الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ} أي نحن جعلنا هذه النار تذكركم حر نار جهنم الكبرى، ليتعظ بها المؤمن، ونفعا للمسافرين وأهل البادية النازلين في الأراضي المقفرة.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقالوا:
يا رسول الله، إن كانت لكافية فقال:«إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» .
وخصص المقوون، أي المسافرون بالذكر، لشدة حاجتهم إلى النار، وإن كان ذلك عاما في حق الناس كلهم، لما
رواه الإمام أحمد وأبو داود عن رجل من المهاجرين من قرن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون شركاء في ثلاثة: النار، والكلأ، والماء» .
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي نزّه ربّك العظيم الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة، فخلق الماء الزلال العذب البارد، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا كالبحار والمحيطات، وخلق النار المحرقة، وجعل ذلك مصلحة للعباد ومنفعة لهم في معاشهم، وزجرا لهم في المعاد. وفائدة هذا أنه تعالى لما ذكر حال المكذبين بالحشر والوحدانية، وذكر الدليل عليهما بالخلق والرزق، ولم يفدهم الإيمان، أمر الله نبيّه بأن يعنى بوظيفته وهي إكمال نفسه، بعلمه بربّه، وعمله لربّه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أثبت الله تعالى قدرته على البعث والحشر والنشر بدليلين هنا: دليل الخلق، ودليل الرزق.
أما دليل ابتداء الخلق: فيشمل خلق الذوات وخلق الصفات، أما خلق الذوات فهو النشأة الأولى بالخلق من النطفة، ثم من العلقة، ثم من المضغة، دون أن نكون شيئا، من طريق التزاوج بين الذكر والأنثى، والتقاء نطفتي الرجل
والمرأة، ثم القرار في الأرحام، والمرور بأطوار الخلق إلى أن يكتمل الإنسان بشرا سويا تام الخلق. وإذا أقرّ الناس بأن الله هو خالقهم لا غيرهم، فعليهم الإقرار والاعتراف بالبعث.
والله سبحانه هو الذي يقدر على الإماتة، والذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث.
والله عز وجل قادر على خلق الأجيال، جيلا بعد جيل، وتجديد صفات المخلوقات وأحوالهم، وصورهم وهيئاتهم، والقادر على ذلك قادر على الإعادة.
جاء في الخبر: «عجبا كل العجب للمكذّب بالنشأة الأخرى، وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدّق بالنشأة الأخرى، وهو لا يسعى لدار القرار»
(1)
.
وأما دليل الرزق فيشمل المأكول والمشروب وما به إصلاح المأكول. فذكر تعالى المأكول أولا لأنه الغذاء، بطريق الاستفهام المراد به الطلب، وهو أخبروني عما تحرثونه من أرضكم، فتطرحون فيها البذر، أأنتم تنبتونه وتحصّلونه زرعا، فيكون فيه السنبل والحبّ، أم نحن نفعل ذلك؟ وإنما منكم البذر وشقّ الأرض، فإذا أقررتم بأن إخراج السّنبل من الحبّ ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟ وأضاف الحرث إلى العباد، والزرع إليه تعالى، لأن الحرث فعلهم وباختيارهم، والزرع من فعل الله تعالى، وإنباته باختياره، لا باختيارهم.
أخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في شعب الإيمان -وضعفه-وابن حبان عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقولن أحدكم: زرعت، وليقل: حرثت، فإن الزارع هو الله» قال أبو هريرة: ألم
(1)
تفسير الألوسي: 148/ 27
تسمعوا قول الله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ؟} . وهذا نهي إرشاد وأدب، لا نهي حظر وإيجاب.
والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة:
{أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ} الآية، ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صل على محمد، وارزقنا ثمره، وجنّبنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، وبارك لنا فيه يا ربّ العالمين. ويقال: إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات: الدود والجراد وغير ذلك.
والله سبحانه قادر أن يجعل الزرع متكسرا هشيما هالكا لا ينتفع به في مطعم ولا زرع، وفي هذا تنبيه على أمرين: أحدهما-ما أولاهم به من النّعم في زرعهم، إذ لم يجعله حطاما ليشكروه، الثاني-ليعتبروا بذلك في أنفسهم، فكما أنه يجعل الزرع حطاما إذا شاء، كذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا وينزجروا.
وإذا جعله الله حطاما لم يجد الإنسان سبيلا آخر للتعويض، فيعجب من ذهاب الزرع، ويندم مما حلّ به، ويقول: إنني لخاسر مغرم، أو لمعذب هالك، محروم مما طلبت من الريع والربح.
ثم ذكر الله تعالى المشروب الذي لا بدّ منه للحياة، والتابع للمطعوم، فهو نعمة عظمي، والله هو الذي أنزله من السحاب، لإحياء النفوس، وإرواء العطش، وإذا عرف أن الله أنزله، فلم لا يشكره العباد بإخلاص العبادة له، ولم ينكرون قدرته على الإعادة؟ والله قادر على أن يجعله ملحا شديد الملوحة، لا ينتفع به في شرب ولا زرع ولا غيرهما، فهلا أيها البشر تشكرون الله الذي صنع ذلك لكم! فهذا دليل آخر على قدرة الله، ونعمة أخرى.
ثم ذكر الله تعالى النار التي بها الإصلاح، فهي أيضا نعمة، والله هو الذي أنشأ شجرتها التي يكون منها الزناد وهي المرخ والعفار، وإذا عرف أن الله هو المخترع الخالق، وعرفت قدرته على خلق الأشياء، فليشكروه ولا ينكروا قدرته على البعث.
ونار الدنيا أيضا موعظة للنار الكبرى، وسبب منفعة وتمتع للمسافرين وكل الناس، فلا يستغني عنها أحد في مرافق الحياة والمعايش، فيها الخبز والطبخ والإنارة والطاقة المولدة لمحركات الآلات الحديثة في البر والجو والبحر، وهذا تذكير بالإنعام الإلهي على الناس.
وما عليك أيها الإنسان بعد إيراد هذه الأدلة والتذكير بهذه النعم إلا أن تنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد، والعجز عن البعث.
ويلاحظ حسن الترتيب في بيان هذه الأدلة، حيث بدأ تعالى بذكر خلق الإنسان، لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم، ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معاشهم وهو الحبّ، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز. وذكر عقيب كل واحد ما يمكن أن يأتي عليه ويفسده، فقال في الأولى:{نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} وفي الثانية: {لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً} وفي الثالثة: {لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً} ولم يقل في الرابعة وهي النار ما يفسدها، بل قال:{نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً} تتعظون بها، ولا تنسون نار جهنم، كما
أخرج الترمذي عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، لكل جزء منها حرها» .