوت الشديد بين دخل الأفراد بما لا يترتب عليه ظلم لأحد يؤكد أن الناس خلقوا متفاوتين في الكفاءة والقدرات وأن الله سبحانه بسط الرزق لمن يشاء ويقدر. قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} (1) وقال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} (2) وقد بين الله سبحانه أن تفاوت الناس في الرزق لحكمة وهي ابتلاء الله الناس وعمارة البشر لهذا الكون كل ضمن طاقته وقدرته، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) وقال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (4)
(1) سورة الرعد الآية 26
(2)
سورة النحل الآية 71
(3)
سورة الأنعام الآية 165
(4)
سورة الزخرف الآية 32
ومع أن الإسلام أقر الملكيتين الخاصة والعامة فإنه يمنع الملكية الخاصة لبعض الثروات الطبيعية التي لا دخل للناس في إيجادها من جهة وضرورية لهم بحيث تتعلق بها مصلحة الجماعة من جهة أخرى، «عن أبيض بن حمال أنه وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقطعه الملح فقطع له. فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت له؟ إنما قطعت له الماء العد. قال: فانتزعه منه (1)». وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الثروات التي لا تملك ملكية خاصة. فقال صلى الله عليه وسلم «ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار (2)» . . وذكر الشوكاني هذا الحديث وحديث: «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار (3)» ثم قال: (واعلم أن أحاديث الباب تنتهض بمجموعها فتدل على الاشتراك في الأمور الثلاثة مطلقا ولا يخرج شيء من ذلك إلا بدليل يخصص به عمومها)(4) وقد فصل العلماء في هذه المسألة فقالوا:
- ماء الأنهار غير المستخرجة والسيول حق إجماعا.
- ماء الأنهار والعيون والقناة المحتفرة في البئر ملك لصاحبها في الراجح ويجب عليه بذل ما زاد عن حاجته منه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ (5)» .
(1) رواه الترمذي في كتاب الأحكام ما جاء في القطائع 3/ 644 - 665، وقال حديث أبيض حديث غريب والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلي الله عليه وسلم - وغيرهم ورواه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء باب في إقطاع الأراضين 3/ 236 وذكره ابن زنجويه في كتاب الأموال 2/ 618
(2)
رواه ابن ماجه في كتاب الرهون باب الناس شركاء في ثلاث 6/ 826. وقال البوصيري: إسناد صحيح رجاله موثوقون - وانظر الأموال لأبي عبيد ص 372 - والأموال لابن زنجويه2/ 659 - 674
(3)
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، انظر نيل الأوطار 5/ 343 - 344
(4)
انظر نيل الأوطار 5/ 345
(5)
الحديث متفق عليه وهذا اللفظ لمسلم في كتاب المساقاة باب تحريم بيع فضل الماء الذي يكون في الفلاة 3/ 1198. والمعنى كما قال الجمهور: أن يكون حول البئر كلأ ليس عنده ماء غيره ولا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا إذا مكنوا من سقي بهائمهم من تلك البئر لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعي فيستلزم منعهم من الماء منعهم من الرعي - انظر نيل الأوطار 5/ 343
ويلحق بالماء والكلأ والنار والملح التي ذكرت في الأحاديث واعتبرت ملكية عامة زمن النبي صلى الله عليه وسلم كل ما يجد في هذا الزمان من ثروات طبيعية لا دخل للناس في إيجادها وضرورية لهم بحيث تتعلق بها مصلحة الجماعة. وقد ذكر الفقهاء بعض الأعيان التي لا يجوز أن تملك ملكية خاصة.
يقول ابن قدامة: (وأما المعادن الجارية كالقار والنفط والماء فهل يملكها من ظهرت في ملكه. فيه روايتان أظهرهما لا يملكها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار (1)» رواه الخلال ولأنها ليست من أجزاء الأرض فلم يملكها بملك الأرض كالكنز. . .) (2) وقد ذهب المالكية في أحد القولين إلى أن المعادن سواء كانت جارية أو غير جارية لا تملك ملكية خاصة حتى وإن كانت في أرض مملوكة ملكية خاصة (3).
وإذا تعارضت المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة قدم الإسلام المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وهذا الأمر يتمشى مع عدالة التوزيع التي شرعها الإسلام في أحكامه حتى لا تكون هناك مشكلة اقتصادية.
