الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب نزول الآية (32):
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} .. {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ.} .:
أخرج الواحدي والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم: عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير: هو صدّيق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
«كذبت اليهود، ما من نسمة يخلقه الله في بطن أمه إلا ويعلم أنه شقي أو سعيد» ، فأنزل الله عند ذلك هذه الآية:{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} .
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه العليم بما في السموات والأرض، وأنه يجازي عباده بعدله، فيثيب المحسن بالجنة، ويعاقب المسيء بالنار، ذكر أنه قادر على ذلك، فهو مالك العالم العلوي والسفلي يتصرف فيهما بما شاء، وهو يجازي على وفق علمه المحيط بكل شيء، ثم ذكر أوصاف المحسنين، وأخبر أنه جواد كريم واسع المغفرة لمن يشاء من عباده.
التفسير والبيان:
{وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، لِيَجْزِيَ 1 الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} أي إن الله تعالى مالك السموات والأرض، وأنه الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل، وقد خلق الخلق بالحق، وجعل عاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي كلاّ بعمله، بحسب علمه المحيط بكل شيء، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فإن كان العمل خيرا، كان الجزاء خيرا، وإن كان شرا كان الجزاء شرا. فتكون لام {لِيَجْزِيَ} لام العاقبة.
(1)
قال الواحدي: اللام للعاقبة أو الصيرورة، كما في قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 8/ 28] أي أخذوه وعاقبته أنه يكون لهم عدوا.
قال ابن الجوزي في تفسيره: والآية إخبار عن قدرته وسعة ملكه، وهو كلام معترض بين الآية الأولى، وبين قوله:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا} لأنه إذا كان أعلم بالمسيء وبالمحسن، جازى كلاّ بما يستحقه، وإنما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع الملك.
ثم ذكر الله تعالى صفات المتقين المحسنين، فقال:
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} أي إن المحسنين هم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب كالشرك والقتل وأكل مال اليتيم، وعن الفواحش كالزنى، والكبائر: كل ذنب توعد الله عليه بالنار، والفواحش:
ما تناهي أو تزايد قبحه عقلا وشرعا من الكبائر، مما كان فيه الحد. ولكن لا يقع منهم إلا اللمم أي صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال كالنظرة الحرام والقبلة.
أخرج أحمد والشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تمنّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» .
فإن اقترفوا اللمم تابوا ولم يعودوا إلى مثله.
ونحو الآية قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء 31/ 4].
وقد ورد في الصحيحين عن علي رضي الله عنه تحديد الكبائر بسبع:
«اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله تعالى، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقد أوصلها الحافظ الذهبي في كتابه (الكبائر) إلى سبعين. وروى الطبراني عن ابن عباس أن رجلا قال له: الكبائر سبع،
فقال: هي إلى سبع مائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
ثم فتح الله تعالى باب الأمل ومنع اليأس بقوله:
{إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ} أي إن رحمة الله وسعت كل شيء، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها، كما قال تعالى:{قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر 53/ 39].
ثم أكد الله تعالى علمه بالأشياء كلها، فقال:
{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ} أي إن الله بصير بكم، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستصدر منكم، حين ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم من التراب، واستخرج ذريته من صلبه، وحين صوركم أجنة في أرحام أمهاتكم، وتعهدكم بالنمو والتكوين في أطوار مختلفة. والجنين: هو الولد ما دام في البطن، وفائدة قوله:{فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ} التنبيه على كمال العلم والقدرة، فإن بطن الأم في غاية الظلمة، ومن علم بحال الجنين فيها لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد.
{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى} أي لا تمدحوا أنفسكم، ولا تبرّئوها عن الآثام، ولا تثنوا عليها بإعجاب أو رياء، ولا تدّعوا الطهارة عن المعاصي، بل احمدوا الله على الطاعة، واحذروا المعصية، فالله هو العليم بمن اتقى المعاصي.
ونظير الآية قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء 49/ 4].