الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثنايا السطور والكلمات، حتى تجمعت لدى منها الكثير، فأصبح العمل فيها عسيرًا، فلم أبالي لذلك، وأخذت بترتيبه وتنسيقه حتى غدا كالدرر البهية، وكالأزهار الزهية.
منهاج العمل في الكتاب
كنت قد عزمت أن أضمن مقدمه كتابي هذا مبحثًا عن حقيقة البدعة -أحكامها وأصولها- فوجدت نفسي أمام مبحث طويل وعريض يحتاج لمجلدةً أو أكثر، وقلت في نفسي: إن طرق هذا الموضوع بالصورة التي كانت في مخيلتي سوف تطل من مادة الكتاب، وتخرجه عن مقصودنا، سيما أن هذا الموضوع قد أشبع بحثًا وعرضًا، ولو لم يكن في الباب إلا كتاب "الاعتصام" للشاطبي لكفى، فقد أصل فيه أصولها، وقعّد فيه قواعدها، وكل من صنف بعده في هذا الباب إما مقتبس منه أو ناقل عنه.
لذا رأيت أن أذكر كل ما يتعلق بموضوع البدعة -أصول وفروع- في باب البدعة من حرف الباء، فكنت أنقل موضوع البدعة من الكتاب الذي أستخرجها منه بنصه أو معناه، ثم أعقبها بالإشارة إلى رقم الجزء والصفحة منه وهكذا.
• قمت بترتيب كلمات الكتاب على نسق حروف المعجم فرددت كلماته إلى أصلها، وجردتها عن زوائدها، ثم رتبتها على حسب أول حرف منها، إلا أنني خرجت أحيانًا عن هذا الترتيب، فجعلت لها إحالات تُصْلح ما خرج عن هذا التبويب، فخرج بذلك عن حيز الإشْكال والإعضال، واستقر بعد ذلك في ميزان الاعتدال، وأصبح سهل المنال بين
أيدي الرجال، فالحمد لله الذي رفع بِمَنِّهِ عنا الأصر والاغلال.
• بعد ذلك ذكرت البدعة إما بنصها أو بمعناها، وعقبتها بذكر المصادر والمراجع التي استخرجتها منها مع الإشارة إلى رقم الجزء والصفحة وهكذا، وهذه من مميزات الكتاب التي وفرت مادةَ غزيرة وعزيزة للباحث والطالب، وهوّنت عليه الكثير من المصاعب والمتاعب، فما عليه إلا أن يستخرج البدعة وحينئذ يجد موضوعه سهل المنال، من غير عنت ولا تعب للبال.
• والبدعة التي تحتمل أكثر من معنى قمت بتكريرها حسب الموضوع التي تندرج تحته، وأحيانًا أتبعها بإحالة أقول فيها: انظر كذا وكذا، من غير إعادة ولا تكرار لها.
• ضمنت كتابى هذا ذكر الكتب التي احتوت على البدعة، ودعت إليها، وذلك تحت حرف الكاف؛ لكي يكون المسلم على حذر منها، فلا يقع في حبائل مصايدها، وهذا لا يعني أن كل من ذكرنا له كتابًا في هذا الباب أن كتابه لا يخلو من نفع وفائدة، إلا أن البدعة قد خالطت ذاك النفع فاختلط الحابل فيها بالنابل والغث بالسمين، كما وقع ذلك في كتب الغزالي وغيره.
• ضمنت كتابي هذا كل ما قيل فيه إنه بدعة فدخل فيه جملة من المعاصي التي أطْلق عليها مسمى البدعة، وقد كان لي وجه في ضمها لمصنفي هذا، فمن المعلوم أن البدعة تتباين وتختلف في مراتبها، إذْ أنها ليست على رتبة واحدة، لهذا قال الشاطبي في "الاعتصام" (2/ 36 - 37):
بعدما ذكر أقسام الأحكام الخمسة ما مفاده:
"فإذا خرج عن هذا التقسيم ثلاثة أقسام: قسم الوجوب، وقسم الندب، وقسم الإباحة. انحصر النظر فيما بقى وهو الذي ثبت من التقسيم، غير أنَه ورد النهى عنها على وجه واحد، ونسبته إلى الضلالة واحدة. في قوله: "إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النَّار" وهذا عام في كل بدعة، فيقع السؤال: هل لها حكم واحد أم لا؟
فنقول: ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة، نخرج عنها الثلاثة، فيبقى حكم الكراهية وحكم التحريم، فاقتضى النظر انقسام البدع إلى القسمين، فمنها بدعة محرمة، ومنها بدعة مكروهة، وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات لا تعدو الكراهة والتحريم، فالبدع كذلك هذا وجه.
ووجه ثان: أن البدع إذا تُؤُمِّلَ معقولها وجدت رتبها متفاوتة؛ فمنها ما هو كفر صراح، كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن، كقوله {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} الآية، وقوله تعالى:{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} ، وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال، وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح.
ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر، أو يختلف: هل هي كفر أم لا؟ كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الطرق الضالة.
ومنها ما هو معصية ويتفق على أنها ليست بكفر: كبدعة التبتل والصيام قائمًا في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع.
ومنها ما هو مكروه
…
كالاجتماع للدعاءِ عشية عرفة، وذكر السلاطين في خطبة الجمعة -على ما قاله ابن عبد السلام الشافعي- وما أشبه ذلك.
فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة؛ فلا يصح مع هذا أن يقال: إنها على حكم واحد، هو الكراهة فقط، أو التحريم فقط.
وجه ثالث: أن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات، فإن كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر، وإن وقعت في التحسينات فهي أدنى رتبة بلا إشكال، وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين.
إذا كان كذلك: فالبدع من جملة المعاصي، وقد ثبت التفاوت في المعاصي، فكذلك يتصور مثله في البدع. فمنها ما يقع في الضروريات (أي أنه إخلال بها) ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات، ومنها ما يقع في رتبة التحسينيات، وما يقع في رتبة الضروريات، منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل أو العقل أو المال.
فمثال وقوعه في الدين: ما تقدم من اختراع الكفار وتغييرهم ملة إبراهيم عليه السلام، من نحو قوله تعالى:{مَا جَعَلَ الله مِنْ بَحِيْرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} فروي عن المفسرين فيها أقوال كثيرة، وفيها عن ابن المسيب أن البحيرة من الإبل هي التي يمنح درها للطواغيت، والسائبة هي التي يسيبونها لطواغيتهم، والوصيلة هي الناقة تبكر بالأنثى ثم تثنى
بالأثثى، يقولون: وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر، فيجعلونها لطواغيتهم، والحام هو الفحل من الأبل كان يضرب الضراب المعدودة؛ فإذا بلغ ذلك قالوا: حمى ظهره، فيترك فيسمونه الحامي.
وحاصل ما في هذه الآية تحريم ما أحل الله على نية التقريب به إليه، مع كونه حلالًا بحكم الشريعة المتقدمة. ولقد همَّ بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرموا على أنفسهم ما أحل الله، وإنما كان قصدهم بذلك الانقطاع إلى الله عن الدنيا وأسبابها وشواغلها، فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .
وهو دليل على أن تحريم ما أحل الله -وإن كان بقصد سلوك طريق الآخرة- منهيٌّ عنه. وليس فيه اعتراض على الشرع ولا تغيير له، ولا قصد فيه الابتداع، فما ظنك به إذا قصد به التغيير والتبديل كما فعل الكفار؛ أو قصد به الابتداع في الشريعة وتمهيد سبيل الضلالة؟ " انتهى.