والدليل على تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة في الإسلام:
أ - ما سبق ذكره في أن الإسلام يمنع الملكية الخاصة في بعض الثروات الطبيعية التي لا دخل للإنسان في ايجادها وتتعلق بها مصلحتهم كالماء والكلأ والنار والملح. على تفصيل في هذه المسألة كما سبق ذكره.
ب - أن الرسول صلى الله عليه وسلم «نهى عن التلقي وأن يبيع حاضر لباد (4)» . مع أن في ذلك مصلحة خاصة للبادي وللسمسار الذي يبيع له إذا كان ذلك بطريق الوكالة ومع ذلك قدمت مصلحة أهل الحضر عامة.
جـ - أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله بريء من المحتكر زجرا له عن الاحتكار تقديما لمصلحة المسلمين عامة على مصلحة المحتكر فقال عليه السلام: «من احتكر
(1) سنن أبو داود البيوع (3477)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 364).
(2)
المغني لابن قدامة. انظر نيل الأوطار 5/ 573
(3)
المقدمات الممهدات لابن رشد 2/ 224 - 225
(4)
رواه البخاري في كتاب البيوع باب النهي عن تلقي الركبان 3/ 28
طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله منه (1)». . .
د - أجاز الحنفية التسعير في الأقوات إذا تعدى الأرباب عن القيمة تعديا فاحشا وتوسع أبو يوسف فأجاز التسعير في غير القوتين أيضا إذا تعدى أربابها وظلموا العامة (2). وأجاز أشهب من المالكية التسعير أيضا بحسب ما يرى الإمام تحقيقا لمصلحة البائع والمبتاع (3) وأيد ابن تيمية وتلميذه ابن القيم التسعير إذا امتنع أرباب السلع عن بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة. وقالا رحمهما الله: يجب التسعير في مثل هذه الحالة وإلزام الناس في بيعهم وشرائهم بثمن المثل (4) وفي جواز التسعير بل إيجابه في بعض الحالات تحقيق لمصلحة عامة الناس على مصلحة البائع.
هـ - ذكر بعض فقهاء الأحناف جواز نزع الملكية الخاصة للمصلحة العامة فأجازوا استملاك الأرض المجاورة للمسجد لتوسعته إذا ضاق بالمصلين ودفع قيمة الأرض لأصحابها رضوا أم أبوا (5). وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه شراء الدور المحيطة بالكعبة، ولما أبى بعض أصحابها بيعها أخذها رضي الله عنه جبرا عنهم ووضع قيمتها بخزانة الكعبة ليأخذها أصحاب الدور وقال لهم:(إنما نزلتم على الكعبة وهذا فناؤها ولم تنزل الكعبة عليكم)(6).
ولا يقتصر نزع الملكية الخاصة لتوسعة المسجد تحقيقا لمصلحة عامة المسلمين بل
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر 7/ 58 - 60، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(2)
الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 6/ 400، درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر 1/ 36
(3)
المنتقى شرح موطأ الإمام مالك لأبي الوليد الباجي 3/ 18.
(4)
الحسبة في الإسلام لابن تيمية ص 23 - 25، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم.
(5)
المدخل الفقهي العام للزرقا 1/ 248
(6)
الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي للدكتور محمد فاروق النبهان ص219.
يجوز نزع الملكية الخاصة لكل ما يحقق نفعا عاما للناس. يقول الأستاذ مصطفى الزرقا: (وقانون الاستملاك للنفع العام لدينا يسوغ نزع الملكية الجبري عن كل عقار تقرر السلطة الإدارية العليا وجود النفع العام في استملاكه لمصلحة من المصالح العامة كمدرسة أو مستشفى أو حديقة وذلك بقيمته التي تقدرها له لجنة خبراء)(1).
وهذا المعنى الذي قرره العلماء بتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة عند التعارض يتوافق مع القواعد التي وردت في مجلة الأحكام العدلية في هذا الموضوع: فنص المادة 26: يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. والمادة 27: الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف. والمادة 28: إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما (2).
