الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الكلام على المعادن]
«1»
فنقول لابد من تقديم مقدمة قبل الكلام على المعادن تكون كالتوطئة لما سنتكلم عنه من بعد.
لا شك أن الأجسام المتولدة إما أن تكون نامية أو لا تكون، فإن لم تكن فهي المعدنيات، وإن كانت نامية فإما أن يكون لها قوة الحس والحركة أو لا؛ فإن لم تكن فهي النبات، وإن كانت فهي الحيوان.
وزعم كثير من الحكماء أن أول ما يستحيل إليه الأركان الأبخرة والعصارات، والبخار هو ما يصعد من لطائف مياه البحار والآبار والآجام من تسخين الشمس، والعصارات تنجلب في باطن الأرض من مياه الأمطار، وتختلط بالأجزاء الأرضية وتغلظ، وتنضجها الحرارة المستنبطة في عمق الأرض فتصيرها مادة للمعادن والنبات والحيوان، وقد مضى بعض ترتيب ذلك، وهي متصلة بعضها ببعض بترتيب عجيب ونظام بديع لا يعقله إلا العالمون بالله. فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
فأول مراتب الكائنات تراب وآخرها نفس ظاهرة مليكة، فالمعادن أولها متصل بالتراب والماء، وآخرها بالنبات، متصل أوله بالمعادن وآخره بالحيوان، والحيوان متصل أوله بالنبات وآخره (75) بالإنسان [والإنسان] متصل أوله بالحيوان وآخره بالملائكة.
بيان ذلك: إن أول المعادن هو الجص، [والجص] مما يلي التراب أو الملح، [والملح] مما يلي الماء. والجص تراب رملي حصل به بلل من الأمطار فانعقد فصار جصا، والملح ما امتزج بأجزاء سبخة من الأرض فانعقد ملحا، وآخر المعادن مما يلي النبات الكمأة وما شاكلها، وهو يتكون في التراب كالمعدن وينبت في مواضع ندية أيام الربيع من الأمطار وأصوات الرعد كما ينبت النبات، ففيها شبه
من المعدنيات لكونها لا ورق لها ولا ثمر، وتشبه النبات لكونها نامية كما ينمو النبات.
وأما النبات فأوله متصل بالمعدنيات وآخره بالحيوان، أما أوّله وأدونه مما يلي التراب فخضراء الدمن والكمأة، وآخرها وأشرفها مما يلي الحيوان النخل لأن خضراء الدمن ليس إلا غبار يتلبد من الأرض، تصيبها بلل الأمطار، فتصبح بالغدوات خضراء كأنها حشيش. فإذا أصابها حر الشمس جفّت، ثم تصبح من الغد مثل ذلك من نداوة الليل وطيب النسيم. ولا تنبت الكمأة ولا خضراء الدمن إلا في زمن الربيع، فأحدهما نبات معدني، والثاني معدن نباتي. وأما النخلة فإن أحوالها مباينة لأحوال النبات لأن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث، ولفحولته في إناثه لقاح كما في الحيوان، وإذا قطع رأس النخلة يبست وبطل نموها كالحيوان. وبهذا الاعتبار، وما تقدم في صفة النخلة، وكونها تشبه الآدمي من الوجوه المتعددة المتقدمة، بأن النخلة نبات حيواني.
وأما الحيوان فأوله يشبه النبات، لأن أدنى الحيوان ما ليست له إلّا حاسة واحدة من الحواس الخمس، وهي اللمس، [و] هو الحيوان المسمى بالحلزون وهو دودة في جوف أنبوبة حجرية توجد في السواحل، وتلك الدودة تخرج نصف بدنها من جوف تلك الأنبوبة وتنشط يمنة ويسرة تطلب مادة تتغذى بها، فإذا أحست برطوبة أو لين انبسطت، وإن أحست (76) بصلابة انقبضت ودخلت في جوف الأنبوبة حذرا من مؤذ لجسمها، وليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم إلا اللمس فقط، وهذا حال أكثر الديدان المتولد [ة] من الطين، فهذا حيوان نباتي لأنه ينبت جسمه كما ينبت النبات.
وأما مرتبة الحيوان الذي يلي الإنسان فالقرد، لأن شكل جسده قريب من جسد الإنسان، ونفسه تحاكي أفعال النفوس الإنسانية؛ وكذلك الفرس الجواد،
فإن الخيل الأصايل لها ذكاء وحسن أدب وكرم أخلاق، فربما لا تروث ما دام الملك راكبا عليها، ولها إقدام في الهيجاء وصبر على الطعن. وكذلك الفيل فإنه يفهم الخطاب، ويمتثل الأمر والنهي على ما سبق وصفه «1» كالإنسان العاقل.