(1) المدخل الفقهي العام للزرقا 1/ 248
(2)
درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/ 36 - 37
رابعا: جعل الإسلام توزيع الثروة يقوم على أساسين: العمل والحاجة (1)، فكل من يعمل عملا مباحا يملك ثمرة عمله وإن زادت عن حاجته تلبية لغريزة حب التملك وتشجيعا على العمل. وإذا لم يستطع الإنسان تأمين ضرورياته وحاجاته عن طريق العمل فإن الدولة تعينه على تأمين ضرورياته وحاجاته وذلك ضمانا لحد الكفاية لكل فرد في المجتمع الإسلامي، ويظهر ذلك في النقاط التالية:
الأولى: أوجب الله سبحانه نفقة القريب الفقير على قريبه الغني، قال تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (2)، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} (3)، وقال تعالى {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} (4)
(1) اقتصادنا لمحمد باقر الصدر ص348، المنهج الإسلامي في التنمية للدكتور يوسف إبراهيم يوسف ص379 - 380
(2)
سورة الإسراء الآية 26
(3)
سورة النحل الآية 90
(4)
سورة النساء الآية 36
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة. قال: نعم. أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال فذلك لك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم (4)» . وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قاطع رحم (5)» «وقال عليه الصلاة والسلام لمن سأله من أبر؟ قال أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك حق واجب ورحم موصولة (6)» فهذه الأدلة وغيرها مما ذكره العلماء يفيد وجوب النفقة لأن الله سبحانه سمى ما ينفق " حقا" وأضافه إلى الفقير بقوله: حقه وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حق واجب. ولا معنى لصلة الرحم بغير النفقة على المحتاج منهم.
وقد نص الفقهاء على أن حد هذه النفقة الكافية قال الكاساني: "وأما بيان مقدار الواجب من هذه النفقة فنفقة الأقارب مقدرة بالكفاية بلا خلاف لأنها تجب للحاجة فتقدر بقدر الحاجة وكل من وجبت عليه نفقة غيره يجب عليه له المأكل والمشرب والملبس والسكنى والرضاع إن كان رضيعا لأن وجوبها للكفاية لأن الكفاية تتعلق بهذه
(1) سورة محمد آية 22 - 24. والحديث رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها 4/ 1981
(2)
سورة محمد الآية 22 (1){فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
(3)
سورة محمد الآية 23 (2){أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}
(4)
سورة محمد الآية 24 (3){أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
(5)
رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها 4/ 1981
(6)
رواه أبو داود في كتاب الأدب باب في بر الوالدين 4/ 446. ورجاله ثقات. انظر تعليق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط على هذا الحديث في زاد المعاد 5/ 543
الأشياء فإن كان للمتفق عليه خادم يحتاج إلى خدمته تفرض أيضا لأن ذلك من جملة الكفاية) ودليل ما ذهب إليه الفقهاء بأن حد النفقة الكفاية: قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان عندما شكت له أن زوجها رجل شحيح فقال لها صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وبنيك (1)» وقد أعطى الحنابلة الحق للمرأة أن تأخذ من مال زوجها ما يكفيها ويكفي ولدها واعتبروا هذا حقا ثابتا لها لا يحتاج إلى قضاء القاضي. وقوله صلى الله عليه وسلم لقبيصة: «إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا (2)» . فإن معنى " القوام من
(1) رواه مسلم في كتاب الأقضية باب قضية هند 3/ 1338
(2)
رواه مسلم في كتاب الزكاة باب من تحل له المسألة 2/ 722. والحمالة: المال الذي يتحمله الإنسان أي يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البين. حتى يصيبها ثم يمسك: أي إلى أن يجد الحمالة ويؤدي ذلك الدين ثم يمسك نفسه عن السؤال. الجائحة: الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة. اجتاحت: أهلكت. قواما من عيش: سدادا من عيش: بمعنى واحد وهو ما يغني من الشيء وتسد به الحاجة. انظر تعليق محمد فؤاد عبد الباقي على صحيح مسلم 2/ 722
العيش " والسداد من العيش " أن يعطي الفقير ما يسد به حاجته ويخرجه من الحاجة إلى الغنى (1).
الثانية: أوجب الله سبحانه الزكاة في مال الأغنياء واعتبرها حقا للفقراء. قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) والمراد بالصدقة في الآية الزكاة كما قال ابن عباس وعكرمة (3) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (4){لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (5). قال القرطبي: " يريد الزكاة المفروضة قاله قتادة وابن سيرين، وقال مجاهد سوى الزكاة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس صلة رحم وحمل كل. والأول أصح لأنه وصف الحق بأنه معلوم وسوى الزكاة ليس بمعلوم إنما هو على قدر الحاجة وذلك يقل ويكثر "(6) وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ عندما بعثه إلى اليمن: ". .؟ «فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم (7)» .
الثالثة: أوجب الشارع على العاقلة أن تتحمل مع قريبها ما يلحقه من التزامات مالية كدية القتل الخطأ، وقد ثبت «أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل دية الخطأ على العاقلة (8)» .
الرابعة: أمر الشارع المضيف إكرام ضيفه. فقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته. قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال:
(1) الأموال لأبي عبيد ص746 - 750، المحلي لابن حزم 6/ 452، المجموع للنووي 6/ 203.
(2)
سورة التوبة الآية 103
(3)
تفسير القرطبي 8/ 244
(4)
سورة المعارج الآية 24
(5)
سورة المعارج الآية 25
(6)
تفسير القرطبي 18/ 291
(7)
رواه البخاري في كتاب الزكاة وجوب الزكاة 2/ 108.
(8)
ثبت هذا في صحيح البخاري كتاب الديات باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد 8/ 46.
يومه وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه (1)» وقال: صلى الله عليه وسلم: «إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لكم (2)» والراجح أن الضيافة غير واجبة وإنما هي من مكارم الأخلاق، قال الشوكاني (قال الخطابي: إنما كان يلزم ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم حيث لم يكن بيت مال، وأما اليوم فأرزاقهم في بيت المال لاحق في أموال المسلمين وقال ابن بطال: قال أكثرهم: إنه كان هذا في أول الإسلام حيث كانت المواساة واجبة وهو منسوخ بقوله: جائزته كما في حديث الباب (3) وقال: (قال ابن رسلان: والضيافة من مكارم الأخلاق ومحاسن الدين وليست واجبة عند عامة العلماء خلافا لليث بن سعد فإنه أوجبها ليلة واحدة. وحجة الجمهور لفظ جائزته المذكورة فإن الجائزة هي العطية والصلة التي أصلها على الندب وقلما يستعمل هذا اللفظ في الواجب)(4).
الخامسة: توعد الله بالنار كل من يمنع الماعون. قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (5){الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (6){الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (7){وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (8) والماعون كما قال ابن مسعود وابن عباس: اسم جامع لمنافع البيت كالفأس والقدر والنار وما أشبه ذلك (9).
السادسة: حث الشارع على مبدأ التكافل بين المسلمين، ووجه الأغنياء إلى الإنفاق على الفقراء من أحب المال إليهم، قال تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (10)
(1) متفق عليهما، انظر نيل الأوطار للشوكاني 8/ 175 - 176
(2)
متفق عليهما، انظر نيل الأوطار للشوكاني 8/ 175 - 176.
(3)
نيل الأوطار للشوكاني 8/ 176
(4)
المصدر نفسه 8/ 177.
(5)
سورة الماعون الآية 4
(6)
سورة الماعون الآية 5
(7)
سورة الماعون الآية 6
(8)
سورة الماعون الآية 7
(9)
تفسير القرطبي 20/ 213 - 215.