وأما مرتبة الإنسانية التي تلي الحيوان، فإن أدنى مرتبة الإنسان رتبة الذين لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا يرغبون إلا في زينة الدنيا ولذاتها من الأكل والشرب والنكاح. قال تعالى في تشبيههم بالحيوان (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) فهم يرتعون في الدنيا كالخنازير والحمر، ويدخرون ما يحتاجون إليه كالنمل، ويتهارشون على حطام الدنيا كالكلاب على الجيف، فهؤلاء وإن كانت صورهم صور الإنسان فإن أفعال نفوسهم حيوانية.
وأما مرتبة الإنسان «2» التي تلي الملائكة، فهي مرتبة الذين انتبهت نفوسهم من الغفلة، وانفتحت منهم أعين البصيرة حتى نظرت بأنوار قلوبها ما غاب عن حواسها، وشاهدت بصفاء جواهرها عالم الأرواح الملائكة، وتبين لها سرورهم ونعيمهم، فرغبت في ذلك، وزهدت في نعيم الدنيا، وأقبلت على تحصيل الآخرة، فهم من أصناف الملائكة مع خلطتهم لأبناء جنسهم من الآدميين، فإذا علمت هذه المقدمة وفهمتها علمت أن ذلك بتقدير حكيم عليم، رتبها ترتيبا حكيما، وأبرزها إبرازا عليما، ذلك تقدير العزيز العليم.
أما أقسام المعدنيات (77) فهي كما ذكرنا أجسام متولدة من الأبخرة والأدخنة المحتبسة في الأرض إذا اختلطت على ضروب من الاختلاطات، مختلفة في الكم والكيف؛ وهي إما قوية التركيب أو ضعيفة التركيب. والقوية التركيب إما متطرفة وغير متطرفة؛ والمتطرفة هي الأجساد السبعة التي يقال لها
الفلزات، وهي الذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد والأسرب والخارصيني؛ وغير المنطرقة فقد يكون في غاية اللين كالزئبق، وقد تكون في غاية الصلابة كالياقوت. وهي إما تنحل بالرطوبات، وهي الأجسام الملحية كالزاج والنوشاذر، وإما أن لا تنحل فهي الأجسام الدهنية كالزرنيخ والكبريت.
والأجساد السبعة إنما تتولد من اختلاط الزئبق والكبريت على اختلاف اختلاطهما في الكم والكيف. والزئبق يتولد من أجزاء مائية أرضية، فإذا أنضجتها الحرارة القوية صار كالدهن. وأما الأجسام الصلبة الشفافة فإنها تتولد من مياه عذبة وقفت في معادنها بين الحجارة الصلدة زمانا طويلا حتى غلظت وصفت وأنضجتها الحرارة في المعدن بطول مكثها، وأما غير الشفافة فمن الماء والطين إذا امتزجا وكانت فيهما لزوجة وأثرت فيهما حرارة الشمس في المدة الطويلة. وأما الأجسام المنحلة بالرطوبات فمن مياه مختلطة بأجزاء أرضية محترقة يابسة اختلاطا شديدا.
وأما الأجسام الدهنية فمن الرطوبات المحتقنة في باطن الأرض إذا احتوت عليها حرارة المعدن حتى تحللت واختلطت بتربة البقاع فازدادت غلظا وصارت كالدهن.
وزعموا أن الذهب لا يتولد إلا في البراري الرّملة والجبال والأحجار الرخوة، وأما الفضة والنحاس والحديد وأمثالها فإنها لا تتولد إلا في أجواف الجبال والأحجار المختلطة بالتراب اللين. والكبريت لا يتولد إلا في الأراضي الندية والرطوبات الدهنية والأملاح فيتولد في الأراضي السبخة والبقاع المالحة. والجص (78) لا يكون إلا في الأراضي اللينة السبخة. والأسفيداج لا ينعقد إلا في الأرض الرملة المختلط ترابها بالجص. والزاجات والشبوب لا تتكون إلا في التراب العفن الناشف، وعلى هذا القياس حكم سائر الجواهر والأحجار، وكل واحد منهما ببقعة من البقاع، وتولد من خواص تلك البقعة. وهي مع كثرة أفرادها داخلة تحت ثلاثة أنواع، الفلزات والأحجار والأجسام الدهنية. فلنأت بالكلام