(10)
سورة آل عمران الآية 92
وكان عليه الصلاة والسلام يؤكد على التكافل بين المسلمين كلما زادت الحاجة إلى ذلك وفي الظروف الصعبة خاصة، وكان صلى الله عليه وسلم يحث ويأمر المسلمين تارة بالتكافل فيما بينهم وتارة يذكر أقواما يتكافلون فيما بينهم في أوقات الشدة مادحا لهم. فعن أبي سعيد الخدري قال:«بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له. قال فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له قال: فذكر من أصناف المال حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل (4)» وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم (5)»
(1) رواه البخاري في كتاب التفسير باب لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون .. 5/ 169 - 170. ورايح أي رايح عليك نفعه. ورويت أيضا رابح
(2)
سورة آل عمران الآية 92 (1){لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(3)
سورة آل عمران الآية 92 (2){لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(4)
رواه مسلم في كتاب اللقطة باب استحباب المؤاساة بفضول الأموال 3/ 1354. وقول أبي سعيد: (فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا) أى متعرضا لشئ يدفع به حاجته
(5)
رواه البخاري في كتاب الشركة باب الشركة في الطعام.3/ 110 ورواه مسلم 4/ 1944 - 1945
وقد أعطى الإسلام الصلاحية لولي أمر المسلمين أن يجمع من الناس فضل أزوادهم وأن يوزعها على من بلغت بهم الحاجة مبلغا شديدا بحيث إنهم لا يملكون شيئا من الطعام، فعن سلمة رضي الله عنه قال:«خفت أزواد القوم وأملقوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم، فأذن لهم فلقيهم عمر فأخبروه فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم. فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ما بقاؤهم بعد إبلهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم (1)» .
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين على التكافل فيما بينهم بالبذل والصدقة على الفقير وبين في أحاديث صحيحة أن الصدقة لا تنقص المال بل تبارك فيه، وأن الذي يبقى حقيقة للإنسان هو ما تصدق به. فقال صلى الله عليه وسلم:«ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله (2)» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة: اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله. فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته. فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال فلان، للاسم الذي سمع في السحابة. فقال له: يا عبد الله لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها؟ فقال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه (3)» وعن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال " بقي كلها غير كتفها (4).
(1) رواه البخاري في كتاب الشركة باب الشركة في الطعام.3/ 109
(2)
رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب استحباب العفو والتواضع 4/ 2001
(3)
رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق باب الصدقة في المساكين 4/ 2288 والحديقة: القطعة من النخيل. وتطلق على الأرض ذات الشجر. وتنحى أي قصد. والحرة: أرض بها حجارة سود كثيرة. الشرجة: جمع شراج وهي مسايل الماء في الحرار. والمسحاة: المعول.
(4)
رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع 4/ 644 وقال حديث صحيح
السابعة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتكفل عيال الميت بالنفقة ويؤدي عنه الدين. فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل هل ترك لدينه فضلا. فإن حدث أنه ترك وفاء صلى وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته (1)» وفي رواية أخرى «والذي نفس محمد بيده إن على الأرض من مؤمن إلا أنا أولى الناس به. فأيكم ما ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه، وأيكم ترك مالا فإلى العصبة من كان (2)» وقوله: "فأيكم ما ترك " ما هذه زائدة. والضياع أي أولادا أو عيالا ذوي ضياع يعني لا شيء لهم.
وخلاصة القول في مسألة التكافل بين المسلمين أنه يجب على الأغنياء في كل بلد أن يقوموا بفقرائهم بمقتضى حق الأخوة الإسلامية وللأدلة التي ذكرتها من الكتاب والسنة. بل يجب على أهل كل حي أن يقوموا بفقرائهم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ". . . «وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله (3)» .
ولذلك «لما قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نهيت أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث فقال صلى الله عليه وسلم: إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا (4)» فانظر كيف نهى عليه الصلاة والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة فإن الوضع لم يكن يحتمل ادخار اللحم في الوقت الذي يوجد فيه عدد كبير من الناس الذين قدموا المدينة ولا يوجد عندهم ما يأكلون. وفي السنة التي بعدها أذن لهم عليه الصلاة والسلام بادخار لحوم الأضاحي لعدم وجود حالة ملحة تستوجب النهي عن ادخار اللحم والعلة
(1) رواه البخاري في كتاب النفقات باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من ترك كلا أو ضياعا فإلي 6/ 195
(2)
رواه مسلم في كتاب الفرائض باب من ترك مالا فلورثته 3/ 1238.
(3)
جزء من حديث رواه أحمد في مسنده وقال أحمد شاكر إسناده صحيح. انظر المسند بتحقيق أحمد شاكر 7/ 58 - 60
(4)
جزء من حديث رواه مسلم في كتاب الأضاحي باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي 3/ 1561. والدافة: قوم يسيرون جميعا سيرا خفيفا. ودافة الأعراب: من يرد منهم المصر والمراد هنا من ورد من ضعفاء الأعراب للمواساة